أنا أيضًا: صحافيات يشهدن ضدّ أصحاب نفوذ “متحرشون”

إعداد: هلا الترك

متابعة وإشراف: يمنى فواز

 

هلا هو اسمي، أعمل منذ ٥ سنوات في الصحافة، وكانت السنة الأولى من العمل، كافية لأدرك ماذا ينتظرني، أنا لا أتحدث هنا عن التجارب والخبرة المهنية وأساسيات العمل في الصحافة  مهنة المتاعب كما يُقال، بل عن خبرة أساسية في ” فنون التصدي”، هذه الفنون يدركها العدد الأكبر من الصحافيات لكن الحديث عنها يبقى في الأوساط المغلقة فقط.

بعد السنة الأولى من العمل، بدأت الأمور تتضح لي  فبدأت بالتدرب وما زلت على  “كيف أتحاشى أو أتصدى للمتحرشين في مراكز القرار”.

اكتشفت أنني لست الوحيدة التي عانت من التحرش في  بداية عملي، فحالتي تشبه معظم حالات الصحفيات في بلادي وإن اختلف أسلوب المتحرش. فلكل زميلة  قصة أو قصص وإذا ما أردت مقارنة ما سمعته منهن بما حصل معي أقول ربما كنت محظوظة.

رغم الحرية  التي نتمتع بها كنساء في لبنان، إلا أن المرأة اللبنانية لم تتجرأ بعد على إعلاء صوتها وحماية نفسها والدفاع عن حقوقها كما يحصل في دول مختلفة من العالم. والسبب بكلّ بساطة البيئة المحافظة، فالسمعة و”الشرف” هاجس أساسي، هذا طبعا بالإضافة إلى غياب القوانين التي تجرّم التحرش بشكل صريح.

كنت واحدة منهن، لم أجرؤ قبل على تناول هذا الموضوع على الرغم من مرور سنوات عدة عليه، وذلك خوفاً على سمعتي وخصوصاً في مجتمع يلوم المرأة على تعرّضها للتحرش من إنتقاد لباسها أو تصرفاتها…

أخيراً قررت أن أبدأ من نفسي، أتكلم، أبحث، أحقق وأنشر، فالمشوار يبدأ بخطوة،  وقررت أن أكون المبادرة للخطوة الأولى، لوضع حد  لهذا التمادي من قبل أصحاب النفوذ، قرّرت إعلاء صوتي  فقد تكون هذه البداية وتشجّع أخريات ليقلن “أنا أيضاً”!

 

قصتي (وأنا أيضاً)

قبل  سرد قصص زميلات أخريات، سأبدأ من نفسي وأروي قصّتي.

مستوزر وعرض بمليون دولار:

كانت من أولى المقابلات التي أجريتها في مسيرة عملي الصحفي، كنت متحمسة وكلّي شغف. كانت  مهمتي البحث عن قصص نجاح ومقابلة أصحابها للإضاءة عليهم. أثناء البحث عن هذه الشخصيات، تم تزكية رجل أعمال يقال إنه عاش “قصة كفاح ونضال” ليصبح رجل أعمال معروف وشخصية دبلوماسية ضمن الأوساط العربية. التقيت به، كان من السهل ملاحظة نظراته، شعرت كأن لديه أكثر من عينين، تلتصق واحدة تلوى الاخرى على ملابسي ووجهي، وما ان طلب القهوة من مساعدته، حتى أذن لها بالخروج باكرًا، قبل إنتهاء دوامها. لم يترك لي مجالاً لطرح الأسئلة  فعند كل سؤال كان يطلب مني أن أوقف التسجيل للحظات ويقوم “بنفخ” سيجاره الضخم  بتعالي  قائلا “عيونك كثير حلوين”.

تمالكت نفسي محاولة أن أنهي المقابلة بأقل وقت ممكن  متحجّجة بموعد آخر، لكنه لم يتأثّر، استمر في نظراته الوقحة وإيقافي عن السؤال حتى نطق ب”عرضه السخي” قائلاً، “الك عرض مغري” ومكملاً “أريد منك أن تكتبي عني كتاباً ولكني لا أحب الكلمات فيمكن أن يكون مليئاً بالصور، مقابل مليون دولار ولكن بشرط تخصيص ساعة كاملة لي شخصياً. أي نوع من الصور بالطبع لم أسأله حينها، لم يكن ببالي سوى السبيل إلى الهروب من مكتبه ولكن يتردد في ذهني اليوم، ماذا يعني كتابا مليئا بالصور؟!

تركت المكتب مباشرة بعد “عرضه المريض” كانت عبارة عن دقائق ولكن حينها كانت بمثابة ساعات بالنسبة إليّ بالتأكيد وقررت فيما بعد ألا تنشر المقابلة، وقررت بعد سنوات أن أنشر ما أحاط بالمقابلة، سيعرف هو نفسه دون أن أذكر الاسم، لكن سأعطي لمحة مختصرة كافية عنه: يمكن وصفه بمشروع وزير أي “مستوزر” وهذا  المصطلح الشائع الذي يطلق على من ينتظر التوزير مع كل تشكيل حكومة جديدة. أما كيف أصفه أنا؟ “متحرش مستوزر بمليون”!

 

عملية البحث

بداية وضعنا قائمة بمجموعة كبيرة من أسماء الصحافيات في لبنان، وإعتمدنا بإختيارنا على الصحافيات اللواتي يتواصلن بشكل مباشر مع السياسيين وأصحاب النفوذ بحكم عملهن. وبدأ الفريق بالإتصال بهن، وإذا ما وصفنا الأمر  بدقة يمكن القول إنه  “السهل الممتنع”.

تطلّب الأمر أشهر عدّة،  فالمضحك المبكي أن المهنة التي يسعى روادها لمناصرة الحقوق وكشف الحقائق تجد نفسها راقدة في القضايا التي تواجهها لأن التصريح عنها قد يحرم الصحافيات  من فرص مستقبلية او حتى يهدد إستمراريتهن في عملهن.

الملفت ان جميع الصحافيات والإعلاميات اللواتي تواصلن معهنّ لم ينفين تعرضهن لأحد أنواع التحرش ولكن أغلبهن رفضن التوسيع أكثر. وتوزّعت الإجابات على 4 خانات:

  • البعض رفضن رفضًا تامًا الحديث عن الموضوع
  • البعض وافقن على لقائنا شرط عدم ذكر الاسم
  • البعض رفضن ذكر اسمهن واسم السياسيين
  • البعض تجاوبن معنا لأهمية هذا الموضوع ولكن لم يعطنا إلا شهادة مختصرة للمساهمة في كشف هذه الظاهرة

 

شهادات ووقائع: نعم تعرّضنا وصمتنا

تهمنا الإشارة إلى  أن الهدف من هذا التحقيق ليس إثارة الفضائح أو التشهير، بل معالجة قضية حسّاسة وغاية في الأهمية لا يجرؤ الكثيرون على التطرّق إليها لاعتبارات مختلفة، بالإضافة إلى المساهمة في ردع المتحرشين من أصحاب النفوذ. وهذه بعض الشهادات التي حصلنا عليها  من صحافيات لبنانيات تعرضن للتحرش الجنسي، ونتحفظ عن ذكر اسمائهن  نزولا عند  رغبتهن.

وتجدر الإشارة إلى أنه أثناء قيامنا بالمقابلات تكررت بعض الأسماء، الإسم الأول يعود لنائب لأكثر من دورة نيابية وإحدى صفاته “ودود”، “يحب التواصل والدعوة لفنجان قهوة وإلقاء الشعر”.

أما الثاني، فكانت لديه صفة الوزير، أجمعت الصحافيات اللواتي قابلناهن على أنه لا يفوّت فرصة عند لقاء أي صحفية تسعى لمقابلته، إلا ويستغلها ليفرّغ (مكبوتاته) بأي نوع من أنواع التحرش، ويعرف هذا الشخص  بصاحب النظرات الوقحة والإيحاءات اللفظية والدعوات  لشرب كأسٍ من الخمر.

 

“مقابلة عاري”

عند سؤالنا للصحفية ع.غ وهي تعمل في الصحافة منذ عشر سنوات، عما إذا واجهت أي نوع من أنواع التحرش خلال عملها، بدأت بالضحك بشكل هستيري وهي تتذكر المرة الأولى التي تقدمت بها للحصول على وظيفة بعد تخرجها وكانت في مجلة في بيروت “لم تعد موجودة الآن”، تقول: ”الموضوع مضحك جداً، رغم أنني حينها لم أعرف توصيف ما حصل معي ولكن لا شك أن الصدمة التي مررت بها، شكّلت لي قاعدة متينة للدفاع عن نفسي”. وفي التفاصيل، قابلها صاحب المجلة بشكل طبيعي وطلب منها موعداً آخراً للإتفاق على باقي التفاصيل وإبرام العقد.

في الإجتماع الثاني، قررت اصطحاب زميلها عسى أن يجد وظيفة له في المجلة أيضاً، وفور دخولهما للمكتب وجدت المدير جالساً خلف مكتبه وهو “عار”! تقول: “يمكن كان لابس بوكسر”. وتصف الوضع كالتالي:”كان الموقف محرجاً جداً له ولنا خاصة انه لم يتوقع أن يأتي زميلي معي، ولكنّه كان وقحاً لدرجة أنه برر الأمر  بأن  الطقس حار وتابع الإجتماع عارياً”.

تكمل: “بوقتا كنت صغيرة ويمكن ما فهمت شو صار وما اعتبرته تحرش لحتى فسرلي رفيقي، ما اشتغلت معن وما بعرف اصلاً إذا كانت عنجد مجلة او مؤسسة وهمية”.

 

المدير المهووس: العمل في محطة لبنانية يتطلّب “اللمس”

تقدمت إحدى الصحافيات د.خ  للعمل لدى محطة لبنانية معروفة جداً، ولكن فور مقابلتها صاحب المؤسسة الذي تصفه جميع الصحافيات اللواتي تحدثنا معهن بـ”المهووس جنسياً” طلب منها على حسب قولها أن “تهديه نفسها”، ارتبكت الصحافية وكان جوابها الأول الرفض الحاسم، وعندما حاولت الخروج من الغرفة أمسكها  من ذراعها وشدّها نحوه ليمنعها من الخروج ثمّ وضع يدها داخل بنطاله، فإنتزعتها بقوة وهربت مباشرة. هذه الحادثة شكّلت صدمة لها وبسببها تنحت عن العمل في هذا المجال إلى أن سنحت لها الفرصة ان تمارس عملها الصحافي من المنزل.

 

بوسة vs كفّ!

تتمنّى هذه الإعلامية (ن.س) لو كانت تملك دليلاً لتفضح من خلاله  بحسب وصفها  مريض “الجنون الجنسي” – تجدر الإشارة إلى أنه الشخص نفسه الذي ذُكر في الحالة السابقة- فبحسب قولها :”هو لا يمهّد حتى للأمر، ولا يترك مجالاً للانسحاب، “مجرد وصولي الى مكتبه، باشر صاحب المحطة الوقور بخلع ملابسه، واقترب مني  ليقبّلني، فما كان مني إلا أن صفعته على وجهه مما أثار استغرابه!”. وتضحك ” لا اعلم لماذا الاستغراب، ماذا كان يتوقع؟”، وفي هذه اللحظة بعد صفعه، تراجع وبدأ يتأمل ماذا حصل؟ فخرجت مسرعة من مكتبه. هذه الإعلامية تخلّت عن حلمها في الظهور على الشاشة ولا تندم على هذا الأمر، إلا أنها نادمة لأنها لا تملك أي دليل مصوّر يخوّلها من فضح أمره وذلك ما يمنعها من ذكر اسمه علناً”.

 

“جينزي المخزق شتّت عيون الوزير”

عندما اتّجهت الصحافية ج.م للحصول على مقابلة من أحد الوزراء لم تكن تعلم أنها تخوض “عرض أزياء” فنظراً لآنية الموضوع كانت الصحافية ترتدي كما ترتدي كل الفتيات بشكل يومي “جينز” (مخزّق) مما شتت تركيز الوزير الذي لم يكتف بالنظرات “المستفزة” على حسب قولها، بل بدأ “يسمّع حكي” على زيّها،  وتقول:”كأن سلطته تسمح له بتقييم ملابسي”.

لم تسلم هذه الصحافية من تحرّش نائب أيضًا، ففي حادثة أخرى تخطّت وقاحة النائب الحدود ليحسب نفسه طفلا يُسمح له فعل ما يرغب به من دون محاسبة. تصف الصحافية ما حصل معها قائلة :”كان النائب يقف ورائي وفجأة وضع يديه على كتفيّ وشدني للوراء بطريقة عنيفة لم تبد بريئة أبداً، لم يكن هنالك وقت حتى لأفكّر أو أدرك ما الذي يحصل ولحسن حظي كان حان الوقت لأظهر مباشرة على الهواء.”

 

“اشتريته لأمنعه من التحرش بي”: التحرش وفن المفاوضة

طُلب من صحافية متدربة في قناة تلفزيونية لبنانية تغطية حدث مهم خارج البلاد لتتمكن عبره من إعداد وثائقي والحصول على “فرصة عمرها” حسب وصفها، لم تدم فرحتها بحصولها على هذه الفرصة طويلًا، فبعدها بدقائق إستدعاها رئيس التحرير إلى مكتبه ليصارحها بأنها لن تحصل على هذه الفرصة إن “لم تدفع الثمن المرجو“. بعد حالة من الإحباط قررت الصحافية أن تفاوضه فقالت حرفياً: “أدفع الثمن يلي بدك ياه بس مش يلي براسك” وبعد جلسة مطوّلة، عرضت عليه إعطاءه أكثر من نصف راتبها شرط أن تستلم مهمة تغطية الحدث وإعداد الوثائقي، وافق على عرضها وحصلت على هذه الفرصة التي استغلتها لإثبات جدارتها وكان هذا التقرير السبب في انتقالها إلى مؤسسة آخرى لتصبح اليوم من أفضل الصحافيات في لبنان. تتذّكر الآن هذه الحادثة وتقول :”تضحية عن تضحية بتفرق المهم ثبتت حالي بالشغل.”

 

مقابلات “منزلية”

كحال كل مراسلة يُطلب منها متابعة كل حدث والحصول على آخر المستجدات، طلبت المراسلة (د.ر) العاملة في محطة تلفزيونية لبنانية من وزير لبناني مقابلة ولكن ردّه كان كالتالي: “تعي لعندي عشية عالمكتب هيك منكون لحالنا ومناخذ راحتنا. تقول الصحافية: “لم أعد أستغرب هذه الأقوال سواء من  وزير أو من نائب حتى أننا لم نعد نسلم من مديري المحطات ولكن للأسف ما باليد حيلة لا يمكننا أن نتكلم ونكشف هوياتنا ونفضح من يوظّفنا”.

 

“المصدر الميت”

تتحدث إلينا الصحافية المخضرمة ذات السمعة الحسنة وصاحبة المهنية العالية والتي لديها مقالات مؤثرة في الرأي العام كمصدر موثوق،  طالبة عدم ذكر إسمها وعدم الغوص  في التفاصيل، فالتفاصيل قد تكون مؤلمة لها إذا سمعتها وهي ترويها بنفسها، لذلك اكتفت بنتيجة سلسلة من محاولات التحرش قائلة :”أنا من الناس الذين تعرضوا للتحرش اللفظي عدة مرّات، ومحاولة تحرش جنسي، ردة الفعل وليدة اللحظة بل هو موقف ثابت لدي. بالنسبة لي، المتحرّش “يتحول إلى مصدر ميت” مهما كانت مكانته وأهميته كمصدر ومسؤول.

 

سياسة إستباقية: “الدور الصبياني” لعبتي

مقدمة أخبار ومراسلة في محطة تلفزيونية لبنانية تعتمد على ما تسميه بـ”السياسة الإستباقية”، تقول إن حالات التحرش منتشرة و”لكنني إبتكرت سياسة خاصة بي في التعامل مع الوزراء والنواب الذين أضطر لمقابلتهم ضمن عملي، فبمجرد ملاحظتي أثناء المقابلة بأنه شرع على التحرش ألعب “الدور الصبياني” وآخذ الأمور على محمل “النكتة” وأقتل  بذلك أهدافه الطموحة”.

 

هوليوود ستايل

تروي  مراسلة تجري مقابلات سياسية،  مقابلتها مع أحد الوزراء، الذي عرض عليها بعد إنتهاء المقابلة أن يأخذها بجولة في وزارته، فمضت معه ثم تضيف: “وصلنا إلى أحد المكاتب الفارغة، وفجأة وجدت نفسي ملتصقة بالحائط يحاول ملامستي، لحظات سريعة من المشاعر المختلطة من الغضب والخوف والارتباك والتفكير بثقته الخارقة، وإذا ما كان يعتبر نفسه “الدونجوان” الذي لا يقاوم، كل الأمر مرّ بثوان وإن احسستها دهراً حينها، دفعته عني بيديّ بقوة، وان وجدت صعوبة في الأمر ثم خرجت من المكتب، تاركة “الدونجوان” بمفرده. اعتقد انه متأثر بأفلام هوليوود”.

 

“القهوة للرجال”

قصة جديدة للوزير السابق نفسه، ولكن هذه المرة مع صحافية جديدة، الوزير السبعيني “الدونجوان” الذي لا يفوّت أي فرصة لشرب “كأس” مع أي صحافية أو مراسلة تطلب منه مقابلة. تقول: “رفضت دعوته إلى شرب كأس من النبيذ وقلت له “إذا أردت اللقاء لتناول قضايا تخصّ وزارتك يمكننا أن نشرب القهوة عند الصباح”، ليجيبها مستسخفاً وغير راض عن إجابتها “القهوة للرجال”!

 

مستشار يتقمّص نفوذ رئيسه

علمت أحد الصحافيات بإفتتاح دورة جديدة في الإذاعة الوطنية، وعند وصولها للإذاعة تعرّفت إلى مستشار وزير الإعلام الذي كان مُرحباً بها، وعرض عليها أن تعدّ وتقدّم برنامجًا، كان إقترحه على الوزير، وطلب منها أن تزوره في اليوم التالي بعد الساعة السادسة في مكتبه ليكتب معها صيغة البرنامج. استغربت من طلبه هذا ومن إصراره على مساعدتها وهو لا يعرفها. اعتذرت منه قائلة إنها تتابع رسالة الماجستير ودوام صفوفها ليلي، إلاّ أنه قال لها إنه يبقى مشغولاً مع الوزير طوال النهار. وبعدما عادت وزارته مرة في مكتبه بعد الظهر لكتابة صيغة البرنامج وخلال هذا الإجتماع كان قد “اخذ راحته على الآخر” فطلب الطعام وبدأ يتنقل بوتيرة متكررة حولها في المكتب مما أثار قلقها خاصة أن الدوام الرسمي للوزارة إنتهى ولا يوجد إلا عدد قليل من الموظفين، وتصف الوضع: “وكأن الصياد كان يحوم حول فريسته”.

بعد تسجيلها للحلقة التجريبية، بقيت تنتظر النتيجة ولكنه اصرّ ألا يعطيها أي جواب على الهاتف على الرغم من أنه كان يراسلها عبر تطبيق “واتسآب” الأمر الذي لم يعجبها، وكانت تحاول ان تصل معه لمرحلة تعرف فيها النتيجة فقط إلى ان بدأ الموضوع يستفزها!

فقال لها عبر “الوتسآب” انت بتتمرني يعني فيكي تحمليني؟ المرة الجاية لازم تحمليني. بدأت تتجاهله إلى أن قال لها “شكلك ما بدك تعرفي النتيجة كرمال هيك ما عم تردي”. فقالت له :”ما هي؟” فأجاب “بدك تجي لعندي عالمكتب”، وكان ردّها لا يمكنني إلا الظهر.

بعدها ذهبت للإذاعة ليقول لها مدير الإذاعة: “صوتك طفولي وبحاجة للتدريب”. بعد خروجها من المكتب عرض المستشار “خدماته مرة اخرى” ولكن هذه المرة ليدرّب صوتها كل يوم في الليل في مكتبه في الوزارة، علماً ان المستشار لا يملك اي خبرة في هذا المجال. تهرّبت منه مرات عدّة وبقي مصرّاً إلا أن حظرته على تطبيق الوتسآب من دون أن تبرّر السبب.

 

“أنا لئيمة”

تقول المراسلة ر.خ  التي تعمل في قناة لبنانية “لم أتعرض للتحرش يوماً” وتضيف: “أنا أؤمن بمبدأ المسافة واحياناَ بيعطلو هم السياسين لما يتعاملو معي لأني لئيمة”. وتوضح أنها تتعرض للتحرش فقط خلال تغطيتها للتحركات غير المنظمة.

ماذا يقول القانون؟

الحصانة لا تحمي المتحرشين

هل يحمي القانون من التحرش بالإعلاميات تحديداً؟ بدأنا البحث في القوانين الدولية والمحلية لعلّنا نجد قوانين مختصة بحماية الإعلاميات من تحرش أصحاب النفوذ، أو حتى قوانين تحمل في طياتها مضمونا أو ثغرات يمكن الاستفادة منها، ولكنّنا لم نجد شيئا محدداً.

بعدها بحثنا بين النواب والمشرعين عن من لديه المام بمثل هذه القضية، متابع أو رجل قانون، بحثنا في البيت عن من نخبره عن أهل البيت. فوقع الاختيار على النائب السابق المحامي غسان مخيبر كونه كان قد قدّم إقتراح قانون الحماية من التحرش الجنسي والإساءة العنصرية. أظهر مخيبر حماسة للموضوع ورغبة لإيجاد الحل فالتقينا به، بدأ حديثه عن وضع الصحافيات والاعلاميات موضحاً أن الصحافية ليست خاضعة لسلطة، فهي تقوم بمقابلات مع أطراف عدة وليس لهم سلطة عليها، وبالتالي تُعامل مثلها مثل غيرها.

وأكد مخيبر انه لا يوجد أي إقتراح قانون متعلق بالعاملات في مجال الإعلام والصحافة بشكل خاص أو قانون يلمّح لهن، وأنه أصلا لا يوجد في لبنان قانون يجرّم التحرش بشكل عام ولكن هناك أحكامًا عقابية بسيطة تتعلق بخدش الحياء العام، ولهذا السبب كان هناك حاجة لكتابة الاقتراح الذي قدّمه مخيبر للمجلس النيابي.

 

لا تهمة دون أدلّة ملموسة حتى في الولايات المتحدة الأميركية

ويؤكد مخيبر أن الحصانة لا تشمل الجرائم الجزائية، وإن كان المرتكب وزيراً او نائباً، ولكن الصعوبة تكمن في القدرة على اثبات الجرم، فلا يكفي أن تصرّح الصحافية بما حدث معها ويجب أن يكون هناك أدلة ملموسة كفيديو أو تسجيل صوتي، موضحا أنّه حتى في الولايات المتحدة الاميركية لا يثبت جرم التحرش فقط بشهادة المدعي. وأكّد مخيبر أنه لم يلحظ خلال مقاربته قوانين في دول عالمية “القانون المقارن” أي قانون مختص بحماية الإعلاميات.

واعتبر مخيبر ان الجهد الذي نبذله في هذا التحقيق قد يكون سبباً في زيادة بنود متعلقة بحماية الصحافيات والإعلاميات على القوانين عبر وضع نص خاص بالصحافيات، مؤكّدًا ان السياسيين لا يعتبروا اصحاب نفوذ لأن صاحب النفوذ هو من يكون على تواصل مباشر مع الوصي عليه، على عكس علاقة المدير أو صاحب العمل مع الموظف، أما الصحافيين فعلاقتهم مع السياسيين لا تعتبر تبعية. ولا ينفي مخيبر إمكانية تعرّض الصحافية في بعض الأحيان لأحد أنواع التحرش من قبل السياسيين لذلك يقول :”لا مانع  من وجود بند في القانون اللبناني فريد يحمي الصحافيات او الصحافيين على الرغم من عدم وجود أي قانون مماثل عالميًا، فخطوة كهذه قد تضع لبنان في مرحلة متقدمة قانونيًا وتشريعياً”.

 

مواجهة وزير سابق: “أنا مشهور بالغزل” 

متابعة تحقيقنا الإستقصائي هذا تطلّبت مواجهة “المتحرشين” بأقوال وشهادات الصحافيات، وهنا تكمن المرحلة الأكثر تعقيداً، فبحسب القانون تمكّن المدعي من جمع شهادات عدة عن شخص واحد لا يعني أبدا اثبات التهمة، وفي هذا الإطار يقول مخيبر: “ان الصعوبة في فضح هذا السياسي المتحرش تكمن في قدرته على رفع دعوى قدح وذم على الصحافية، وهنا تضطر إلى تأمين الأدلة اللازمة لمواجهة رجل عام، لأنّه حتى الآن الفعل يعتبر في إطار جنحة خدش الحياء.” وبالتالي، إن خوف الصحافيات من الإدلاء بشهاداتهن أو إثبات التحرش بالصوت والصورة تجعل مهمتنا مستحيلة، هذا بالإضافة إلى حرصنا على الحفاظ على سلامتهن النفسية والمعنوية وعلى وظائفهن.

على الرغم من ذلك قمنا بمحاولة، واجهنا أحد الوزراء السابقين الذي تم ذكر إسمه مراراً في شهادات لعدة صحافيات. طلبنا بداية من الوزير السابق السبعيني مقابلة مصوّرة، بعد عدة اتصالات وعدنا بإعطاء المقابلة ولكنه لم يفعل، إذ تبين لاحقاً انه قام بالبحث عن اسم وتفاصيل الصحافية العاملة على التقرير وبخلاصة بحثه عرف انها ناشطة في القضايا النسائية.

بدّلنا الخطة وقرّرنا الاتصال به والسؤال مباشرة عن الأمر وتوثيقه. عرضنا على الوزير الشهادات التي أدلت بها الصحافيات عبر الهاتف. صمت، وبدأ بطرح أسئلة تتعلق بنا شخصياً عن مكان عملنا وسكننا “كتحقيق مبطّن وناعم” وكأنه غير معني بالأمر بتاتاً أو كأن الأمر يتعلق بشخص آخر، .متهرّبًا من التعليق على الأمر.

أصرّينا على إعطائنا رأيه في التحرش بالصحافيات، هنا تبدّلت لهجته وإجابته وقال بكل وضوح وصراحة: “أنا مشهور بالحكي المنمق، الغزل والمجاملة من باب اللياقة بس الموضوع استفز عددا لا يُستهان به من الصحافيات”، وانكر بشكل قاطع أن يكون قد تجاوز حدوده “اللفظية”.

 

رأي وزارة الدولة لشؤون التمكين الإقتصادي للنساء والشباب

وجهتنا الثانية كانت السلطة التنفيذية، وبما أن الحكومة الجديدة والتي حملت اسم “الى العمل” تضمنت وزارة “الدولة لشؤون التمكين الإقتصادي للنساء والشباب” وعينت سيدة من خلفية إعلامية على رأسها وهي الوزيرة فيوليت خير الله الصفدي، اعتبرنا مقابلة الصفدي ذات أهمية كبيرة لاعتبارات عدة:

  • صفتها الرسمية والوزارة التي ترأسها المتعلقة بالمرأة
  • تعهّدها لرئيس الحكومة القيام  ما بوسعها وتعبيرها عن سرورها بهذه المسؤولية عبر تغريدة (أخذنا الأمر على محمل الجد)
  • إمرأة واعلامية سابقا (أي سيكون لها حس عال تجاه هذه القضية)

بالإضافة إلى ما ذكر الصفدي في موقع المسؤولية وهي معنية بشكل أساسي في هذه القضية وخصوصا أن تمكين المرأة إقتصاديا واجتماعيا يبدأ من حمايتها قانونيا.

اتصلنا بالوزيرة  مراراً وتكرارا من دون جدوى، الخط مقفل. ثم بعثنا لها رسالة عبر “الواتس اب”، لا جواب.

بعد تعذّر الوصول اليها او التواصل معها، ارتأى فريق العمل أن يرسل لها تغريدة وخصوصا أنها تتخذ من “تويتر” وسيلة تواصل أساسية، غرّدنا لها:

 

بعد التغريدة مباشرة تواصلت مستشارتها الاعلامية معنا لإخبارنا بأن الوزيرة خارج البلاد لذلك تعذّر الوصول اليها، وانه لم يكن من داع لكتابة تغريدة قد لا تراها الآن، وطلبت منا المستشارة إعطاء فرصة للوزيرة وخصوصا أنها لم تضع رؤيتها للوزارة بعد. عندها شرحنا للمستشارة  أن التحقيق هو في غاية الحساسية ورأي الوزيرة أو قيامها بأي خطوة يضيف إيجابا ولا يؤثر سلبا، وأن الأمر لا يحتاج الى رؤية، إذ يمكن للوزيرة أن تأخذ بعين الاعتبار هذه القضية لتضمّنها في رؤيتها، كما شرحنا للمستشارة  أن الأمر ليس موجهاً ضد الوزيرة بل نتوجه بالطلب للقائها من أجل مصلحة المرأة وهي عدا أنها المعنية كوزيرة هي إمرأة وقد تكون عانت من الأمر عينه.

وطلبنا من المستشارة  ارسال التغريدات إلى الوزيرة وإرسال طلبنا بالاجابة على سؤال محدد حول موضوع تحرش السياسيين بالإعلاميات وحول طريقة التواصل التي تناسبها. إلا أن اللافت بعد اتصال آخر مع المستشارة، كان أنّ المستشارة أسدت لنا نصيحة حول طريقة اختيارنا للمواضيع محاولةً التقليل من شأن قضيتنا، قائلة: “برأيي الخاص، هيدا آخر موضوع ممكن نحكي فيه موضوع النساء، إحكو بالزواج المدني،… الخ.  اذا بدكن تجيبوا سكوب مش هيك بتصير الامور”. إذًا، اعتبرت الوزيرة المعنية بالمرأة أن هذا الأمر آخر اولوياتها ولا أهمية له.

دعينا نخبرك معالي الوزيرة، انها لم تنطل علينا قصة عدم قراءة  الرسالة عبر “الواتس اب” او التغريدات على “تويتر”، ونحن بدورنا سنسد بنصيحة (إذا كذبتن فاستترن)، اذ المستشارة أكدت مرارًا إن وجود الوزيرة خارج البلاد هو السبب وراء عدم تجاوبها مع اتصالاتنا، واذ بعد يومين نقرأ ونرى تغريداتها بلقاء لها مع شخصيات في لبنان.


ولأن المهنيّة خط أحمر بالنسبة لنا، عدنا وتعاملنا بحسن النية وأجلنا التحقيق لإعطاء الوزيرة بعض الوقت، فكرّرنا السؤال عبر تغريدة أخرى، وأيضًا لم نحصل على إجابة.

ومرة أخرى ولأن هدفنا أن يؤدي هذا التحقيق غايته الصحافية، نكرّر طلبنا الى الوزيرة  إبداء رأيها وإخبارنا إذا كانت ستقوم بخطوات عملية تتكامل مع طرح النائب السابق المحامي غسان مخيبر.

في ختام هذا التحقيق وليس ختام هذه القضية، اسأل كل زميلة تعرضت للتحرش، هل أنت مستعدة للقول :”وأنا أيضاً”؟

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد