قوانين الأحوال الشخصية مقبرة العدالة.. نعم للمحاكم المدنية!

“لا حماية” و”لا مساواة”. مصطلحان كفيلان باختصار معاناة النساء مع قوانين الأحوال الشخصية في لبنان. إذ تهيمن الاستنسابية في التعاطي، والإجحاف واضح على أكثر من صعيد، مثل الطلاق وتبعاته الاقتصادية والنفقة والحضانة والمشاهدة والاصطحاب، واللائحة تطول.

لا قانون موحد للأحوال الشخصية في لبنان. فلكل طائفة قانونها الخاص تطبقه محاكمها وتصدر الأحكام والقرارات التي لا تخرج عن طور العباءة الدينية. وربما يكون سن الحضانة أحد الأمثلة التي تعكس بشكلٍ واضحٍ الخلل في التعاطي بين الأمهات والآباء.

بالنسبة إلى الطوائف الإسلامية، كانت سن الحضانة لدى المذهب السني محددة بـ7 سنوات للفتيان و9 سنوات للفتيات، قبل أن تؤدي ضغوط المجتمع المدني إلى تعديلها. فرُفعت إلى 12 عاماً للفتيان و14 عاماً للفتيات عام 2014.

أما في المذهب الشيعي، فإن سن الحضانة هو سنتين للفتيان و7 سنوات للفتيات، كما أن الأمهات يفقدن الحضانة كلياً في حال كن على غير دين الوالد.

بينما خرجت الطائفة الكاثوليكية عن الأعمار المذكورة، وحددت سناً للرضاعة وليس للحضانة، فيحق للأطفال/الطفلات البقاء مع أمهاتهم/ن سنتين، لتكون بعد ذلك الحضانة للآباء. كما أنها مشروطة ومؤقتة حين يتعلق الأمر بالأمهات، فهن مهددات بخسارتها في حال قررن الزواج مرةً ثانية، لتسقط الحضانة تلقائياً. ما وضع نساءٍ كثيرات أمام الخيار الأصعب، وهو البقاء وحيدات مدى العمر كي لا يخسرن أولادهن.

والأسوء من ذلك، أنه في المقلب الآخر، يهنئ القانون بعض الرجال إذا اتخذوا القرار بالزواج من جديد، ويمنحهم الحضانة على طبقٍ من فضة كهديةٍ للعروسين. لماذا؟ لأن القانون ينظر إلى هذا الزواج كـ”عائلة وبيئة مؤهلة لتربية الأطفال/الطفلات”، لكن زواج النساء مرةً أخرى يعتبره المجتمع ويوصمه على أنه “أنانية منهن” ويجعلهن “غير مؤهلات لتربية أطفالهن”، ما يضع الحضانة على المحك.

وبالتأكيد لم نتمكن من تفسير هذه الازدواجية في التعاطي إلا بالقول إن القانون يهمش النساء ويحاول استضعافهن بكل الطرق الممكنة، فالقوانين مفصلة على قياس الرجال فقط ولا مكان للنساء.

وفي حديثٍ خاص لموقع “شريكة ولكن” أكد المحامي جورج حداد من منظمة “عدل بلا حدود”، من خلال مشاهداته أن “الأمهات مُستغَلات لدى المذهبين السني والشيعي ويتم الضغط عليهن للتنازل عن حقوقهن كافة مقابل إعطائهن الحضانة أو حتى الطلاق”.

ويعود السبب الرئيسي بحسب حداد إلى أن “المذهبين المذكورين يعطيان للرجال حقاً مجحفاً بحق الأمهات، هو رفض طلبهن الطلاق ما يتيح لهم الضغط عليهن للتنازل عن جميع حقوقهن كالمهر والحضانة وحتى حق رؤية أطفالهن”.

وإذا رفضت النساء، تنتقل القضية إلى المحاكم التي تعطي الرجال حق رفع دعوى مساكنة لإلزام النساء على مساكنتهم، ويربحون الدعوى من دون شك. وفي حال أصرت النساء على الطلاق، لا يحصلن أبداً على أي تعويض أو نفقة أو مهر أو مؤخر أو مقدم.

مشاهدة واصطحاب

بعد تحديد الحضانة، وفي حال خسارتها، يكون أمام الأمهات حل بديل هو مشاهدة واصطحاب الأولاد لفترةٍ معينة تقررها المحكمة. لكن هذا الخيار مصحوب بعراقيل عديدة. أولها، وفي معظم  الأحيان، تخلّف بعض الرجال عن إحضار الأطفال/الطفلات في الموعد المحدد.

ويكون السيناريو في هذه الحالة أشبه بذاك الذي نراه في الأفلام. فتضطر الأمهات إلى اللجوء إلى القوى الأمنية لرؤية أطفالهن بالقوة، لكن العامل النفسي يبقى الأساس في هذا السيناريو، ما يُبعدهن عن اللجوء إلى هذا المخرج، الذي يحمل في طياته تأثيراً كبيراً على صحة الأطفال/الطفلات النفسية. في المقابل، قد يعرضهن قرار العزوف عن اللجوء إلى هذا الحل لمشكلةٍ كبيرة، لأن بعض الآباء قد يستفيدون من ذلك لإقناع الأولاد بأن أمهاتهم/ن لا يرغبن برؤيتهم/ن.

