سَلْمى

في مثل هذا الوقت من كل عام، منذ خمس عشرة سنة، تلحّ عليّ الكتابة كشمس الظّهيرة. أعود إلى غرفتي لأكتب، لكن في ذاكرتي فجواتٌ سوداء كتلك التي يُحدثها الرصاص في جدران مبنًى. تزداد حساسيّتي على الأشياء والأماكن والكلمات والروائح حتى تكاد تبتلعني. يغدو جسدي كتلةً متنقّلةً من الهشاشة، كغيمة. أرى مبنًى ضخمًا حديثًا فتصيبني الكآبة. درّاجة صدئة، بيت مهجور، جدار قديم، وجه امرأةٍ عجوزٍ، أو شجرة وحيدة، أراها فيصيبني حزنٌ طويل.

كانت ليلة التحرير الأولى، وصلنا إلى الضيعة، وكان بي شوقٌ لأزور كلّ ركنٍ وكلّ بيتٍ وكلّ وجهٍ وكلّ شجرة. سأقضي ذلك الصّيف أمشي وأركض لساعاتٍ تحت الشّمس على الإسفلت الحارق المفروش حديثًا، أشمّ رائحته، وأشعر بكعب حذائي البرتقالي يكاد يسيح عليه. على جانبَي الطريق سأسمع صوت حركةٍ سريعةٍ تشقّ العشب اليابس، سحلية أو عصفورًا؛ سأشعر بالأنس وأتابع المسير ترافقني رائحة الحمّيضة والطيّون وأزهارٍ لم أعرف اسمها، وطبعًا رائحة روث البقر عند بعض المفارق.

وفي ذلك الصّيف، ستكون سلمى، وستكون عيناها قمرَين صغيرَين. سنلعب ونسير معًا، ونغنّي لبعضنا البعض. سأغنّي لها، لإلهةٍ في العيون العسليّة، ولم يكن شيئًا بشعًا ليحدث. سأبتسم لها كما أبتسم لشمس نهارٍ جديد، وستصرّ على أن تمسك يدي.

سنجمع الجراد والفراشات من كلّ الأحجام والألوان في قناني البلاستيك ونتفرّج عليها، وستخافين يا سلمى من الخنزير البرّي الذي لن نصادفه أبدًا. ستصرّين على الصلاة على الرغم من سخريتي الجارحة، وستقولين “لستُ أصلّي لله، أصلّي فقط لأن نبقى معًا”. لكن الله يا سلمى، كما دائمًا، لا يسمع.

لا أعرف لماذا تعودين إليّ بعد كلّ هذه السنين، كأنّك الأمس، كجرحٍ طريٍّ تعودين، كأن وجهكِ لم يندمل أبدًا. تشقّين الأيام وتعبرين إليّ.

في مثل هذا الوقت منذ خمس عشرة سنة انتهينا. كنا صغيرَتَين ولم نكن نؤمن أن في الحياة هذا القدر من البشاعة.

أذكر كل شيءٍ عنّا وعن سنوات حبّنا الثّماني، لكني لا أذكر لقاءنا الأخير. أذكر بعض المشاهد والكلمات التي قلنا، لكني لا أذكر وجهكِ. أشعر بالدّوار حين أحاول أن أستعيد ذلك اليوم. قلتُ لك سأفعل أي شيء، يمكننا الهرب أو الرحيل. يا لسذاجتي. كيف كنا سنهرب؟ ممّن؟ وإلى من؟ وإلى أين؟ الحياة لا تشبه الأفلام بشيء. ابتسمتِ يومها بعينين باكيتين، ومرّرتِ أناملك الدقيقة على أذني اليسرى، وأردتِ أن تقولي شيئًا لكنك منعتِ نفسك. ماذا كنتِ ستقولين؟

أذكر أنك طلبتِ مني أن أحتضنك. رفضتُ، فرجوتني أن ألمسك، أو أن أقبّلك، “أيّ شيء” قلتِ لي. “أنا لكِ، تعرفين أنني لكِ” قُلتِ يومها وبكيتِ كثيرًا. لا أذكر ما حدث بعد ذلك لكني أذكر أني تركتُك وغادرت. كيف يهرب المرء من كلّ العالم؟ شعرتُ بكِ كبيرة جدًا في ذلك اليوم. كان الألم يجعلك تبدين أكبر سنًا، كأنّك تزوّجتِ بالفعل. كرهتكِ، وكرهتُني، وكرهتُنا لسنين طويلة. كان عليّ أن أكرهك كي أتمكن من التنفّس. لكني اليوم أعرف يا حبيبتي؛ ماذا كان بإمكانكِ أن تفعلي؟ ماذا كان بإمكاننا أن نفعل؟ قلتِ لي وقتها بصوتٍ واثقٍ ومكسورٍ، “لقد نفذَت أسبابي للرفض، وشكوك أهلي تزداد، يهدّدونني، سيقتلونني، سيقتلوننا”.

لم يقتلونا، لكننا لزمنٍ، مُتنا.

لأسابيع بعد العرس، ظلّت الجارات وأمّي يتحدّثن عنك، كم بدوتِ بهيّةً وحلوةً، متسائلاتٍ لمَ كنتِ منزويةً طوال السّهرة ورفضتِ أن ترقصي. قلن أنك كنت على الأرجح “خجولةً”، ذلك الخجل الذي يفسّرون به كلّ أحزاننا. قلن أنك لم تريدي عرسًا من الأساس لكنّ أهلك والعريس أصرّوا. قلن أنّك عدتِ إلى منزل أهلك بعد أسبوعٍ من العرس لسببٍ ما، وقلن إن أهلك أعادوك إليه. ذلك الشرف الذي يصنعون به كلّ أحزاننا. قلن وقلن كثيرًا. رحلتُ عن ذلك الحيّ بعد فترةٍ قصيرة.

سلمى، كيف يمكن أحدًا، أيّ أحدٍ، أن ينظر في عينيكِ العسليّتين، ثم يقدم على أذيّتهما؟ كيف استباحوا عنادك؟ كيف استباحوا قصّتنا؟ كلّما مشيتُ في تظاهرةٍ اليوم، أفكّر فيك. كنتِ أنتِ مواجهتي الأصعب مع هذا المجتمع، وكنتِ انكساري الأوّل.

لم أحضر العرس، لكن في تلك الليلة، تخيّلتكِ. رأيتك وشعرتُ بكِ وبتفاصيل جسدكِ، ولم أستطع أن أذرف الدّمع. في تلك الليلة يا حبيبتي، أردتُ أن أتقيّأ هذا العالم. جلستُ أرضًا وتقيّأت. أردت أن أشكوكِ لكِ، على كتفكِ أو بين ذراعيكِ، ولم أعرف يومًا كيف أبكيكِ لغيرك. كيف ننسى ونحن ممنوعاتٌ من الكلام؟ كيف أشفى وكان عليّ أن أخفيكِ كأنّكِ جريمة؟

شُطرتُ نصفَين، ولم يعد أيّ من نصفيّ يكتفي. كان عليّ أن أتعلّم من جديدٍ كيف تُعاش الحياة؛ كيف أستفيق، وأشرب القهوة، وأذهب إلى الجامعة والعمل، وكيف أجري حديثًا وأشاهد فيلمًا، وكيف أحلم، وأغنّي، وأتمشّى في الشّارع من دون هدفٍ محدّد، وكيف أرخي برأسي المتعَب على الوسادة وأغفو، وكيف أشعر وأقرأ وأكتب.

منذ تلك الليلة، تعمّدتُ ألا أرى أيًّا من الصديقات. لم أرد أن يرينكِ فيّ، أو أن ينساب اسمكِ عن خطأ في اللقاء، أو أن ينظرن في عينيّ بأسًى. لم أرد أن أراك في أعينهنّ، أو أن يسابق لساني قلبي للسؤال عنك.

أخبرَتني لمى أنك منذ تلك الليلة توقّفتِ عن الابتسام، فلمَن تركتِ غمّازتَيكِ؟

أنا أيضًا لزمنٍ، توقّفتُ عن الشعور. قضيتُ تلك الليلة والليالي التي تلت، أنتظر كما في الأفلام، أن تأتيني فجأةً لتقولي لي إنّك تركتِ كلّ شيءٍ وجئتني، إنّ زواجك المدبّر كان مزحةً ثقيلةً من والدَيك. لكنّ الحياة لا تشبه الأفلام بشيء.

أرسلَت لي رنا مرّةً تخبرني أنك تركتِ منزلكِ وزوجكِ بعد بضع سنين، وأنك في طور الطلاق. لم أعرف بمَ أجيب. لم أفرح، ولم أحزن. لم أشعر بأيّ شيء.

في نهاية الأمر، ماذا حلّ بأحلامكِ؟ هل درستِ الفنون الجميلة؟ هل سافرتِ في البحر؟ هل تسلّقتِ جبلًا شاهقًا؟ هل لوّنتِ شعرك بالأرجوانيّ؟

في نهاية الأمر، ماذا حلّ بأحلامِنا؟ كيف صرتِ امرأةً لا أعرفها؟

بعد كل هذا الوقت، توقّفتُ عن التفكير فيكِ، لكن قلبي ما زال ينكسر قليلًا كلما مرّ اسمكِ. سلمى. سلمى حبيبتي، كيف أقول اسمكِ من دون أن يؤذيني؟ كانت لديك إجاباتٌ على كل شيء، فلتجيبيني.

بعد أشهرٍ من زواجك، حاولتِ الاتصال بي مرّاتٍ عدّة، لكني لم أجب أيًا من اتصالاتك. لم يكن شيءٌ ليعيدك إليّ، لذا لم أرد أن أسمع شيئًا. كان عليّ أن أنتزع قلبي من صدري وأرميه بعيدًا كي لا أجيبك، كي أستمرّ بالحياة. ربما لن أعرف أبدًا ما كنتِ تريدين أن تقولي، لكني أعرف أنك تسامحيني، كما كنتِ تسامحينني عندما كبرنا، وصرتُ أرفض الإمساك بيدك أو الاقتراب منك كثيرًا أمام الناس. “تخجلين بي؟” كنتِ تسألينني بقصد إغاظتي. لا، لم أكن أخجل بك، بل كنتُ أخاف أن يأكل حبّك ملامحي فلا يبقى مني شيءٌ أمام الناس.

“مرّي بي. ولو لعشر دقائق”، كتبتِ لي آخر مرّة. عشر دقائق يا سلمى؟ ليس حبّنا الذي يُقال في عشر دقائق.

هل تعلمين كم جاهدتُ نفسي كي لا أجيب على اتصالاتك ورسائلك؟ كي لا أقود في ثمالة الليل إليكِ، وأطرق بابكِ، لا لأقول لكِ أيّ شيءٍ، بل فقط لنحصل على بعضنا البعض لبضع ساعاتٍ، لعلّك تشعرين باحتراقي، لعلّي أخبركِ عن ألمٍ في صدري، وعن سعالٍ لا يتوقّف؛ سعال كلّ الكلام الذي لم أقله يومًا لكِ ولهذا العالم.

كنتُ أحيانًا أغضب من استسلامك، أنت التي كنت أشدّنا عنادًا وأكثرنا حلمًا، لكني مع الوقت تعلّمتُ أن أفهمك، وأن أحترم أسبابكِ وطرقكِ في المقاومة ولو أنها شقّت قلبي. ولم أستطع يومًا أن أغضب منكِ فعلًا. لو أنّكِ قبل أن ترحلي نظرتِ في عينيّ وقلتِ لي إنّك لم تعودي تريديني أو إنّك توقّفتِ عن حبّي، لربّما كنتُ استطعتُ أن أتصالح مع الخسارة. لكن ما أفعل وأنا أعرف أنّنا استُبِحنا بكلّ ما في هذا العالم من قوّةٍ وسلطةٍ وسطوة؟ كيف أتصالح مع معرفتي بأنّنا سُلِبنا بعضنا البعض؟ كيف أقبلُ نفسي وقد جُرّدَت من القرار وأُفرغَت من المعنى؟

منذ خمس سنين، رأيتكِ في حيّ الكندرجيّة الذي كنا نجلس معًا تحت أدراجه بعد صفوف المدرسة، ثم بعد صفوف الجامعة. رأيتك تعبرين الطريق ممسكةً بأكياسٍ كثيرة. كبرتِ. لكن عيناكِ ما زالتا قمرَين صغيرَين، وما زلتِ تتحرّكين بخفّةٍ وتسرحين حين تمشين، وتسدلين شعرك فتتدلّى فوق عينيك خصلةٌ قصيرةٌ متمرّدة. كنتُ أراقبك أحيانًا، تنهضين وتقفين أمام المرآة، تجمعين الخصلات الكثيفة بأصابعك الدقيقة وتربطينها إلى أعلى، ثم تتصارعين مع الغرّة وتتأفّفين، وتهبط شعيراتٌ رقيقةٌ من كعب رأسك على رقبتك كأنها تتسابق لتكرج على ظهرك العاجيّ، فتُجنّ دقّاتُ قلبي من جديد؛ تنظرين إليّ في المرآة وتبتسمين، وبهدوئك العذب تقولين: “أعرف، أعرف”، ثم تستديرين بخفّةٍ وتعودين إليّ.

في تلك الليلة، عدتُ إلى بيتي وفي قلبي غضبٌ بات بطعم حزنٍ عتيق. هذه المرّة كنتُ في بيتي الخاصّ، وحدي، بلا أحدٍ يتطفّل على جراحي، لكني مرّةً جديدةً جلستُ أرضًا، وأردتُ أن أتقيّأ هذا العالم.

تؤلمني عظام صدري، وتستبدّ بي نوبة السّعال.

سلمى. كنتِ حرّةً كنسمةٍ صيفيّة، وحلوةً كعطر البرتقال، كشرفةٍ بحريّة، كوعدٍ قديم.
أذكر جسدك الراكض في دمي. كم كنتُ أعرفه. أعرف تلك الشامة الداكنة خلف ركبتك اليسرى حيث كنتُ أقضي وقتًا ولا أتعب. تعذّبني تفاصيلنا الحميمة يا سلمى؛ عيناكِ اللّتان كانتا تخترقانني في أكثر لحظاتنا عريًا وصدقًا، وتلك الساعات التي كنا نغيب فيها في بعضنا البعض عن هذا العالم. كنتِ لا تكتفين من اقترابنا، فتطوّقينني وتظلّين تشدّينني إليكِ أكثر كأنّك تحرسيننا من كلّ أسباب الرحيل. “لا تبتعدي”، “لا أستطيع أن أبتعد”. أيّها كلماتك وأيّها كلماتي؟ لا فرق. ينعجن جسدانا سويًا ويكتملان، كأنّهما صُنِعا ليكونا معًا، كأنّهما جسدٌ واحد. أذكر الشعيرات الرقيقة في تلك الرقعة الناعمة خلف أذنك، حين أحتضنك من الخلف ويغرق وجهي في رقبتك وشعرك وكتفك. يفيض بنا العشقُ، وننتهي دومًا في عناق. “أحبّك”، “أحبّك”. لا فرق. أطوّقك بذراعيّ لتستريحي فيّ، وأحتاج أن تحتضنيني لأستكين. “هذه هي الحياة”. لا أجيب. لا أجيب كي لا يجرح صوتي صمتنا الجميل.

يؤذيني أني لم أعد أعرفك، كأنّ كلّ ذلك الحبّ لم يقع فينا يومًا.

لسنين، توقّفتُ عن الكتابة، لأني لم أكن لأكتب إلا عنكِ. الآن أكتب، لكن لا شيء يحرّرني. مذ قرّرتُ الكتابة عنك، أجدني أكتب وأمحو مرارًا، أغيّر كلمةً هنا وعبارةً هناك. لا شيء يشبهك حقًا، لا كلام يبلغك فعلًا. أكان كثيرًا علينا أن نريد من كلّ هذا العالم بعضنا البعض؟

حبيبتي سلمى، لستِ أنتِ التي تنتهين، لكن قريبًا، سيكون عليّ أن أنهيَ الكتابة وأدَعَ قلمي يستريح.

بقلم: سناء م.

في  #اليوم_العالمي_لمناهضة_رهاب_المثلية_الجنسية 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد