رجال الدين .. خصوم النساء
أكثر من سنتين حاولت خلالهما سمر (اسم مستعار) الحصول على وثيقة طلاقها من الشيخ الذي قام بتطليقها من زوجها السابق. تهرُّب الشيخ كان بسبب سلطة الزوج الذي كان يعمل في مؤسسته التعليمية.
حاولت مراراً وتكراراً الوصول إلى حل مع هذا الشيخ من دون جدوى. فقام بعرقلة تثبيت طلاقها لدى المحكمة الجعفرية بحجة أن الورقة اختفت!
“كيف لورقة بهذه الأهمية أن تختفي؟”، تساءلت سمر في حديثها لموقع “شريكة ولكن”. كانت في كل مرة تطلب تسليمها الوثيقة يقول لها: “إذهبي إلى المحكمة الجعفرية وقولي لهم أن يطلبوها مني على الهاتف”. وأضافت أن “خوف الشيخ من طرده من العمل في المؤسسة التي يملكها زوجي السابق هو السبب”.
قصدت المحكمة الجعفرية أكثر من مرة لشرح الوضع لهم وما يتم ممارسته عليها من تسويف ومماطلة، فكانوا يهاتفون الشيخ ويطلبون منه تسلميها الوثيقة. وفي كل مرةٍ يتدخل الزوج السابق عبر تهدئة الأمور معها وإسكاتها عن مطالبتها بتثبيت طلاقها، باللجوء إلى ورقته الرابحة، وهي ابنها. فكان يسمح لها برؤيته ويتراخى في شروط الرؤية بعد أن لجأ إلى ممارسة “حقه الشرعي” وهو الاستئثار بتربية الطفل وحرمانه من والدته بعد أن بلغ عامه الثاني فقط.
معاناة سمر طويلة، وهي تعلم مسبقاً بأحكام قوانين المحكمة الجعفرية التي تقضي بحرمان الأم من أطفالها في عمرٍ معين. فآثرت الرضوخ إلى ابتزازات زوجها السابق وشروطه حتى تتمكن من تربية ابنها. وبعد أن ضاقت بها سبل الصبر اضطرت إلى الانتفاض والتمرد على واقعها باللجوء إلى القضاء الشرعي. فأن تحظى برؤية ابنها لـ24 ساعة أفضل من لا شيء. وحين قررت اللجوء إلى المحكمة لم تجد معها ورقةً تُثبت طلاقها.
مصائر النساء رهن مزاجية الرجال ورجال الدين
مزاجية الزوج السابق كانت تتحكم في كل شيء، فقرر بعد سنتين من تطليقها مرغماً على تسليمها ورقة الطلاق. لم يكن الأمر سهلاً، إذ اضطرت إلى افتعال إشكالٍ كبيرٍ معه ورفع صوتها أمام الناس للحصول عليها ونجحت أخيراً. حينها بدأت الخطوة الثانية، التي تتمثل بتثبيت الطلاق في المحكمة الجعفرية لرفع دعوى الحضانة ومنع سفر ابنها مع والده.
عندما سألها القاضي لماذا تقومين بإجراء منع السفر، قالت له: “أخاف على ابني من الهجرة لأن والده يريد تسفيره من دون تأمين ولا ضمانات”، فجاء رد القاضي صادماً بحسب سمر، فقال: “يعني إنت رح تعرفي تأمنيه؟”.
لا يخفى على أحد ممارسات المحاكم الدينية ورجال الدين ضد الأمهات في لبنان. هي عملية سلخ تنتهجها بالاستناد إلى قوانين أكلها غبار الزمن، ويصر رجال الدين على إحيائها بكل الطرق الممكنة. ويتعدى ظلمهم للنساء إلى ممارسات عنيفة تبدأ بالوقوف في صف الرجال لأنهم “قوامون على النساء” كما يزعمون.
وكل ما يفعلونه هو تعبيد الطرقات أمامهم لاستمرار سيطرة حكم نظامهم الذكوري. عنف وصل إلى حد الاضطهاد، فهم لا يكتفون بالسماح بتضييق الخناق على النساء، بل وصل بهم الأمر إلى حد تطوير أدوات تساهم في هذا الاضطهاد وتكرّسه.
وتتمثل تلك الأدوات في الاستخفاف بمطالبهن وعرقلة الحصول على حقوقهن المنصوص عليها في القوانين التي يحتكمون إليها، أو يعمدون إلى التحرش الجنسي الذي يمارسه بعضهم أو طلب أموال مقابل تيسير الحصول على مطالبهن.
عروض رجال الدين للنساء مقابل إعطائهن حقوقهن!
تحكي حنين (اسم مستعار) لموقع “شريكة ولكن” قصة طلاقها وتعرضها للعنف والضرب على يد زوجها لسنواتٍ طويلة، وحين قررت الطلاق ذهبت إلى مكتب المرجع السيد محمد حسين فضل الله وقدمت ملفاً مدعماً بالدلائل حول ما تتعرض له في منزلها الزوجي. وبعد اقتناع المرجع حصلت على طلاق الحاكم الشرعي، وهو حكم يحصل من دون رضى الزوج لأسبابٍ تستوجب حماية النساء، وعادةً تكون الأسباب، هي العجز الجنسي أو هجر الزوج أو الضرب والتعنيف.
حصلت حنين على طلاق الحاكم وقصدت المحكمة الجعفرية لتثبيته رسمياً، إلا أن رجال الدين اعتبروا هذا الطلاق باطلاً ورموا الورقة في وجهها، بحسب ما أكدت حنين. وقالت إن “نفوذ الزوج وانتمائه إلى جهةٍ حزبيةٍ ساهم في عرقلة الطلاق. 4 سنوات وأنا أحاول تثبيت طلاقي. وكان يتم تأجيل الجلسة، وأقصر مدة زمنية بين الجلسة والثانية 5 أشهر. بالإضافة إلى حرماني من رؤية أطفالي لأكثر من سنة”.
جالت حنين على مشايخ كثر قاموا بإذلالها جميعهم. أكثر من شيخ حاول التحرش بها، منهم من يريد رقمها مقابل حل الموضوع، 3 عرضوا عليها إجراء عقد زواج متعة معها، ومنهم من قام بذلك بطريقة غير مباشرة. وأضافت: “يخبرونني عن علاقتهم الزوجية وما يعيشونه من مشاكل مع زوجاتهم في محاولةٍ للتقرب مني. والحجة دائماً جاهزة، لدينا نقص عاطفي. كنت أعود إلى المنزل باكيةً في كل مرة، أنظر إلى نفسي متسائلة هل يبدو مظهري بأنني سهلة ويسهل إغوائي؟ هل أشكو من شيء؟”.
4 سنوات عاشتها حنين بين أروقة المحكمة الجعفرية والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وتصف ما يحصل هناك بـ”الأسوأ على الإطلاق”. وتحكي عن النظرات التي وجّهت إليها ومحاولات السمسرة والزبائنية، والقاضي الذي يحكم على مظهر النساء خلال الجلسات. وقالت: “طريقة التعامل تعتمد على وجود خاتم زواجٍ في أيدي النساء من عدمه”.
انتهى الكابوس باتصالٍ من زوجها السابق يعرض عليها الطلاق مقابل مبلغ 50 ألف دولار نقداً. لم ترفض حنين العرض، باعت جزءاً من أرضٍ ورثتها عن عائلتها وذهبت إلى المحكمة بحقيبة مليئة بالمبلغ. دفعتهم أمام القاضي لطليقها. وأوضحت لموقعنا أن “القاضي حاول مساومة الزوج وقال له خذ منها نصف المبلغ، أو 30 ألف دولار، هذا كل ما قام به القاضي آنذاك”. لكن حنين حينها حسمت الجدل وأنهت المزاد القائم على طلاقها ودفعت المبلغ كاملاً وذهبت.
بعد ذلك، تنازل الزوج عن أولاده متخلياً عن كامل مسؤوليتهم، فصارت تعمل لإعالة عائلتها. وقررت رفع دعوى نفقة للحصول على مبلغٍ يساعدها وابنتها كونها الوحيدة القاصر. الاستهزاء الذي عاشته أمام رجل الدين لا يوصف.
فأكدت حنين: “قال لي الشيخ عندما ذهبت لإتمام الدعوة أنت وأولادك ذاهبون إلى جهنم لأنني اشتكيت على والد أولادي بعدم دفع نفقتهم/ن، وقالها بصوتٍ عالٍ وأمام الأولاد والموجودين في المحكمة”.
تتشابه قصص النساء في المحاكم الجعفرية ومعاملة رجال الدين لهن. وتختبرن أبشع أنواع الذل والاحتقار والتهميش والاستخفاف بهن لدى محاولتهن الحصول على حقوقهن. إذ ترعى هذه المحاكم والمؤسسات الدينية نظاماً أبوياً يعمل على إقصاء النساء وعرقلة الحصول على حقوقهن باسم الدين.
قصة سلام .. “محاولات مريرة”
بالنسبة إلى سلام (اسم مستعار) يبدأ العنف من قبل رجال الدين منذ لحظة عقد القران حين يطلب منها تكرار صيغة الزواج التي تختصر المرأة بالجنس: “نكحتك نفسي”. عبارة يُطلب من الراغبة بالزواج قولها على مسامع الحاضرين خلال عقد القران. وهي أكثر ما أزعج سلام، بحسب ما عبّرت في مقابلة خاصة لموقع “شريكة ولكن”.
“محاولات مريرة”، هكذا تصف المساعي التي قامت بها للطلاق من زوجها. كانت في كل مرة تقف أمام القاضي في المحكمة طالبةً الطلاق يقوم بطردها “يلا ع البيت” بحزم. “في كل مرة يأمرني بالعودة إلى المنزل من دون ردٍ على طلبي. في المرة الأخيرة كنت أنا وزوجي نخبره بأننا نريد الطلاق فنظر إليه قائلاً خود مرتك وروح عالبيت، فقدت أعصابي حينها وبدأت بالصراخ فأمر اثنين من عناصر الدرك برميي خارج أبواب المحكمة ومُنعت من الدخول إليها”.
وتابعت: “بعدها استطعنا الوصول إلى أحد رجال الدين خارج أبواب المحكمة، فقمنا بإجراء الطلاق بعد دفع مبلغٍ من المال. وقبل خروجي، طلب الشيخ رقمي قال إنه يريد محادثتي في أمرٍ خاص فرفضت”.
وعن هذه الانتهاكات التي تعاني منها النساء يومياً في أروقة المحاكم الشرعية، قالت المحامية ليلى عواضة وهي عضوة مؤسسة في جمعية “كفى عنف واستغلال” في حديث لـ”شريكة ولكن” إن “هذا النوع من العنف الذي يمارس على النساء ونشهده أمام محاكم الأحوال الشخصية الطائفية، يعود إلى أن نظرة المحاكم الروحية والشرعية للنساء واحدة، وهي أنه عليهن تقديم واجب الطاعة. وينظر لهن كتابعات لسلطة الرجال في إطار الأسرة، من هنا يقوم رجال الدين في المحاكم بالتشديد على النساء وعلى أدوراهن التقليدية والتبعية، ويعمل على محاكمتها ومحاسبتها في حال خالفت الطاعة كأنه يريد تربيتها”.
وأضافت: “هذه المحاكم تميز بين الرجال والنساء من جهة، وبين النساء أنفسهن بحسب الطائفة التي ينتمين إليها. إلا أن هذه المحاكم تتفق في بنيتها على اعتبار النساء ناشز في حال خروجها عن الطاعة وعدم اعترافها بالسلطة الأبوية”.
وذكرت مثلاً كيف تُختصر حضانة الأمهات بالدور الرعائي فقط، وعليه، هي لا تملك سلطة القرار ولا تترافق معها المسؤولية القانونية. من هنا تكرس هذه المحاكم السلطة الذكورية”.
كما أكدت أنه من الصعب إصلاح المحاكم الطائفية، “لذلك نطالب بإلغائها وإلغاء دورها والعودة إلى الدولة. فعندما تذهب النساء إلى المحكمة الطائفية تتفاجأ بأن القاضي تحوّل إلى خصم لها بينما الرجال يدخلون المحاكم مدعومين من دون وجود محامٍ في كثيرٍ من الأحيان لأنهم يثقون بأن هذا المكان يحمي حقوقهم كذكور”.
يكثر الحديث حول العنف في أروقة المحاكم الجعفرية، ويعتبر أحد أوجهها عقد المتعة، فهو عرض تحصل عليه النساء المطلقات والأرامل من قبل أي رجل من الطائفة الشيعية وحتى من قبل رجال الدين، الذين يعتبرونه عرضاً يحق لهم تقديمه إلى النساء من منطلق العرض والطلب بحماية الدين. وبالتالي، أشارت عواضة إلى أنه “لا يتم النظر إليه على أنه تحرش نظراً لوجود مسوّغ شرعي له.
وهذا العقد، إذا تم عرضه من قبل رجل يملك سلطة معينة يمكن تفسيره على أنه عملية إخضاع للنساء لمطالب وضغوطات في مقابل حصولهن على حقوقهن طبعاً في حال قبلن العرض، أو حرمانهن من الحقوق في حال رفضن “المتعة”.
ترى عواضة أن “ممارسة العنف الجنسي والتحرش والابتزاز ليس حكراً على المحاكم الطائفية، بل هو موجود وتتعرض له النساء أينما كان. هو سلوك المجتمع الذكوري السائد ويكثر لدى أصحاب السلطة. إلا أنه داخل المحاكم الطائفية تكون النساء أكثر عرضةً للابتزاز المادي والجنسي للحصول على منافع جنسية والسبب أنه داخل هذه المحاكم لا تملك النساء الحقوق، وبالتالي يعتبر القضاة ورجال الدين أنهم يمنحون النساء حقوقاً ليست لهن، كل ذلك في ظل غياب القوانين وآليات الحماية”.
يظهر أثر العنف على النساء على شكل صدمات، ويعود ذلك إلى الصورة النمطية المكرسة ومحاولات تقديس رجال الدين على اعتبار أنهم “رجال الفضيلة ويطبقون كلام الله”. وحين تتعرض إحداهن للعنف الجنسي، تعيش صدمة ومفاجئة غير متوقعة لا سيما أن هذا العنف يحصل داخل المحكمة، أي المكان الذي لجأت إليه لحمايتها وتحصيل حقوقها.