لذلك، عملت منظمة “عدل بلا حدود” على دعم الأمهات وتمكنت من الدخول على خط القرارات لتغريم الآباء بقرار قضائي يجبرهم على دفع مبلغ مالي في كل مرة يمتنعون فيها عن إحضار الأطفال/الطفلات في الموعد المحدد. والضغط في هذا الاتجاه يحضهم على الالتزام، لأنهم من جهة لا يريدون تكبد مصاريف إضافية، ومن جهة أخرى قد يحاكمون أمام المحكمة الجزائية وليس الروحية في حال لم يدفعوا، ما قد يضعهم أمام خطر الدخول إلى السجن.

بينما تربط معظم الأحكام الصادرة بين المشاهدة والاصطحاب والنفقة. فإذا كانت الحضانة من نصيب الأمهات، وكسب الآباء حق المشاهدة والاصطحاب ورفض الأولاد رؤيتهم لأسبابٍ مختلفة، يحق لهم الطلب من المحكمة إيقاف النفقة نتيجة عدم رؤيتهم لأولادهم. وتكون هذه ورقة إضافية فعالة بيدهم يضغطون بها على الأمهات من جديد بهدف استرجاع الحضانة.

النفقة

عوامل الضغط على النساء  كثيرة، والنفقة عامل إضافي يعتمد بعض الرجال  عليه. فهي عبارة عن مبلغ مالي تحدده المحكمة وينبغي على الرجال دفعه للنساء في حال الهجر أو البطلان أو الفسخ، وهو يشمل الطعام والملبس والطبابة والإقامة، وكل ما يلزمهن للعيش.

وفي ما يأتي عينة من أساليب التلاعب للتهرب من النفقة، علماً أن الرجال متمكنون، في مجتمعاتنا القائمة على الغش والتلاعب بالحقائق، من السيطرة على النساء وحياتهن.

فيعمد بعض الأزواج في غالبية الحالات إلى تقديم إفادات عمل مزورة، تشير إلى أنهم يتقاضون فقط الحد الأدنى من الأجور كراتبٍ شهري. ونتيجة ذلك، تقرر المحكمة نفقة متدنية للنساء، ما يدفعهن إلى التخلي عن عدة احتياجات والعيش بأقل كلفةٍ ممكنة ليصرفن فقط على الإيجار.

في سياقٍ متصل، يستفيد بعض الآباء من الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، للادعاء بأنهم غير قادرين على تسجيل الأولاد إلا في مدارس رسمية، على الرغم من أنهم/ن كانوا مسجلين/ات في مدرسةٍ خاصة. والمحكمة لا صلاحية لها للتدخل وإجبارهم على دفع مبالغ تتخطى “قدرتهم” التي يدّعونها لإبقاء الأولاد في مدرستهم/ن وتجنب أي ضرر نفسي من جراء تغيير المدرسة، فتجبر الأمهات على دفع الأقساط.

لكن الأمور لا تقتصر على هذه الحيل فقط. إذ يتفوق بعض الرجال على أنفسهم ويستخدمون أساليب متطورة للتهرب من النفقة بالرجوع إلى القانون المليئ بالثغرات التي تمكنهم من تحقيق أهدافهم بسهولة.

على سبيل المثال، يتهم بعض الرجال النساء بالزنا إذا تقدمن ضدهم بدعوى طلاق، ويقابلونها بدعوى جزائية فتتم ملاحقتهن. ويقول المحامي جورج حداد إن “النتيجة معروفة، تؤخذ النساء  إلى مخفر حبيش ويبقين مدة يومين، ثم يتم الضغط عليهن للتراجع عن الدعوى”.

الاستقلال الاقتصادي ضروري

اعتماد النساء على أزواجهن من الناحية الاقتصادية يجعلهن رهائن لسلطتهم. فلا خيار أمامهن إلا إيجاد عمل والحصول على راتبٍ أو مدخول يخولهن الاتكال على أنفسهن ويتيح لهن اتخاذ قراراتهن بصورةٍ منفصلة على الصعيدين العائلي والزوجي.

بفضل ذلك، تتحرر النساء من جميع  القيود، وتصبحن أقوى ومتمكنات لخوض المسار القضائي ومكافحة الفساد للحصول على حكمٍ منصف، علماً أن معظم النساء يلجأن إلى منظمات وجمعيات المجتمع المدني لتأمين مصاريف المحامين والمحاكمة.

في الخلاصة، لن يحد هذه الانتهاكات إلا أمر واحد، هو التوجه إلى محاكم مدنية تنقذ النساء من هذه المعاناة لا سيما أنها تنظر إلى الفرد كمواطن ومواطنة، بعيداً عن الجنس والطائفة والمذهب والمركز الاجتماعي.

حينها فقط، يكون الحق مضموناً والاجحاف ملجوماً. والمؤكد أن لا استضعاف لفئة وتقوية لأخرى، وكل ذلك ممكن عبر كف يد التدخلات الدينية والسياسية.

 

في حال تعرضكن لأي شكلٍ من أشكال العنف، نقدم لكنّ لائحة بأبرز المنظمات والجهات الموجودة على كافة الأراضي اللبنانية والجاهزة لتقديم الاستشارة والخدمات القانونية والنفسية والاجتماعية المجانية لكن، في أي وقت.

جمعيات

جمعيات

جمعيات

نشر هذا المقال ضمن ملف خاص بموقع “شريكة ولكن” بعنوان #عنف_رجال_دين يحكي قصص النساء ومعاناتهن في مواجهاتهن مع رجال الدين والمحاكم الدينية من جرائم اعتداء وعنف بمختلف أشكاله من جنسي ولفظي ونفسي مسكوت عنه، إلى الاستغلال والقهر في أروقة المحاكم الدينية بالاستناد إلى قوانين ظالمة وتمييزية.
قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد