الإجبار على العمل في الجنس في لبنان .. اللاجئات هن النسبة الأكبر

“ما حدا جابرها (أجبرها)”، “كان فيها تشتغل غير شي”، “باعت شرفها”. هذه عينة من الأقوال والأحكام التي نسمعها عندما يُفتح موضوع النساء العاملات في الجنس أو “الدعارة”، وفقاً للمصطلح المستخدم  في القانون اللبناني، كما في الثقافة الشعبية.

وهو الموضوع الذي لا يزال موضع جدلٍ ونقاشٍ كبيرين، لا سيما ضمن الأوساط النسوية والحقوقية. إذ تتراوح الآراء؛ بين من يدعم/تدعم حق النساء بممارسة العمل في الجنس باعتباره مهنة مع المطالبة بتشريعها وتنظيمها وكفالة آليات حماية لهن، وبين من يرى/ترى فيه استغلالاً وعنفاً واتجاراً متجذراً في الثقافة الأبوية التمييزية ضد النساء والفتيات.

يتناول هذا المقال قضية الإجبار على العمل في الجنس الذي تقع ضحيته نساء من الأكثر تهميشاً في لبنان، وعلى رأسهن  اللاجئات السوريات والعاملات المهاجرات.

فبحسب أرقام وإحصاءات المديرية العامة للأمن العام، كان عدد اللاجئات السوريات اللواتي  قبض عليهن بتهمة “العمل في الجنس” بين عامي 2011 و2018، مرتفعاً جداً. فشكلن نسبة 30% من الموقوفات، ليرتفع  هذا الرقم إلى 69% بعد سنتين فقط، ثم 77% عام 2015، وبلغ 57% عام 2018.

بينما كشفت مصادر من الأمن العام اللبناني أن النساء والفتيات اللبنانيات واللاجئات السوريات، اللواتي يتعرضن للإجبار على العمل في الجنس بسبب هشاشة وضعهن، يشكلن نسبةً كبيرة من ضحايا الاتجار بالبشر والإرغام على هذا العمل.

ووفقاً للعمل الذي تجريه جمعية “كفى عنف واستغلال” مع الموقوفات في مخفر حبيش منذ سنوات، فإن نسبة اللاجئات السوريات شكلت أكثر من نصف عدد الموقوفات، فتراوحت بين 60 و65 %.

وأوضحت منسقة البرامج في وحدة الاتجار بالبشر في جمعية “كفى عنف واستغلال” جولي الخوري، الخصائص المشتركة بين ضحايا الاتجار بالبشر والإرغام على العمل الجنسي. فقالت إن “معظم هؤلاء النساء كن يعشن في ظروفٍ مادية واجتماعية صعبة جداً قبل عملهن في هذا المجال”.

وأضافت أن “الضحايا إجمالاً هن نساء وفتيات قاصرات، بعضهن يأتين من خلفياتٍ عائليةٍ مليئة بالعنف الجسدي أو الجنسي من قبل العائلة أو من أفراد غرباء. وغالباً تكون أوضاعهن القانونية مثل صعوبة الحصول على أوراقٍ قانونية أو إقامات أو غيرها، ومستواهن التعليمي المتدني وصعوبة إيجاد عملٍ أو مسكنٍ لفترةٍ طويلة وتراكم الديون، من أبرز العوامل التي تجعلهن يقعن ضحايا هذا العمل”.

الأوروبيات ضحايا أيضاً!

لكن اللاجئات لسن وحدهن المستهدفات. فاللائحة تتضمن نساء أثيوبيات وسودانيات ومن جنسياتٍ أخرى عدة، اللواتي كن عاملاتٍ منزليات وهربن من بيوت كفلائهن ليقعن ضحايا لعصاباتٍ ترغمهن على العمل في الجنس.

وأشارت مصادر من الأمن العام اللبناني إلى أن أكثر من 5 آلاف من النساء اللواتي يعملن في هذه المهنة يأتين من بلدان أوروبا الشرقية. كما كشفت دراسة أجراها مكتب الأمم المتحدة المختص بالمخدرات والجريمة الدولية في بيروت بالتعاون مع وزارة العدل اللبنانية عام 2008، أن عدداً كبيراً جداً من ضحايا الاتجار بالبشر والإجبار على العمل الجنسي، يأتين من بلادٍ فقيرة هارباتٍ من البؤس إلى لبنان على أساس أنهن سيعملن كراقصات أو عارضات أزياء مقابل مبلغٍ لا يمكنهن جمعه في بلادهن، ويوقّعن على عقد عملٍ مكتوب باللغة العربية، ما يعني أنهن لا يفهمن مضمونه، وحين يصلن إلى لبنان يكتشفن الخدعة.

