كيف تواجه نساء الجنوب تحديات النزوح؟

عن المعاناة المستمرة للنازحات وغياب الجهود الإغاثية

لم يكن انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان في 26 تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي إلا محطة في سلسلة معاناة النزوح التي رافقت الجنوبيون/ات عمومًا وأهالي البلدات الحدودية خصوصًا.

فأبناء/بنات تلك البلدات الذين/اللواتي فقدوا/ن منازلهم/ن وأعمالهم/ن لم يتمكنوا/ن لغاية اليوم من العودة إلى قراهم/ن إلا بحالاتٍ استثنائية. واقعٌ فاقم تحديات النزوح عليهم/ن، خصوصًا بين صفوف النساء والفتيات اللواتي وجدن أنفسهن فجأةً في مراكز إيواء تفقد لأدنى معايير الخصوصية بعد أن كانوا يقطنّ في منازلهن الخاصة. وكل ذلك يترافق مع غياب تام للجهود الإغاثية الرسمية وانعدام المساعدات الأهلية أو الدولية، فضلاً عن صعوبات إيجاد فرص عمل لهن تتلائم مع الحالة الاجتماعية السائدة في المنطقة.

ووفقًا لتصريحات سابقة لرئيس البلدية حسن دبوق، “يوجد ما لا يقل عن 35 عائلة تقطن في مدارس الإيواء في مدينة صور. وتتكون هذه العائلات بمعظمها من أفراد كبار في السن فقدوا/ن مصدر رزقهم/ن الذي كان يعتمد بأغلبه على زراعة التبغ وحصاد الزيتون في قراهم/ن”.

نساء في ظل النزوح المتواصل

تروي نسب الأسعد، النازحة من بلدتها الزلوطية، في حديث لـ”شريكة ولكن”، رحلتها مع النزوح التي بدأت في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، وتحديدًا في 8 تشرين أول/ أكتوبر 2023. حينها، انتقلت نسب من بلدتها الزلوطية المحاذية للشريط الحدودي إلى بلدة الإسماعيلية التي تُعتبر ضمن القرى الجنوبية الخلفية.

وعند توسع الحرب في أيلول/ سبتمبر الماضي انتقلت نسب، مع عائلتها، إلى مدينة صور. لم تكن صور المحطة الأخيرة لها، حيث اضطرت بعد اشتداد المعارك للانتقال إلى البترون، لتعود عند انتهاء الحرب إلى منطقة الحوش المحاذية لصور.

فقدت نسب الأسعد منزلها في الزلوطية على غرار جميع أهالي البلدة. واقعٌ مأساوي، ترى نسب أن أصعب وأقسى ما فيه هو حالة النزوح بحد ذاتها، مع ما يرافقها من ظروف معيشية صعبة وغلاء معيشي. فـ “بعد أن كنّا نقطن في منزلنا بتنا اليوم نستأجر منزلًا بسعر مرتفع جدًّا”، بينما لا تزال الدولة اللبنانية متقاعسة عن تقديم تعويضات أو على الأقل استثناء النازحات/ين من الضرائب.

غياب فرص العمل

تملك عائلة نسب الأسعد أراضي زيتون كانت تقوم بالاعتناء بها عبر الاستعانة بعمّال وتُنتج 46 تنكة/صفيحة زيت سنويًّا، إلا أن الجيش الإسرائيلي قام بتجريف جزء من هذه الأشجار، كما أن الجزء الآخر لا يمكن الوصول إليه بسبب الوضع الأمني.

فضلاً عن ذلك، كانت العائلة تمتلك رخصة زراعة تبغ بحيث تقوم بتضمينها لأحد جيرانها، إلا أن هذا المورد المادي لم يعد موجود كذلك. هذا الوضع الاقتصادي “المُريح” تحوّل مع النزوح إلى معاناة في ظل غياب مصادر الدخل وغلاء متطلبات المعيشة.

لذا، حاولت نسب البحث عن عمل حيث نزحت إلا أن “فرص العمل للنساء في هذه المنطقة محدودة، فهي تعمل إما في محل لبيع الألبسة أو سكرتيرة لدى طبيب أو أعمال من هذا النوع، وأجر هذه الأعمال عادةً ما يترواح بين 200 إلى 300 دولار، وإذا ما قمنا بخصم مصاريف الانتقال من وإلى العمل، يكون المبلغ المتبقي زهيد جدًّا”. وتستغرب نسب هذا البدل المادي الذي يُعرض للنساء بحجة سوء الوضع الاقتصادي وتُلقي باللوم على الدولة “التي لا تُراقب مستوى الأجور والرواتب ولا حتّى عدم وجود ضمان صحي، فضلًا عن أن المجالات التي يمكن للرجال العمل بها أكثر”.

“عُرض عليّ العمل في أحد مقاهي الشارع البحري في المدينة إلا أن امتداد دوام العمل إلى الثانية عشر ليلًا منعني من ذلك، فمن غير المُحبذ أن أعود إلى منزلي في هذا الوقت”.

مريم- نازحة من القرى الحدودية

المرة الأخيرة التي زارت الأسعد بلدتها كانت في عيد الأضحى الماضي. تستذكر بلدتها حيث “عشت هناك منذ عام 2004 إلى 2023، وكل قطعة من منزلنا تحمل لي الكثير من الذكريات”، وتختم حديثها متأملةً بعودة قريبة والبدء بورشة إعادة الإعمار “فالتحدي الأهم اليوم هو تمسكنا كنساء بأرضنا في ظل الظروف الراهنة مهما كانت الصعوبات”، بحسب قولها.

لا شك أن الصعوبات التي يُعاني منها النازحون/ات تتضاعف عند الحديث عن النساء. هذا هو حال مريم ملك، النازحة إلى مدينة صور. فالشابة الثلاثينية تواجه أيضًا “صعوبة في إيجاد فرصة عمل مناسبة”، وفقًا لقولها.

سبق أن عُرض على مريم العمل في أحد مقاهي الشارع البحري في المدينة إلا أن “امتداد دوام العمل إلى الثانية عشر ليلًا منعني من ذلك، فمن غير المُحبذ أن أعود إلى منزلي في هذا الوقت”. هكذا تشكل العادات الاجتماعية عاملًا ضاغطًا على النساء، بحيث يتم تقييد فرصهن في العمل بغية تحسين وضعهن المادي على الرغم من الحاجة المُلحة للحصول على مصدر دخل في ظل ظروف النزوح.

“أنا مُجبرة على إيجاد مصدر للدخل، فلو أن الأمر مقتصر عليّ كان يمكنني أن أحرم نفسي من الكثير من الأشياء، إلا أنني مسؤولة عن ولدين يحتاجان إلى رعاية”.

نانسي- نازحة فقدت زوجها في الحرب

وفي الوقت الذي تعتمد فيه مريم في معيشتها على عائلتها، فإن ثمة نساء فقدن أزواجهن في الحرب وبتن مضطرات لتحمل مسؤولية عائلاتهن. من بين هذه النساء، تبرز قصة نانسي (اسم مستعار) التي فقدت زوجها خلال الأشهر الأول من حرب الإسناد.

تؤكد نانسي، أم لولدين، أن المسؤولية باتت مضاعفة عليها، فـ”أنا مُجبرة على إيجاد مصدر للدخل، فلو أن الأمر مقتصر عليّ كان يمكنني أن أحرم نفسي من الكثير من الأشياء، إلا أنني مسؤولة عن ولدين يحتاجان إلى رعاية”. ولا شك أن هذا الأمر يُشكل بالنسبة لنانسي ضغطًا نفسيًّا متواصلًا يمنعها حتّى من التفكير بحاجاتها الخاصة المُلحة “فهناك أولوية تتمثل في تأمين حاجات أولادي من تعليم ورعاية صحية وحاجات يومية، فأنا لا أملك رفاهية الاختيار، ينبغي عليّ تأمين حياة كريمة لأولادي”.

مراكز الإيواء: معاناة مضاعفة

ولا شك أن الحلقة الأضعف في مسلسل النزوح، هن النساء اللواتي يقطنون في مراكز النزوح.

في تكميلية صور الرسمية، ترى النازحة هناء الأحمد، أن من أصعب ما يواجهها هو عدم الشعور بالخصوصية. ففي مركز الإيواء “يسكن جميع أفراد العائلة في غرفة واحدة، وغالبًا ما يكون باب هذه الغرفة مفتوحًا، ما يؤدي إلى انعدام الشعور بالراحة والأمان”. في تلك المدرسة التي تضم نحو 14 عائلة، العدد الأكبر منهن/م نساء، يتشارك الرجال والنساء حمامًا مشتركًا يضم مكانًا واحدًا مخصّصًا للاستحمام ومرحاضين. هذا الوضع يُساهم بزيادة الحرج بالنسبة إلى هناء التي تؤكد أن “القاعدة في مراكز النزوح هي غياب الخصوصية، فكيف يمكن الحديث عن خصوصية للنساء ونحن نتشارك دورات المياه مع الرجال!”.

في المدرسة عينها، تجلس النازحة لينا المصطفى من بلدة البستان إلى جانب والدها ووالدتها وشقيقها المريض في إحدى الغرف منذ نحو عامين. تشكو لينا من صعوبة السكن في مركز الإيواء، خصوصًا في الفترة الأخيرة إذ أن “التيار الكهربائي لا يأتي سوى ساعة واحدة في اليوم، وبعد أن كنّا نجمع مبلغ من كل عائلة نازحة لشراء المازوت لتشغيل المولد الكهربائي تم منعنا من ذلك. مع العلم أن هناك نازحين/ات لديهم/ات ضيق تنفس، فضلًا عن الطقس الحار في الوقت الحالي ما يضاعف المعاناة”.

تلفت إلى أنها توجهت مع 4 نساء نازحات في مركز الإيواء، يوم الأحد الماضي، إلى أحد الأشخاص المكلفين من قبل وحدة ادارة الكوارث (التابعة لاتحاد بلديات صور) بمتابعة شؤوننا من أجل الضغط للسماح لنا بتشغيل المولد الكهربائي ما يسمح بتشغيل دافع المياه. وتُشير إلى أن “الجهة المعنية رضخت لنا هذه المرة وقامت بتشغيل المولد لمدة ساعة واحدة ولكن من غير المتوقع أن تستكمل ذلك”. وتُوضح أن “النازحين/ات في مراكز الإيواء يتعرضون/يتعرّضن للكثير من المضايقات من قبل وحدة إدارة الكوارث بغية دفعنا لإخلاء الثانوية”.

كحال نسب، كان مصدر رزق لينا وعائلتها هو محصول نحو 20 تنكة/صفيحة زيت، بالإضافة إلى عملها في مجال الزراعة وتربية بعض الدواجن. ،كانت العائلة تعين نفسها بزراعة بعض حاجاتها من الخضار بجانب المنزل. إلا أن كل ذلك تغير مع النزوح حيث “نشتري كل شيء بعد أن كنا نكل ما تتزرع ونُنتج”، وفقًا لقولها.

وتلفت إلى أنه “منذ رمضان الماضي لم يعد يصلنا أي  مساعدة من أي جمعية، كما أن الوجبة اليومية التي كانت تصلنا من وحدة الكوارث توقفت منذ 3 أشهر، وبالأساس كانت ذات طعم وجودة سيئة جدًّا”.

تُطالب لينا بأن تقوم الجهات المعنية من نواب وبلديات وأحزاب المنطقة بإجبار أصحاب المنازل على تخفيض الإيجارات لكي يتمكن النازحون/ات من الانتقال إليها، مضيفةً “كيف يمكن الضغط علينا لإخراجنا من مراكز الإيواء ونحن لا نملك بديلًا”. وتلفت إلى أن “جميع النازحين/ات حصلن/وا على مساعدة بدل إيجار وبدل أثاث منزلي ولكن نحاول قدر الإمكان عدم صرف هذا المبلغ إلا على الحاجات الضرورية، فهذا المبلغ محدود اذا ما قارناه بالغلاء المعيشي وبالأسعار الخيالية لأجارات المنازل، وهو آخر ما نمتلك بعد أن فقدنا منازلنا”.

 

كتابة: مهدي كريّم 

أُنتِج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد