
اعتذار متأخر لأمي: عن البؤس كيف يصير وصمة عار
لطالما كانت تجربة الطلاق في مجتمعاتنا العربية حكمًا بالإدانة، لا حدثًا طبيعيًا يمر به البشر. إنها وصمة عار عميقة تُلقي بظلالها الكئيبة على حياة النساء، وتُجبرها على تقديم تنازلات مؤلمة تهدر كرامتها وتدوس على كبريائها.
هذا ما عانت منه والدتي طوال حياتها، وتجربتها التي كنت شاهدةً عليها ليست إلا مرآةً تعكس معاناة شريحة واسعة من نساء حُرمن من أصواتهن، من حقهن في التعبير عن ذواتهن، والعيش بكرامة.
كيف تُحاكَم الضحية؟ أمي مثالًا
أتذكر جيدًا وجه أمي، انكسارها، والخوف الذي كان يتملكها من أخي، خصوصًا يوم اضطرت أن تخبرنا أنها خاضت تجربة طلاق مبكرة. قد يبدو خوفها من أخي المراهق قاسيًا وغريبًا، لكنه بالتأكيد يشرح طبيعة مجتمع تتأرجح فيه السلطة لترسو في نهاية المطاف في يد أي ذكر، مهما بلغ عمره.
كان من الصعب على مراهقَين مثلي ومثل أخي فهم هذا التعقيد الهائل في التعامل مع كون أمي قد تزوجت قبل أبي وتطلقت. ولأن كل محيطنا اتفق على كون الأمر سرًّا عائليًا خطيرًا وجب إخفاؤه، بدأنا بالتعامل مع الأمر كسرٍّ أيضًا.
غادرت جدتي منزل جدي عندما كانت أمي في الخامسة من عمرها. كبرت أمي وهي تطبخ وتنظف، وحُرمت من المدرسة بالطبع. اعتنت بأخيها الصغير، فأطعمته، وألبسته، ودرّسته، وسهرت، وغنّت، وألّفت له الحكايا. عملت في الأرض، زرعت وحصدت، وحملت على أكتافها الماء من النبع، ثم الإسمنت لإكمال بناء البيت. وعندما قرر جدي أن عليها أن تتزوج، تزوجت. وعندما قرر أن عليها أن تتطلق، تطلقت. ثم صارت بعدها تلك المرأة التي عيّرها أهلها بطلاقها، ثم زوجها الجديد، وبعده أولادها المراهقون.
أمي التي لم تعرف حضن أمٍّ يومًا، ولم تسمع هدهدةً لتنام، لم تسرق كحلًا ولا أحمر شفاه من حقيبة، لم تهجئ كلمتي “بابا” و”ماما” بفخر، ولم تختر دفترًا ولا قلمًا يومًا، لم تقل “أحبك”، ولم يُقل لها “سأدمّر العالم من أجلك”. وُصمت هي بالعار، بينما تحوّل الجلادون إلى ضحايا يخجلون منها، فصارت امرأة حزينة ومكسورة تخجل من نفسها، تقبل بالقليل، وتشعر أنها لا تستحق شيئًا. وحتى الآن، ما زالت تبكي إذا أحضرنا لها هدية، وتعتقد أننا سنُفلس بسبب ثمنها.
يقول فرويد: “الأنا لا تتكون على انفراد ثم تتصل بالمجتمع، وإنما هي نتيجة للضغط الذي تفرضه مقتضيات الحياة الاجتماعية وضرورتها”، ولذلك، استغرقتُ زمنًا طويلاً لأفهم أن تلك التي خجلت من أمها يومًا، وشاركت في إهانتها بدلًا من مساندتها، لم تكن أنا. وأن الثورة على المفاهيم المجتمعية والتخلص من سمومها يحتاج أكثر بكثير من مجرد الانتماء إلى بيئة تدّعي الانفتاح، الذي لا يتجاوز تتبُّع أحدث صيحات الموضة أو حضور الأعراس المختلطة.
View this post on Instagram
“بحب مرة عمي مع إنها مطلقة”
تتقاطع قصتي مع ابنة حلا التي وجدت نفسها أيضًا مضطرة لإخفاء طلاق أمها خجلًا من نظرة زميلاتها، على الرغم من وجود فاصل زمني يزيد على عشرين سنة بين القصتين.
تروي حلا (36 عامًا) كيف أن ابنة أخ زوجها السابق، التي تتشارك مع ابنتها الصف ذاته، قالت للمعلمة ببراءة تامة: “بحب زوجة عمي كتير رغم إنها مطلقة”. هذه العبارة البسيطة تسببت في إحراج كبير لابنتها، التي وجدت نفسها، ودون أن تدري، تكذّب الأمر بعد أسئلة بنات الصف باستغراب: “عنجد إمك مطلقة؟”.
من الواضح أن هذه الأسئلة وردود الفعل البريئة تفضح أسلوب التفكير الذي يُغرس في الأذهان منذ الصغر، والذي يتطور مع الزمن ليتحول إلى خطاب كراهية صريح يطال كل ما يسبب خللًا في “الشكل العام المقدس”، الذي يكتسب قدسيته فقط من نمطيته.
يؤكد معظم التربويين/ات أننا جزء لا يتجزأ من بيئتنا الاجتماعية، تتشكل شخصياتنا وتتطور منذ الطفولة المبكرة بفعل تفاعلنا معها وتأثرنا بها، وأيضًا بفعل الضغوط التي تمارسها الجماعة على أفرادها حتى يعدلوا من فرديتهم/ن واتجاهاتهم/ن في سبيل الانتظام مع المعايير السائدة. وهكذا، يصبح السلوك الاجتماعي الكاره للمطلقات ليس إلا تماهيًا مع الثقافة السائدة، فكل فردٍ هو في النهاية صورة مصغرة عن مجتمعه.
تتابع حلا حديثها بكثيرٍ من الألم: “”مو ناقص غير مطلقة تعلمني الأدب”، وجدت جارتي بهذه العبارة مخرجًا لتنهي نقاشًا عاديًا دار بيننا، وكأنها تمسك عليّ تهمة تستطيع من خلالها إسكاتي وكسب تأييد كل من حضر النقاش حتى دون سماعي”.
والحقيقة أن وقوف الناس مباشرة ضد المطلقة ليس غريبًا، لأن نمو اتجاهات عنصرية ضد المطلقات لا يحدث بحكم الاحتكاك المباشر بهن، بقدر ما ينشأ نتيجة الاحتكاك مع الاتجاه السائد في المجتمع عنهن. فتصبح هذه العبارات والتصرفات اليومية نتاجًا طبيعيًا لثقافة مجتمعية ذكورية تهمش النساء المطلقات، وتجعلهن يوميًا عرضة للانتهاكات اللفظية والنفسية، وتسلبهن حتى حق الدفاع عن نفسها.
الإعلام وخطاب الكراهية
قدّمت معظم البرامج الثقافية وأغلب المسلسلات الدرامية صورة نمطية للأم المضحية والقديسة، وللأب الراعي والحامي. فالأم دائمًا تستمد مكانتها من مقدار ما تقدمه من تضحيات. وبهذا تتحمل وسائل الإعلام جزءًا لا يستهان به من مسؤولية ترسيخ هذا الوعي الجمعي. يشير الدكتور عيسى الشماس في كتابه التربية العامة إلى أن وسائل الإعلام روافد اجتماعية وتربوية لا يُستهان بها، بما تحمله من مثيرات ومؤثرات فاعلة.
ورغم ما يظهر من انفتاحٍ كبيرٍ في عالم السوشيال ميديا وتواجد المؤثرين/ات والناشطين/ات على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا الانفتاح غالبًا ما يطال الشكل ولا يطال الجوهر أبدًا. فغالبًا ما يحمل هؤلاء المؤثرون/ات الأفكار النمطية نفسها، وخاصة تلك المتعلقة بعمل النساء، والتي إن بدت بعيدة عن موضوعنا، لكنها في الحقيقة تصب مباشرة في إعادة ترسيخ سلطة النظام الأبوي، الذي يستمد معظم قوته من سيطرته المادية على الأسرة. وبذلك، ومن دون وعي، نعود لإنتاج نفس الأفكار لكن بقناع الحداثة والتطور.
“بس لو مانِك مطلقة”
“أنا امرأة مطلقة لدي بنت، تزوجت عامًا واحدًا فقط، ولكن هذا العام كان كفيلاً بأن تصبح جملة (بس لو مانِك مطلقة) أكثر التصاقًا بي من اسمي. في كثير من المرات أشعر أنه لم يعد لي حاجة في الحياة، وحتى عندما يتقدّم لي عريس ويعرف أني مطلقة، يذهب أهله ولا يعودون مرة أخرى. لا أملك أي خيارات في البيئة التي أعيش فيها، حتى الخروج من المنزل ممنوعة منه، والعمل هو حلم مستحيل بالتأكيد. أواجه يوميًا نظرات إخوتي وعبارات زوجاتهم المسممة بالأبوية، دون حتى أن يكون لي حق الدفاع عن نفسي، فأنا دائمًا المخطئة. في كل لحظة، أشعر أن طلاقي من رجل اختاروه ليكون زوجي جلب لي العار إلى الأبد”.
هذه ليست حالة فردية أو قصة شخصية، بل هي الواقع اليومي لعشرات النساء اللواتي يُحاصَرن بوصمة الطلاق، فتُسلب منهن أبسط حقوقهن الإنسانية والاقتصادية. ما يؤكد أن التحكم في حياة النساء المطلقات يمتد ليتجاوز الطلاق نفسه، ليصبح شكلًا من أشكال الوصاية المجتمعية عليها.
والمُدهش أن كل شيء يحيط بنا تطاله عملية تطوير وتغيير، إلا تلك الأفكار التي تنتقل من جيل إلى جيل محافظةً على نفسها بسطوة السلطة الذكورية، التي ترى في التغيير خطرًا، وفي المعرفة تهديدًا للوضع القائم. ولأن الديك يريد أن يصيح وحيدًا على “مزبلته”، تُدمَّر حياة الكثير من النساء في هذا العالم.
النساء “المحترمات”، بنظرهم/ن، هن اللاتي يصبرن ويتحملن من أجل أطفالهن، وأهلهن، وأولاد خالتهن، وعمومتهن، والمصلحة العامة، وحتى من أجل “اللحمة الوطنية” واستقرار المجتمع، ومن أجل “القضية”، أي قضية. لا تُدققن/وا.
في حوار لي مع الباحثة والكاتبة والمترجمة السورية نور حريري، علقت بجملة مهمة في معرض حديثها عن النسوية: “ما يمكن حلّه بسهولة في مستوى الوعي، ليس سهل الحل في مستوى اللاوعي”. هذه الجملة تلخّص التحدي الكبير الذي يواجهنا. فأنا وأنت والكثير من الجادين/ات في تعديل نظرتنا للكوارث التي شكّلتنا، سنحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت والقوة. فنحن هنا نثور على مفاهيمنا الجمعية، ونحاول الخروج من سيطرة “القطيع” التي كوّنت معظم طريقتنا في الحكم والنظر للأمور وإصدار الأحكام. هذا التحدي يتطلب منا فهمًا عميقًا لجذور هذه المفاهيم، والعمل على تفكيكها، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى البُنى الاجتماعية والثقافية التي تُكرّسها.
الجهل المقدس
تؤكد سارة (25 عامًا): “عدتُ إلى بيت أهلي مطلقة مع ولد وبنت، ومنذ ذلك اليوم، وأمي غير قادرة على تقبّلي، تمطرني يوميًا بالإهانات والاتهامات، وتعيد عليّ نفس العبارات القاسية، من قبيل (زوجك وبيت حماكِ لم يتحملوكِ ورموكِ عندي). ليس لدي أي خيارات إلا الصبر وانتظار “عريس””.
هذا هو الجهل المقدس الذي يجعلنا نكره حتى أقرب الناس لنا، لأنهم/ن، ورغمًا عنهم/ن، أحدثوا/ن خروجًا بسيطًا عن النص، عن الصورة المثالية التي ندرك جميعًا أن لا وجود لها
كما أن “الزبون دائمًا على حق”، يسود لدى الكثيرين في مجتمعنا فكرة أن الرجال دائمًا على حق، وهذا ما يمنع كثير من العائلات من دعم بناتهم/ن في حال الطلاق. وفي ظروف قاهرة قد يعترف المجتمع بأخطاء الرجال، لكن هذا لا يعني أبدًا أن النساء يمكنهن النجاة من مصيرهن.
فالنساء “المحترمات”، بنظرهم/ن، هن اللاتي يصبرن ويتحملن من أجل أطفالهن، وأهلهن، وأولاد خالتهن، وعمومتهن، والمصلحة العامة، وحتى من أجل “اللحمة الوطنية” واستقرار المجتمع، ومن أجل “القضية”، أي قضية. لا تُدققن/وا.
إن العقل البشري يميل بشكلٍ طبيعيٍّ إلى الاختصارات الذهنية التي تسهّل عليه حياته وتوفّر عليه عبء التفكير العميق، والذي سيتبعه حتمًا رغبة في التغيير. وهذا التغيير هو إعلان حرب على الجماعة التي تمثل مصدر الأمان والسلام والطمأنينة. لذلك، ليس من السهل على الإطلاق التخلص من ذلك الموروث الهائل من الأحكام المسبقة والتنميطات الثقافية، التي تطال حتى أعمق الروابط الأسرية.
لنتذكر معًا لوحة “الطوفان”، وكيف قرر الرجل فيها أن ينقذ العجوز الذي يمثل الموروث، وترك الطفل الذي يمثل المستقبل، والمرأة التي تمثل الحياة. هذا هو الجهل المقدس الذي يجعلنا نكره حتى أقرب الناس لنا، لأنهم/ن، ورغمًا عنهم/ن، أحدثوا/ن خروجًا بسيطًا عن النص، عن الصورة المثالية التي ندرك جميعًا أن لا وجود لها.
“ولو، شو بيحبوا المبالغة”!
تتفق معظم قصص المطلقات التي قرأناها على عدم وجود خيارات لديهن، وعلى أنهن مضطرات لتحمّل خطاب الكراهية يوميًا. وهذا ما يشير إلى العجز القانوني الموجود في مجتمعاتنا، والذي يفتقر لتشريعات تُجرّم خطاب الكراهية وتفرض عقوبات على إهانة الآخرين. وربما ينبع عدم تركيزنا على نقاط العجز في القوانين من الإيمان بأننا، بقدر حاجتنا إلى القوانين والتشريعات، نحن بحاجة أولًا إلى إصلاح اجتماعي حقيقي وعميق.
“أستطيع بوضوح سماع صوتك، أنت من تقرأ الآن، واضعًا رجلًا على رجل، تهز رأسك، تصفّر وأنت تقول: “ولو، شو بيحبوا المبالغة”.
تشير تجارب دول مثل تونس، على سبيل المثال، إلى أن التشريعات وحدها لا تحل المشكلة بشكلٍ جذري، فتبقى النظرة ذاتها للنساء، وخصوصٍا المطلقات، قائمة في أذهان الناس. خصوصًا أن الاتجاهات المكونة في مرحلة التنشئة الاجتماعية الأولى، تكون من أكثر الاتجاهات مقاومة للتغيير، ونية البدء بإحداث تعديلات على النظام التعليمي غير موجودة في مجتمعات كالمجتمعات العربية، حيث تتشابك المنظمات السياسية والدينية والثقافية بشكلٍ مثيرٍ للعجب ومكرّس للجهل.
في النهاية، أستطيع بوضوح سماع صوتك، أنت من يقرأ الآن، واضعًا رجلًا على رجل، تهز رأسك، تصفّر وتقول: “ولو، شو بيحبوا المبالغة.”
أنت بالذات مدعوٌّ لزيارة أحد غروبات النساء على مواقع التواصل الاجتماعي، مدعوّ لسماع قصص نساء مطلقات فيها العجب. مدعوّ لتعرف أن النساء المطلقات عرضة للتحرش كل يوم، وأن الجميع ينظر إليهن على أنهن لقمة سائغة.
مدعوٌّ للهبوط إلى “كوكب زمرة الأسود”، حيث تمتلك خيارًا واحدًا فقط، لا مجال للخطأ فيه، حيث يتم التعامل مع أي قضية تتعلق بك على أنك أنت بحد ذاتك المشكلة: وجودك، شعرك، صوتك، أنوثتك، قوتك، ضعفك.
هناك، حيث عليك أن تختار الأقل سوءًا، والأقل إهانة، والأقل بُغضًا.