نساء خلف القضبان: حين يُصبح الصوت جريمة في تونس

شهادات عن الانتهاكات داخل سجون النساء

في بلدٍ يُفترض أن يكون صوت الحقوق والحريات فيه مكسبًا لا رجعة فيه بعد الثورة، ما زالت أصواتُ النساء في تونس تُخمد خلف الجدران السميكة. نساءٌ دخلنَ السجون لا لأنّهن مجرمات، بل لأنّهن تجرّأن على رفع الصوت وعن دفاعهنّ عن حقوق الإنسان وعن عملهنّ الحقوقي.

خلف الأسوار، تتكرّر مشاهد الإهانة، العنف اللفظي والجسدي، الحرمان من الرعاية، والتهديدات التي لا تنتهي.

وجوه من وراء القضبان

التقرير التالي يكشف جانبًا من الصورة المظلمة التي تعيشها السياسيات والناشطات الحقوقيات في السجون التونسية. من سنية الدهماني وعبير موسى إلى شريفة الرياحي و شذى الحاج مبارك و سعدية مصباح، نساءٌ دفعن ثمن مواقفهنّ السياسية والحقوقية في ظلّ صمتٍ رسميّ وتبريراتٍ تتنافى مع المواثيق الدولية التي التزمت بها تونس.

ما يحدث ليس مجرد تجاوزات فردية، بل هو نمط متكرّر من القمع الممنهج ضدّ كل امرأة تُحاول أن تكون فاعلة في الشأن العام. ومن التحقيقات الميدانية والشهادات التي جمعناها، تتّضح صورة نساءٍ حُرمن من أبسط حقوقهنّ الإنسانية: الكرامة، العدالة، والحق في أن يُسمع صوتهنّ.

الانتهاكات التي تعرّضت لها سنية الدهماني

في ربيع 2024، وجدت المحامية والإعلامية سنية الدهماني نفسها داخل زنزانةٍ باردة، بعدما كانت لسنواتٍ صوتًا مدافعًا عن العدالة وحرية التعبير.

اعتُقلت إثر تصريحٍ إذاعي ساخر تناول الأوضاع العامة، وأُحيلت بموجب المرسوم عدد 54، المثير للجدل، بتهم “نشر إشاعات تمسّ بالأمن العام” و“الإساءة إلى رموز الدولة”.

وُضعت سنية الدهماني في العزل الانفرادي لأيامٍ متتالية.. “أرادوا أن يسكتوا صوتي، فحاولوا كسر كرامتي أولًا”.

رغم تعاونها الكامل مع القضاء، تمّت مداهمة مكتبها دون إذن قضائي مكتوب، وصودرت ملفاتها الشخصية في خرقٍ واضح لحق الدفاع والخصوصية المهنية.

وفي الساعات الأولى من الإيقاف، حُرمت من الاتصال بمحاميها، قبل أن تُنقل إلى سجن منوبة حيث خضعت لتفتيشٍ جسدي مهين، وأُجبرت على ارتداء زيّ السجن دون مبرّر قانوني.

داخل السجن، وُضعت سنية في العزل الانفرادي لأيامٍ متتالية، مُنعت خلالها من الزيارات العائلية والرعاية الصحية، ومن متابعة ملفات موكّليها كمحامية، رغم أن القانون يضمن لها هذا الحق.

“أرادوا أن يسكتوا صوتي، فحاولوا كسر كرامتي أولًا”، كتبت سنية في رسالة قصيرة سرّبتها من خلف القضبان.

الانتهاكات التي تعرّضت لها سعديّة مصباح

من داخل سجن بلي بولاية نابل، وجّهت الناشطة سعديّة مصباح رسالةً مؤلمة كشفت فيها عن واقعٍ قاسٍ تعيشه داخل الزنازين.

تقول إنها لم يتم إعلامها بقرار دائرة الاتهام رغم مرور أكثر من شهرين، معتبرة ذلك حرمانًا من حقها الدستوري في المعلومة وإهانةً لكرامتها. كما تمّ تعيين خبير محاسبي في قضيتها دون إعلامها أو تمكينها من الدفاع، ما يثير شكوكًا حول شفافية الإجراءات.

 “أطالب بمحاكمة عادلة، وبأن أُعامل كإنسانة، لا كرقمٍ داخل ملف”.

سعديّة تحدّثت أيضًا عن غياب الماء الصالح للشرب داخل السجن، ومعاناة السجينات من العطش، إضافة إلى وجبات غير كافية تُقدَّم في الرابعة مساءً كآخر وجبة في اليوم.

كما حُرمت من حقّها في القراءة والاطلاع بعد انتظار طويل للكتب التي طلبتها، في انتهاك لحقها في الثقافة والمعرفة. تختم رسالتها بنداءٍ واضح: “أطالب بمحاكمة عادلة، وبأن أُعامل كإنسانة، لا كرقمٍ داخل ملف”.

رسالة سعديّة ليست حالة معزولة، بل شهادة على واقعٍ يُحرم فيه السجينات من أبسط الحقوق الإنسانية.

الانتهاكات التي تعرّضت لها شريفة الرياحي

في إحدى الزنازين المظلمة، تعيش شريفة الرياحي -الأم والناشطة والصحافية- واحدة من أقسى التجارب الإنسانية داخل السجون التونسية.

اعتُقلت رغم وضعها كأمّ لطفلين، أحدهما لم يتجاوز شهره الثاني، لتجد نفسها محرومة من حضن طفليها وحقها الطبيعي في التواصل معهما.

تجاهلت السلطات وضع شريفة الرياحي كأمّ مرضعة.

في البداية، مُنعت من لقاء طفليها وجهًا لوجه، ولم يُسمح لها بذلك إلا بعد سلسلة طويلة من الإجراءات البيروقراطية التي فرضتها إدارة السجن.

رغم مناشداتها المتكررة، رفضت محكمة الاستئناف طلبها للزيارات المباشرة، ما جعلها تعيش عزلة نفسية خانقة.

تجاهلت السلطات وضعها كأمّ مرضعة، لتتحوّل أيامها داخل السجن إلى صراع يومي بين الأمومة المقموعة والوجع الإنساني.

ما تعيشه شريفة يُعدّ خرقًا صارخًا للمواثيق الدولية، وخاصة اتفاقية “سيداو” التي تضمن حق النساء السجينات في الحفاظ على روابطها الأسرية

الانتهاكات التي تعرضت لها عبير موسى

في 14 شباط/ فبراير 2025، تم نقل عبير موسى من السجن المدني بمنوبة إلى سجن بلي (ولاية نابل)، في قرار مفاجئ نُفّذ دون أي مبرّر قانوني واضح، ودون إعلام عائلتها أو هيئة دفاعها، رغم حالتها الصحية الحرجة التي تتطلّب متابعة طبية مستمرة. ويُعدّ هذا الإجراء تعسّفيًا ويمثّل خرقًا لحقّها في السلامة الجسدية والمعاملة الإنسانية.

مُنعت ابنة عبير موسى من زيارتها داخل السجن.

في 28 نيسان/ أبريل 2025، تم إعلام عبير موسى برفض تمكينها من زيارة مباشرة من طرف ابنتها رغم وجود إذن قضائي يسمح بذلك، حيث تمّ إبلاغها شفهيًا بأنّ سبب الرفض هو كونها متهمة بالاعتداء على أمن الدولة طبقًا للفصل 72 من المجلة الجزائية. هذا القرار يُعتبر انتهاكًا واضحًا لحقّها في التواصل العائلي، وحرمانًا من أحد أبسط حقوقها كموقوفة، ما زاد من معاناتها النفسية والعزلة داخل السجن.

تُضاف إلى ذلك القيود المفروضة على حقها في الدفاع والتواصل المنتظم مع محاميها، ما يشكّل خرقًا لمبدأ المحاكمة العادلة وللمعايير الدولية التي تضمن كرامة السجين وحقه في التواصل مع عائلته وهيئة دفاعه دون قيود.

الانتهاكات التي تعرضت لها سوار البرقاوي

ألقي القبض على سوار البرقاوي يوم 27 أيلول/ سبتمبر 2024 و بعد ثلاثة أيام فقط صدر في حقها حكم بالسجن 12 سنة قبل أن تخفض محكمة الاستئناف الحكم إلى أربع سنوات وسبع أشهر مع النفاذ العاجل.

اقتدت سوار البرقاوي إلى السجن المدني بمنوبة حيث تعرضت الى انتهاكات صارخة شملت تعرضها للعنف الجسدي مما ادى إلى ازرقاق جلدها و تم سحلها و حرمانها من الأكل و الشرب.

لا زالت سوار قابعة في ظلمات السجن حيث حكمت على 16 قضية مضمونها واحد في محاولة الى تجزئة القضية لتنال الضحية أحكام أكثر.

إلى جانب سنية، سعدية، شريفة، عبير، وسوا، هناك أسماء أخرى تتقاطع في التجربة الظالمة. نساء وُضعن تحت المراقبة أو الاحتجاز بسبب منشورات أو نشاطات سلمية. بعضهن تعرضن للتعذيب النفسي والحرمان من الزيارة العائلية، والعزل عن المحامين/ات، وفق شهادات محامين/ات وعائلات المعتقلين/ات، ونشطاء في المجال الحقوقي.


إن ما تتعرض له معتقلات الرأي داخل السجون في تونس يُعدّ خرقًا واضحًا للدستور التونسي، خصوصًا للفصلين 21 و 31 اللذين يضمنان الحق في الحرية والمساواة وحرية التعبير، ومخالفةً للاتفاقيات الدولية خصوصًا اتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو).

ما يحدث داخل السجون التونسية اليوم ليس مجرد تجاوزات قانونية، بل انعكاس لأزمة أخلاقية وحقوقية تمس جوهر الدولة. فإلى متى يُعاقب الصوت النسوي الحر في وطن قال يوما إن “المرأة فيه خط أحمر”؟

كتابة: منتهى محمدي

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد