بين الرغبة في الحب والخوف من الاستغلال: ثغرات رقمية وقانونية في تطبيقات المواعدة

منذ فترة قصيرة دخلت تطبيقًا للمواعدة بدافع الفضول، وضعت صورة، كتبت بعض المعلومات عني، وانتظرت. سرعان ما شعرت أنني في مزاد أو متجر رقمي، صورتي معروضة، بينما تمرر عليّ النظرات عبر مسحة إصبع. “الخطّابة” هنا لم تعد امرأة من الحي، بل تطبيق ذكي “يبيع” مستخدميه/اته ضمن خوارزميات مشفرة تخدم سوق الإعلانات، فشعرت أن تجربتي مدمجة بين التسليع وحرّية الاختيار.

25% من مستخدمي/ات تطبيق المواعدة Tender عالميًا هنّ نساء مقابل 75% من الرجال، بحسب تقرير لشركة Business of Apps. ربما حضور النساء الخجول يعود لشعورهن بالخوف من الحكم المجتمعي والوصمة بشكلٍ خاص في المجتمعات العربية أو المجتمعات المحافظة، فالنساء “عيب تبادر” بالحبّ بل عليها الانتظار. أمّا الأخطر فهو الخوف من أن تكون هذه التطبيقات مساحة للتسلط الذكوري على حياة النساء، من خلال الاستغلال العاطفي والمادي لرغبتهنّ في الشعور بالحبّ.

فعلى الرغم من أن هذه التطبيقات تكسر التقاليد لكنها نسخة مرقمنة عن العقلية التقليدية المغموسة بالعادات والموروثات في المجتمع، فالفضاء الرقمي محكوم بنظام أبوي يحاسب النساء على وجودهن حتى في المساحات المفترض أن تكون “حرّة”.

فهل هذه “الخطّابة” الرقمية تمنح النساء والمجموعات المهمشة مساحة آمنة؟ أم أنها تعيد إنتاج واقع التمييز الجندري خلف شاشة صغيرة؟

قوانين غير كافية وواقع أمني هش

لمى، فتاة في منتصف الثلاثينيات من عمرها غير مرتبطة، لجأت إلى تطبيقات المواعدة لكسر الروتين وتوسيع دائرة معارفها على أمل أن تجد شريكًا. تعرّفت على شخص بدا “مثاليًا” بحسب وصفها، تشاركا الاهتمامات وتبادلا الأحاديث لساعات، ما شجّعها على نقل التواصل إلى تطبيق “واتساب”. تطورت العلاقة سريعًا، وأرسلت له صورًا خاصة، لتكتشف أنه مجرم استغل اعجابها به وبدأ يهددها ويبتزها بالصور. قررت لمى أن تُحاسبه وقدّمت بلاغًا بحقه، لكن استخدامه لرقم هاتف أجنبي جعل من الصعب الوصول إليه.

وفي هذا السياق، أكّدت المحامية نور درويش، المتخصصة في قضايا الجرائم الإلكترونية، لـ”شريكة ولكن” أن النيابة العامة ومكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية يتعاملون مع عدد كبير من الشكاوى الرقمية، لكن القدرة على الوصول إلى الجناة محدودة، خاصة في الحالات التي يكون فيها المبتز خارج لبنان أو يستخدم رقمًا غير محلي، كما حدث مع لمى.

وأضافت درويش أنّ: “الضغط كبير، والمتابعة بطيئة، وكثير من الملفات تبقى عالقة لسنوات من دون نتيجة، خاصة عندما تكون الأدلة الرقمية مبعثرة أو غير موثقة بشكل سليم”.

الجدير بالذكر أنّ غياب اتفاقيات دولية مثل اتفاقية بودابست للجرائم السيبرانية، التي لم يصادق عليها لبنان حتى الآن، يعقّد عملية ملاحقة المرتكبين خارج الحدود، ويوفّر بيئة آمنة للمتحرّشين والمبتزّين.

كما شرحت درويش أن الضحية/ الناجية، كي تتمكن من تحريك الدعوى، يجب أن تتوجه بنفسها إلى النيابة العامة وتقدّم شكوى خطية، إذ لا يمكنها القيام بذلك بسرية تامة أو عن بُعد، لافتًا إلى أن للضحية/الناجية الحق في طلب إجراء التحقيق بسرية تامة، وذلك عبر تقديم طلب رسمي إلى القاضي المختص عند بدء إجراءات التحقيق.

تابعت لمى حديثها، مؤكدةً أنها لم تصرّح خلال تقديمها الشكوى إنها تعرفت على المبتز عبر منصّة للمواعدة خوفًا من أن تذكر هذه المعلومة في المحضر وتتحوّل من ضحية إلى “مذنبة” بعيون المجتمع.

وفي ما يتعلّق بتوثيق أدلة الإبتزاز، أوضحت المحامية أن الجريمة الإلكترونية تُعدّ واقعة مادية، ما يعني أنّ إثباتها ممكن بأي وسيلة متاحة. وتنصح أي شخص يتعرّض لهذا النوع من الابتزاز أو التهديد بالاحتفاظ بنسخ من جميع الأدلة: رسائل، صور، تسجيلات صوتية أو مرئية، وأخذ لقطات للشاشة أي الـ Screenshots تتضمّن التواريخ بوضوح، وحفظ هذه الأدلة على أكثر من جهاز.

كما أضافت درويش أنّ: “كلما كانت الأدلة منظمة وموثقة بدقة، زادت إمكانية قبولها من القضاء”.

وفي سياق مرتبط بعدم الأمان خلال التبليغ روت المحامية قصة فتاة وقعت ضحية استدراج من شاب أحبّته بعد تعارف بينهما. انتهت العلاقة بجريمة تخدير واغتصاب تضمنت تصويرًا وابتزازًا. وعلى الرغم من شجاعة الضحية/ الناجية في تقديم شكوى، وتوفر معلومات تمكّن من الوصول سريعًا إلى الجاني، إلا أن الصدمة الكبرى كانت في ردّ فعل المحقّق، الذي قال للمحامية ببرود: “أنتِ مصدّقة هالقصة يا أستاذة؟” عبارة تختصر نظرة منظومة لا تزال تشكّك في روايات النساء وتستخفّ بمعاناتهنّ، فكيف ستشعر النساء بأمان خلال التبليغ؟

 

الخطر يتفاقم لدى أفراد مجتمع الميم

يلجأ أفراد مجتمع الميم عين إلى تطبيقات المواعدة بحكم أنها توفر لهم/لهنّ بيئة آمنة للتعرّف على شريك/ة، لكن عند الاستماع إلى قصص مثل تجربة رامي يظهر أن الخطر يتفاقم من ناحية الابتزاز والخوف من التبليغ عند هذه الفئة.

فرامي، شاب عشريني من مجتمع الميم عين، وصف تجربته عبر تطبيقات التعارف بالـ”كابوس” قائلًا: “تنذكر وما تنعاد”.

تحول الحلم بلقاء حبيبي إلى واقع مؤلم وذلك بعد أن تعرّف إلى شاب عبر تطبيق مخصص لمجتمعه، وشعر بارتياح له، ليتفقا على لقاء بعد بضعة أيام من التعارف.

وفي الليلة المنتظرة، غادر رامي مع صديقه الجديد إلى أن أوصله لطريق مقطوعة. طعنه وسرق كل ما بحوزته من مال، ساعة يد، وحقيبة صغير، ليبقى رامي لوحده في الطريق ينتظر المساعدة. وبعد تعافيه قدم شكوى رسمية بالحادثة، ولكنه لم يذكر طريقة تعرفه على الشاب خوفًا من تجريمه.

فغالبًا ما يتردد المثليون/ات ومزدوجو الميل الجنسي ومغايروي الهوية الجنسانية عن في اللجوء إلى مراكز الشرطة والتبليغ عن ابتزاز أو سرقة تعرضوا/نّ لها عبر تطبيقات المواعدة خوفًا من مواجهة مساءلة بموجب المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني، والتي تستخدم أحيانًا لتجريم الميول الجنسية.

ويخشى أفراد من مجتمع الميم عين كشف هويتهم/ن الجندرية أو ميولهم/ن الجنسية، لما قد يترتب عليه من مشكلات عائلية في حال لم يكن الأهل على دراية، أو الخوف من فقدان علاقات اجتماعية وفرص عمل لذا يفضّل العديد منهم/نّ تقديم الشكوى من دون الإفصاح عن المنصة التي جمعته بالمجرم والبعض الآخر يفضل عدم التبليغ.

قصّة رامي لم تكن الوحيدة، فالعديد من الجرائم قد حصلت عبر استدراج أفراد من مجتمع الميم عين باستخدام هذه التطبيقات بهدف سرقتهم/ن أو ابتزازهم/ن، كما حدث مع شادي الذي استدرجه أحد الأشخاص للقائه من ثمّ ضربه قائلًا له: “عم ربيك بركي هيك بتصير رجال”.

في السياق المتشابك بين الخوف والحاجة لمحاسبة المجرمين، تؤكد الأمم المتحدة أن الشركات المالكة للتطبيقات ملزمة بحماية حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الخصوصية والسلامة الرقمية. من هذا المنطلق، فإن تأمين المحادثات لا يكفي وحده. المطلوب هو وعي عميق بسياقات المستخدمين/ات، وتوفير حماية استباقية وإجراءات أمان حقيقية.

تطبيقات المواعدة مصيدة رقمية؟

لم تستغرق تجربة ميرا مع تطبيقات المواعدة أكثر من 30 دقائق، إذ قررت تحميل أحدها، لكنها سرعان ما شعرت بعدم الارتياح، ووصفت التطبيق بأنه أقرب إلى “الـDark Web” من حيث الأجواء المريبة والغموض. التواصل مع رجال غرباء لم يكن مريحًا لها، وذكّرها ذلك بما شاهدته في وثائقي “محتال تندر”، فاختارت إلغاء حسابها وحذف التطبيق على الفور.

بناءً على تجربة ميرا، أوضحت سمر الحلال، المتخصصة في الأمن الرقمي، لـ”شريكة ولكن” أن غالبية المنصات لا توضّح بشكل شفاف كيف تُخزَّن البيانات، أو أين تُحفظ، وغالبًا ما تكون غير مشفّرة. الأسوأ، بحسب الحلال، أن “بعض التطبيقات  ليست مفتوحة المصدر إذ لا يمكن التحقق من سلوكها البرمجي، ولا تخضع لأي رقابة فعلية، ما يجعل من السهل استغلال الصور أو المعلومات الشخصية في الابتزاز أو الاحتيال”.

وأشارت الحلال إلى أن “الخطر لا يتوقف على سرقة البيانات فقط، بل يشمل أيضًا انتحال الهوية، أو أن تكون هناك عصابات عبر هذه التطبيقات تنشئ علاقة ثقة مع الضحية في البداية، ثم تطلب صورًا شخصية أو ترتب لقاءات في أماكن خاصة قد تنتهي بسرقة أو ابتزاز”، كما حدث مع رامي.

وانطلاقًا من كل القصص السابقة، وفي ظل غياب سياسات واضحة للأمان الرقمي، وغياب رقابة جدية على المنصات الرقمية، قدّمت الحلال، مجموعة من التوصيات التي من شأنها تعزيز شعور النساء وأفراد مجتمع الميم عين بالأمان أثناء استخدام تطبيقات المواعدة.

إذ أوصت المستخدمين/ات بعدم مشاركة صور حساسة أو بيانات مالية وعدم مشاركة الموقع الجغرافي سواء لمكان السكن أو العمل مع أي شخص عبر هذه التطبيقات، مشددةً على الامتناع عن تلبية دعوات اللقاء في أماكن خاصة أو معزولة.

وحذّرت المستخدمين/ات من الروابط التي يتم إرسالها عبر هذه التطبيقات من دون سبب واضح، لا سيما إذا رافقها طلبات مشبوهة مثل إرسال رموز تحقق، لأنها ربما تكون روابط تصيّد إلكتروني أو ما يعرف بالـ Phishing Links الذي يسمح للمخترقين سرقة بيانات الهاتف أو حتى السيطرة عليه بالكامل، مشددةً على أن ظهور مثل هذه الإشارات يجب أن يكون سببًا كافيًا للتوقف الفوري عن التواصل مع هذا الشخص.

على الرغم من أهمية هذه التوصيات، لكن الالتزام الفردي بالإرشادات لا يكفي لحماية المستخدمين/ات. على الدولة بالتعاون مع المنصات الرقمية العمل على توفير بيئة آمنة تضمن الحق في التواصل والاختيار من دون تهديد.

غياب الإصلاحات يضاعف العنف الرقمي

كشفت التجارب السابقة، ضعف الأمان الرقمي في لبنان، وأظهرت أن الثغرات ليس تقنية فحسب بل قانونية أيضًا، مرتبط بسلطة أبوية تُحاسب في الكثير من الأحيان الناجين/ات وتبرر للجناة. ومع هذه الثغرات برزت الحاجة الملحّة إلى إصلاحات قانونية وإجرائية تضمن حماية فعّالة من الابتزاز والعنف الرقمي.

لذلك، يجب إنشاء آلية تبليغ إلكتروني آمنة وسريّة، تتيح تقديم الشكاوى من دون حضور شخصي أو كشف الهوية، إلى جانب خط ساخن فعّال يضمن استجابة سريعة مخصص للشكاوى الرقمية، ويسمح بفضح المعتدين من دون تعريض المبلّغات للخطر.

كما يُعدّ تدريب العناصر الأمنية على التعامل الحساس مع قضايا العنف الرقمي أمرًا أساسيًا، لمقاطعة السرديات الأبوية التي تشكك في رواية الناجين/ات.

إلى جانب كل ما سبق، لا بد من إنشاء هيئة رقابة رقمية مستقلة، تُقيّم مدى التزام التطبيقات بمعايير الأمان، وتُصدر تقارير دورية تنذر بالمخاطر، وتكشف المنصات غير الآمنة للمستخدمين/ات.

وعلى الدولة إطلاق برامج توعية وطنية رقمية تدمج ضمن المناهج التعليمية وتعرض عبر وسائل الإعلام، تهدف إلى تعزيز ثقافة الأمن الرقمي والقدرة على التعرف على محاولات التصيد والاحتيال، مع التركيز على أهمية التوثيق الرقمي للأدلة وسبل الحماية القانونية المتاحة، لكسر الصمت والخوف، وتعزيز الأمن والأمان.

فمن دون هذه الإصلاحات، سيظل الفضاء الرقمي امتدادًا للعنف الأبوي، يمارس بأدوات خفية تضاعف الخطر على الضحايا مع شبه غياب للمحاسبة.

لكل إنسان الحق أن يعيش الحبّ “الرقمي” بحرية وأمان، بعيدًا عن الخوف من أنّ يقع/تقع في فخ القراصنة والمتحرّشين والمبتزين، ولكن حماية هذا الحق “رقميًا” ليست مسؤولية فردية فقط، بل هي واجب سياسي يقع على عاتق الدولة والمنظومة القانونية، والشركات المالكة لهذه التطبيقات. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من تفكيك التآمر “المقنّع” بين السلطة الأبوية والتكنولوجيا، الذي يجعل من المواعدة الرقمية ساحة للعنف، لا مساحة حرّة للتواصل أو الحب.

كتابة: مريم دحدوح

 

*جميع الأسماء في هذا المقال مستعارة حفظًا للخصوصية. 

 

أُنتِج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد