
الرقص والفن لمواجهة الصدمات.. مجموعات نسائية تطلق ورش للعلاج بالفن للناجيات من العنف
بين صوت الطبلة والدف، يتمايل جسدها برقة، ويبكي بحنان مع الناي، ليحتضن نجاته مع القانون. هكذا تعبّر مي بالرقص البلدي عن انسجام روحها وجسدها مع الموسيقى ما بين الفرح والشجن.
لم يكن الرقص لمي عامر، باحثة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا “علم الاجتماع”، مجرد موهبة منذ طفولتها فحسب، بل كان طوق من حزالنجاة نها بعد الطلاق، لتواجه الحياة بمفردها وفي يدها طفلها، فتجد في الرقص فرصة لترميم نفسها وتجديد العلاقة مع جسدها المهدم من علاقة كادت أن تعصف بها.
“شخلعة” وفن وتحرّر من الصدمات..
وسيلة مي للنجاة من اكتئاب بعد الطلاق، ومارينا تجاوزت حادثًا بالرقص، وآية استعادت طفولتها بالتلوين
View this post on Instagram
نرقص للحياة
تتحدّث مي عن تجربتها: “من سنة ونص، مررت باكتئاب بعد طلاقي، وكانت تحدث لي أزمات تنفس، وقرر الأطباء أدوية نفسية، ولكني رفضتها. مكنتش فاهمة عايزة أعمل إيه، ولما جربت أرقص قدام صحباتي، حسيت إني أحسن وأحلى، وبترجعلي ثقتي في نفسي، وهما كمان التجربة خلتهم أحسن وأقوى”.
تروي لـ”شريكة ولكن” كيف بدأن جمع بعضهن لخلق فرقة “شخلعة”: “ابتدينا جمع صحباتنا اللي بيمروا بنفس احتياجاتنا، ونرقص ونعلم بعض. وده كان في كانون الأول/ ديسمبر 2023، وفي كانون الثاني/ يناير 2024”.
تقول: “اتولدت ’شخلعة’ بين مجموعة الصديقات، وكان عددنا 10 راقصات جاهزات نعلن أول عروضنا نتاج لقاءاتنا. العرض كان في 20 نيسان/أبريل 2024، لنساء من دوائرنا الآمنة فقط”.
خلال رحلتها بإجازة إلى مصر، حدثتها صديقاتها عن “شخلعة” وأنها فرصة عمرها لتمارس هوايتها. هكذا تروي جنة محمود، (32 عامًا)، انضمامها كمتدربة إلى المبادرة. بعيونٍ تتراقص بالسعادة تقول لـ”شريكة ولكن”: “انضميت كمتدربة وشاركت في عرضها الأول، وبقيت بالفرقة الأساسية. في ’شخلعة’ اكتشفت ذاتي، ولقيت مساحة من المرح والتواصل مع جسمي، وبنات عندهم نفس الشغف”.
تستهدف مي زيادة القاموس الحركي لدى النساء، واكتشاف أجسادهن للتناغم مع الموسيقى، لمساعدتهن على التواصل وبناء علاقات مع أخريات يعانين من أزمات نفسية. وتلفت: “ابتدينا بـ6 راقصات، ثم 10، وأخيرًا وصلنا لـ102 راقصة. و40 راقصة هيتخرجوا قريبًا. وحاليًا بحضّر في أنثروبولوجيا الفن المصري، واتخصصت في الرقص البلدي في مصر وتونس”.
وفي هذا السياق، يجري العمل على تأسيس شركة تدريبات نسوية تُعد مساحة آمنة للنساء لتعلُّم مختلف أشكال الفنون، ومساعدتهن على تجاوز الصدمات واكتشاف مواهبهن، سواء في الرقص أو التطريز أو التفصيل أو الإضاءة والصوت أو التصوير، بالإضافة إلى فن الحكي. وتُسخَّر هذه المهارات في خدمة الفرقة، حيث يُستخدم التطريز والتفصيل لتصميم أزياء الرقص، وتُنتَج العروض من خلال مهارات الإنتاج المسرحي وإدارة الخشبة، مع دمج الحكي والتمثيل وغيره من أشكال التعبير الفني.
دعم الأهل
أن تضمد جراح امرأة متألمة أو ناجية من العنف، بمثابة صلاة أو دعاء يسندهن. هكذا فعلت الموسيقى والرقص في حياة بعضهن.
قابلت جنة تشجيعًا من أسرتها لانضمامها لتجربة جديدة وجريئة لم يقدم عليها أحد، وسعداء لأنها أصبحت شابة تعبر عن جمالها. تقول جنة: “بشجع صحباتي ينضموا ليها ويعيشوا تجربتي الحلوة، ومتحمسة لشخلعة، متأكدة إنها هتحقق نجاح كبير، خصوصًا إنهم حققوا أثرًا إيجابيًا في حياة الستات المعنفات والناجيات من العنف، وده إنجاز”.
وتشير مي إلى أن “المصريات/ين يعبرن/ون عن مشاعرهن/م بالرقص في الزواج والنجاح والسفر والحج، ومع ذلك يتم وصمه لأسباب سياسية واستعمارية، بتصوير الراقصة في السينما كاللعوبة وزعيمة عصابة، وأن جسدها رخيص، في حين لم تحظَ راقصة الباليه بهذا الوصم، لكنها “عقدة الخواجة”.
“اشتهرت بين العيلة وأصحابي إني بحب الرقص البلدي وشاطرة فيه، وكنت بشترك في حفلات المدرسة”، بحسب مارينا شنودة، (36 عامًا)، مديرة مطبعة. كانت “شخلعة” الضوء الخافت الذي أنقذها من السقوط في دوامة الاكتئاب بعد أن أُصيبت بكسر في الساق، وأثناء متابعتها للفيسبوك صادفها تقرير عن فرقة للرقص البلدي تستقبل هاويات لتعليمهن.
“بشجع صحباتي يحضروا العروض، ولكن بعض الصديقات مينفعش أقولهم، لإنهم شبه المجتمع في انتقادهم لأي ممارسة فيها حرية أو بتعبّر عننا”.
بادرت بمراسلتهن وانضمت للفريق. تقول مارينا لـ”شريكة ولكن”: “الرقص خرجني من معاناة الجبس. في البداية، أهلي كانوا رافضين فكرة إني أروح مكان أرقص فيه، وسألوني عن الخصوصية: هتلبسي إيه؟ طب ممكن حد يصورك؟ وفي النهاية أقنعتهم إني هروح أجرب، وطبعا كانوا متضايقين شوية من مواعيد الورش علشان بالليل، وكنت بقولهم أكيد أنا هخاف على نفسي أكتر من أي حد. في النهاية اقتنعوا، رغم إننا أسرة متدينة”.
وبضحكة عميقة تقول مارينا: “أصحابي عارفين اختياراتي دايمًا مجنونة، وإني بعمل حاجات تدعم حقوقي وحريتي، علشان كده مكانتش مفاجأة أعزمهم على أول عرض رقص أشارك فيه، وبحلم نبقى زي فرقة رضا ونقدر نرقص للناس في أمان”.
لا تختلف ميرا أحمد كثيرًا عن تجربة مارينا، فالشابة التي تعمل معلمة بعمر 37 عامًا، وكانت تحلم بالعمل في الرقص البلدي، وجاءت “شخلعة” نجاة لها من مشاكل نفسية، تقول لـ”شريكة ولكن” عن موقف الأسرة: “ماما بتحب الرقص وشجعتني، واتطمنت لإن العروض للستات بس، وحضرت معايا وكانت منبهرة. وطبعًا حبي للرقص ساعدني أتجاوز أزمتي، وأحس بالسعادة بنفسي وموهبتي وجسدي، وبدأت نفسيتي تستقر لما اتطورت في الأداء. وبشجع صحباتي يحضروا العروض، ولكن بعض الصديقات مينفعش أقولهم، لإنهم شبه المجتمع في انتقادهم لأي ممارسة فيها حرية أو بتعبّر عننا”.
View this post on Instagram
النجاة من الوصم
خروج النساء عن المألوف بتعبيرهن عن حبهن لأجسادهن نضال هام تخوضه كل فتاة.
لن أنسى في طفولتي عشقي للباليه، حين كان/ت المقربون/ات مني يقللن/ون من شغفي بإنني نحيفة لا أصلح للرقص. ومع سنوات النضج أدركت خوف المجتمع من النساء ومن مقاومتهن لمحاولات طمس هويتهن. لذلك، فكل محاولة للصمود والتعبير عن ذواتتنا وخياراتنا، خصوصًا إذا ارتبطت بأجسادنا، ترعب أصوليتهم/ن.
الصدمة هي تجربة مؤلمة لا تستطيع النساء تجاوزها، وتؤثر على صحتهن الجسدية والنفسية، ويتبعها أعراض واضحة مثل النسيان والقلق والاكتئاب والوسواس، وقد تصل لأعراض ذهانية، وفقًا للدكتورة هالة حماد، أخصائية نفسية إكلينيكية، ومسؤولة وحدة الدعم النفسي بمبادرة “مؤنث سالم”.
تقول هالة لـ”شريكة ولكن”: “بعض الصدمات نتيجة لأمراض قاسية مثل السرطان أو حالات فقدان الأحباء والانفصال، يكون العلاج بالفن تكميليًا بجانب العلاج الدوائي، لأنه يمكنهن من التعبير عبر الفنون التعبيرية، ما يزيد تنشيط وعيهن، ويساعدهن على التواصل واسترداد الثقة بالنفس”.
مشاعر بالألوان
بين فنون الرسم والنحت والكولاج “الرسم بالقصاصات”، بدأت شروق رأفت (30 عامًا) استغلال شغفها بمساندة الناجيات من العنف باختلاف أعمارهن وفئاتهن، بإطلاق ورش ومعسكرات للعلاج بالفن. بدأت مشوارها كمتطوعة في مجموعة من المبادرات الشابة، ثم درست العلاج بالفن وحصلت على شهادات من جامعات متخصصة، معتبرة الفن وسيلة عملية لتفريغ الطاقة السلبية والتعبير عن المشاعر.
الهدف المتعارف عليه للفن هو التسلية والمتعة، ولكن حينما يُوجَّه للتعافي، سيساعد الناجيات، ومع ذلك، فإن استخدامه كعلاج يُعد مساحة محفوفة بالمخاطر.
“إنهن ضحايا للضغوط اليومية أو ناجيات من عنف أسري/زوجي”، هكذا تتحدث شروق عن عملها، مضيفة: “المعنّفات والناجيات يُصمم لهن برنامج خاص، ويُقدَّم بشكلٍ يساعدهن على الإحساس بمشاعر أفضل، والاستمتاع بالفن، وحب أنفسهن من دون استعادة الصدمة، والقدرة على التخطّي والتعبير عن أحاسيسهن بالألوان والتشكيل واكتشاف المواهب”.
ولفتت شروق في مقابلة مع “شريكة ولكن” إلى أن مراعاة الناجيات من العنف تتم عبر استخدام لغة أكثر حساسية ومراعاة للخطاب بحيث لا يلمس صدماتهن، ويُكتفى بالحكي بالألوان. والمستفيدات عادةً يعرفن بالورش من خلال السوشيال ميديا، وبعضهن تقوم المؤسسات النسوية بتحويلهن مثل “سوبرومن”.
أهمية دراسة احتياجات الناجيات
الهدف المتعارف عليه للفن هو التسلية والمتعة، ولكن حينما يُوجَّه للتعافي، سيساعد الناجيات، ومع ذلك، فإن استخدامه كعلاج يُعد مساحة محفوفة بالمخاطر.
هكذا ترى آية منير، مؤسسة مبادرة “سوبرومن“، مؤكدة لـ”شريكة ولكن” أن تجربة الرقص لـ”شخلعة” وعلاج القلق التي أطلقتها شروق تستلزم دراسة للتعامل مع الحالات وفقًا لاحتياجاتهن، لأنهن أكثر هشاشة، فالمساس بالصدمة دون وعي له أثر سلبي. ولكن مع الفهم والدراسة، سيكون الفن مساحة نجاة حقيقية.
وتلفت إلى أنه لا يجوز جمع الناجيات من الاغتصاب الزوجي مع المعنّفات أسريًا. ووسط هذا، فالرقص والرسم والنحت وغيرها من الفنون تساعد النساء على البوح والتصالح مع تجاربهن، إذا تمّت بشكل علمي ومدروس.
بعد تعرضها لخلافات أسرية، عانت آية صابر (27 عامًا)، أخصائية تحاليل، من موجة اكتئاب.
تقول لـ”شريكة ولكن”: “فقدت الرغبة في الحياة، وأصبحت أتغيّب عن عملي، وكنت أشاهد تقريرًا تلفزيونيًا عن العلاج بالفن، وكانت شروق تحكي عن فاعليته. تواصلت معها عن طريق الفيسبوك، وحضرت ورش رسم وكولاج، واندمجت لأني كنت أحب التلوين في طفولتي، وشعرت أني أستعيد طاقتي، وتطورت موهبتي، وأفكر في المشاركة بمنتجاتي في المعرض الذي يُجهَّز له مع سوبرومن. وما كان مفيدًا أكثر هو أنني قابلت فتيات كثيرات شجاعات واجهن صدمات صعبة ويحاولن مساعدة أنفسهن”.
قليل من الفن يصلح الروح
أما الرقص، فهو حياة وولادة جديدة تحررهن من قيود المجتمع التي قتلت بداخلهن الجمال والسعادة.
“المعالج النفسي ينصح المريض الذي لا يستطيع التعبير أن يتفاعل مع الفن، وبالرقص يكون الجسم هو كل الأدوات المستخدمة، وبالتالي تخرج كل الطاقة ويتصالح مع نفسه”، هكذا تروي آسيا سليمان، مدربة الرقص بـ”شخلعة”.
تقول: “بدأت كراقصة في فرق خاصة، وانضممت لفرقة رضا، ثم اتجهت لتدريب الفتيات والنساء على تجاوز الصدمات بالتعبير عن أجسادهن”.
تضيف آسيا لـ”شريكة ولكن”: “بدأت النساء يأخذن الرقص كعلاج، وبالتجربة استطاع كثير منهن تجاوز مشاكل عاطفية، وانفصالات، وعدم تقدير للذات، وعدم تقبل أجسادهن وتقييم المجتمع، سواء نحيفات أو سمينات، أو تعليقات من الزوج قللت شعورهن بأنوثتهن، ومع البروفات تبدأ حركتهن تكون أكثر مرونة وانفتاحًا، وكأن أجسادهن أصبحت مضيئة ومتوهجة”.
وعن اليوم التدريبي، تقول شروق: “يتم اختيار موضوع لكل لقاء، ويُنفذ عبر لون واحد من الفنون المستخدمة، مع مرونة في اختيار شكل الفن المحبب، ومحاولة اكتشاف سبب رفضهن لبعض الفنون، وقد يكون هذا بداية العلاج”.
وبجانب أن الفن يمد يده لإنقاذ الناجيات من صدماتهن، فهو أيضًا فرصة لاكتشاف موهبة واستغلالها كفرصة عمل والمشاركة في معارض تُقام بالتعاون مع مؤسسات نسوية. إحداهن بدأت في تنفيذ ماركة خاصة بها وطباعتها على الملابس والأدوات، وأصبحت تُقيم معارض خاصة بها.
كتابة: فاتن صبحي