وهذا تماماً ما حصل مع جيجي التي جاءت إلى لبنان للعمل فوجدت نفسها رهينة ومخطوفة.

لم تنم جيجي ليلة سفرها إلى بيروت من كثرة تفكيرها في ما تحمله لها هذه الرحلة. “غداً أبدأ حياةً  جديدة وكريمة مع طفلي”، قالت لنفسها.

كل ما أرادته هو الهروب من الفقر الذي تعيشه في أوكرانيا، لكن سرعان ما انطفأت أحلامها عندما وصلت إلى مطار بيروت. أُخذ منها جواز سفرها وسُلّم (كما عرفت لاحقاً) إلى صاحب أحد الملاهي الليلية في منطقة جونية- المعاملتين. أُخضعت لفحوصاتٍ طبية للتأكد من عدم حملها، وعدم إصابتها بأي أمراضٍ منقولة جنسياً، ثم وضعت في غرفة ومُنعت من الخروج قبل صدور النتائج. وفي الساعة الـ72، قيل لها: “إفرحي، ليست لديكِ أي مشكلة. ستبدأين عملك اليوم”.

لم يكن للعمل الذي ينتظرها هنا أي صلة بعمل عارضات الأزياء كما وُعدت. فتمردت ولم ترضخ لأوامرهم، وكان “عقابها” الضرب والتجويع. وحين طالبت بالعودة إلى بلدها، قيل لها: “يجب أن تسددي تكاليف استقدامك كاملةً”.

لذلك، أجبرت على ممارساتٍ جنسية لا تريد القيام بها، واضطرت إلى مجالسة زبائن الملهى حتى ساعاتٍ متأخرة من الليل. وفي حال أعجب بها أحدهم يدفع للملهى ويقلها في اليوم التالي في ساعات فراغها.

لم يشبه أي زبون الآخر، وكان لكل واحدٍ منهم رغبات مختلفة، منها ما هو غريب ومخيف.

هكذا، أصبحت حياة جيجي مقيدة بيد هؤلاء الأشخاص، وكأنها مخطوفة. لا يُسمح لها بالخروج ولا التحدث مع أحد.

هذه القصة هي عينة صغيرة من قصصٍ كثيرة لا يعرفها الناس مليئة بالألم والعذاب، تنقل معاناة ضحايا الاتجار بالبشر في لبنان.

فما هو تعريف الاتجار الجنسي في القوانين العالمية؟

الإجبار على العمل في الجنس هو أحد أنواع الاتجار بالبشر. وتعرف عنه المادة “3 أ” من بروتوكول الاتجار بالأشخاص على أنه “تجنيد أو استخدام الأشخاص من دون موافقتهم/ن أو بالقوة لاستغلالهم/ن بطرقٍ عدة من بينها مجال الدعارة أو الأعمال الجنسية”.

وقد أُقر ما سمي بـ“قانون الدعارة” في لبنان عام 1931 في عهد الانتداب الفرنسي، وكان الهدف منه تلبية رغبات جنودها. وهو يسمح بالترخيص للنساء ولبيوت العمل الجنسي، إلا أنه بقي حبراً على ورق. فآخر رخصة صدرت كانت عام 1977، ما يعني أن كل من يعمل اليوم في هذا المجال غير مرخص.

ويعتبر لبنان، بحسب جولي الخوري “مصدراً ومقصداً للاتجار الجنسي بالبشر، وتنتشر هذه البيوت المغلقة في الـSuper Night Clubs وعبر الإنترنت وفي أماكن التدليك، أو حتى في الشوارع، على الرغم من أن هذه الظاهرة محظورة ومجرمة في البلاد”.

بينما صدر عام 2011 القانون رقم 164 الذي يعاقب كل من “يعمل في الاتجار بالبشر، ومن يطلب من الضحايا ممارسة العمل الجنسي مقابل منافع مادية أو غيرها. وتشمل العقوبة السجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، وغرامة تتراوح بين 100 ضعف و200 ضعف الحد الأدنى للأجور. أما إذا تمت هذه الأفعال باستخدام العنف أو الخداع أو التهديد أو غيرها من أنواع الضغط على المجني عليه/ا، فتصبح العقوبة السجن لمدة 7 سنوات”.

لكن، بحسب الخوري فإن “هذا القانون ليس فعالاً ولا يهدف إلى حماية الضحية/الناجية أو تشديد العقوبة على مرتكبي الجريمة. والدليل الأكبر على عدم فعاليته هي قضية الملهيين الليليين Chez Maurice وSilver، حين قبض على ما يعتبر أكبر وأخطر شبكة اتجار جنسي بالبشر  في لبنان، ضمت نحو 75 فتاة، معظمهن من اللاجئات السوريات أو فتيات تم إحضارهن من العراق أيضاً بطرقٍ مختلفة”.

وأكدت الفتيات خلال التحقيقات التي جرت حول هذه القضية، أنهن “تعرضن لأسوأ أنواع الضرب والاحتجاز والتعذيب”، كما أن معظمهن “خُدِعن للعمل في هذا المجال بعد أن وُعدن بوظائف شريفة”.

تعود هذه القضية إلى العام 2011، حين داهمت الشرطة المكان للمرة الأولى من دون اتخاذ إجراءات، ثم تم الكشف عن الشبكة عام 2016! لكن ما زالت هذه القضية حتى اليوم قيد المعالجة في المحاكم، ولم تتلقَ الضحايا/الناجيات أي حماية. ولم يُعاقب التجار والمستغلون كما توعد القانون، بل أُخلي سبيل شريك مالك الملهيين عام 2017، بعد عامٍ من الفضيحة الكبرى بكفالةٍ مالية قدرها 20 مليون ليرة لبنانية.

بين عامي 2011 و2016، 5 سنوات عرفت فيها أجهزة الدولة بهذه الشبكة التي تعمل في هذين الملهيين، ولم تتخذ أي تدابير إلا حين سلّط الإعلام أضواءه على فضيحة الـ75 رهينة. فهل من حماية سياسية وأمنية لهذه الشبكة؟ مع العلم أن المالك كان موقوفاً لمدة 3 أشهر بينما العمل لم يتوقف؟

يذكر مقال لهديل فرفور في صحيفة “الأخبار” اللبنانية، أنه بحسب إفادات بعض المطلعين والفتيات المحررات، يتم إقفال عدد كبير من الملاهي الليلية بالشمع الأحمر لمدة يومين أو أقل. وحين تُوقف الأجهزة المعنية أحد أعضاء الشبكة أو فتيات يجبرن على العمل في الجنس كان يفرج عنهم/ن من دون إنهاء الإجراءات أو التحقيقات ومن دون توفير الحماية للفتيات، على الرغم من أن المادة 523 من قانون العقوبات تجرّم بالتساوي الضحية/الناجية ومن يجبرها على هذا العمل، وبالطريقة نفسها.

أي أنه وفقاً للقانون، تحاسب النساء المُستغلات كما يحاسب صاحب الملهى أو رئيس الشبكة المستغل. لكن الضحايا/الناجيات لا يخضعن لقانون الاتجار مثلهم مثل “تجار البشر”. على العكس، نرى أن اللوم يلقى دائماً عليهن وحتى على المرتكب الأول للجريمة، بينما يتم تجاهل تماماً معاقبة من يطلب هذه الخدمات، وهو العنصر الرئيسي في هذه الحلقة، فتلبية رغباته هي أساس هذا الاتجار.

لكن القانون لا يطبق كما ذكرت الخوري، بينما يستمر توقيف الضحايا/الناجيات، فيحولهن إلى “مذنبات”، على الرغم من كل الانتهاكات التي يتعرضن لها أساساً خلال إرغامهن على هذا العمل.

إذن، من يحمي ضحايا الاستغلال الجنسي؟

يعود الدور الأبرز في حماية ضحايا الاستغلال الجنسي، إلى الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تتدخل لتأمين وتوفير الحماية لهن من هذه الجريمة. كما تحمي الضحايا والناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي.

وتعتبر جمعية “كفى عنف واستغلال” من أبرز هذه الجمعيات، وهي توفر كافة أشكال الدعم والخدمات لهؤلاء النساء من خلال تأمين مراكز إيواء وتقديم خدمات اجتماعية وصحية ونفسية وقانونية وفرص تمكين وبناء قدرات.

يمكننا كتابة الكثير من من المقالات حول هذه الظاهرة بالأرقام والحقائق، لكن القصص الحقيقية هي الأكثر ألماً في هذه القضية. فتبقى جيجي وغيرها من النساء هن من يتألمن في سجنهن الذي فرضه عليهن رجلان؛ واحد يهوى المال والعنف والسلطة، وآخر لا يرى في النساء إلا ما يلبي شهواته الجنسية، وبأي ثمنٍ كان.

لذلك إذا قلتَ/تِ يوماً عن فتاة العبارات والأحكام التي بدأنا بها المقال، والتي تلوم الضحية فأنتَ/تِ الآن تعرف/ين من أجبرها، وخطفها ومنع عنها حريتها.

 

في حال تعرضكن لأي شكلٍ من أشكال العنف، نقدم لكنّ لائحة بأبرز المنظمات والجهات الموجودة على كافة الأراضي اللبنانية والجاهزة لتقديم الاستشارة والخدمات القانونية والنفسية والاجتماعية المجانية لكن، في أي وقت.

جمعيات

 

جمعيات

 

جمعيات

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد