في عيد الأم .. شابات عربيات يصرّحن: لا نريد أن نكون مثل أمهاتنا
عيد الأم هو أبرز الاحتفالات التي تُعيد إنتاج الصور النمطية للنساء. في كل عام، تمتلئ حسابات الآلاف بمُعايدات وشكر للأمهات، أو حزن على فقدهن.
ولم لا؟ ألا تستحق الأمهات يوماً وحيداً في السنة لنشكرهن على رعايتنا، حُبنا، التضحية من أجلنا، احتمال الأذى والصمود؟ لنقول بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر إن الأمومة هي أسمى معاني الحب غير المشروط، والفناء من أجل الآخرين على حساب النفس؟
لكن ماذا لو أن كل هذه الصفات التي يقدسونها في عيد الأم، مثال سيئ على ما لا يجب للإنسان أن يكونه؟ وماذا لو أن التضحية والفناء وكل هذا الهُراء، أمورٌ تستنزف طرفين في واحدة من أكثر العلاقات الإنسانية تعقيداً: الأم والأبناء؟
في عيد الأم هذا العام، قررنا تفكيك الأمومة من منظور الأبناء، وبالأخص الشابات والنساء. قررنا أن نسأل الشابات العربيات: “ما الذي لا ترغبين أن تكوني فيه مثل أمك؟” جاءت الإجابات مُبهرة.
لم ترغب المُشاركات أن يكنّ مثل أمهاتهن، وذكرن الصفات التي جعلت علاقتهن بالأم مُربكة وغالباً مؤذية وأبويّة. شابات عربيات اختلفت بلدانهن، واتفقت نظرتهن النقديّة للأمومة.
من هي الأم؟
هي امرأة أنجبت بيولوجياً في علاقةٍ رسميةٍ وشرعية: الزواج. تُنجب النساء ويُفرض عليهن قالب محدد للسلوكيات والتصرفات وحتى الأفكار التي تُشكل علاقتهن بأطفالهن، وعلى رأسها: الرعاية والتربية الواقعان على أكتافهن دون الرجال.
هذا القالب تدخله معظم المُنجبات كمسارٍ وحيد لما يجب أن تكونه المرأة حين تُنجب، كالحب دون حدود والتضحية وتجاهل الذات من أجل الأطفال.
“مش عايزة ألغي نفسي وأستمد قيمتي من بيتي وجوزي وولادي بس” (مصر)
“مش عايزة كون ماما من أصل عينه. يعني ما بدي خلف ولاد. ما بدي أتخلى عن أنانيتي وصير ضحي” (سوريا)
تفعل النساء ذلك، ليس فقط لأنهن تربين على أنه المسار الوحيد، إنما لأنهن عقدن صفقةً مع الأبوية حين تزوجن. وهذه الصفقة كما تتم بالقانون الذي يجعل النساء ملكية تنتقل من الأب للزوج من دون قوانين تحميهن من العنف الأسري والاغتصاب الزوجي وتضمن حقهن في طلاقٍ آمن لا يضطررن فيه للمساومة والتنازل عن حقوقهن، هي كذلك بالانصياع للمعايير الاجتماعية الأبوية.
“لا أريدأن أصبح مثلها بخوفها من كلام الناس أكثر من خوفها من الله. وحبسها لي بحجة الخوف علي. كذب. تخاف من الكلام” (العراق)
في هذه الصفقة تحصل النساء على مقابل هو السلطة التي تمارسها على الأبناء/البنات منذ الولادة وحتى الممات، في إعادةٍ كلاسيكيةٍ لإنتاج القهر الذي تعرضت/تتعرض له كامرأة.
وهذه السلطة اجتماعية وليست قانونية. فبسبب تقديس الأمومة، تتمتع الأمهات بمكانةٍ اجتماعية لو أنها مارست الأمومة النمطية وأفنت نفسها للأبناء/البنات.
“مش عايزة يبقى العار هو السلاح الوحيد اللي بتحكم بيه في عيالي” (مصر)
لا تكتفي الأمومة النمطية بما يجب أن تكونه المرأة لتستحق لقب أم، بل أيضاً ما لا يجب أن تكونه لتتجنب العنف المجتمعي والوصم بأنها أم سيئة. وبالتالي سحب الامتياز الاجتماعي منها ونبذها.
فالمُنجبة التي تحاول الموازنة بين علاقتها بنفسها وعلاقتها بأطفالها، توصم بالأنانية. والمُنجبة التي تركت أطفالها أو طفلاتها بعد الطلاق للأب، توصم بالتخلّي عنهن/م وببلادة المشاعر، في تأنيث أبوي واضح للأفعال الرعائية، تدفع فيه النساء الثمن بالوصم، وأحياناً كراهية الأبناء/البنات لها، خصوصاً لو تزوجت مرة أخرى بعد الطلاق أو بعد وفاة الزوج.
صفقة خاسرة: “لا أريد أن أكون مثل ماما!”
هذه الصفقة التي تعقدها النساء مع الأبوية بالزواج، وتسعى فيها لامتيازات اجتماعية غير متوفرة لأنها امرأة إلا في ظروف معينة كالطبقة والسن والإنجاب والنسب، أتت على حساب هؤلاء النساء أنفسهن.
“بديش جيب أطفال لهذا العالم. بالنسبة لأمي، فش معنى للحياة بدون إنجاب أطفال” (فلسطين)
وبالنظر إلى الصورة الأشمل، فإن الأمومة النمطية تخدم الأنظمة الأكبر التي تعتبر الزواج مُحدداً رئيسياً للعلاقات الجنسية بين الأفراد وللإنتاج الاجتماعي ولقيمة الإنسان: الإنجاب.
هذه ليست خدمة فحسب، بل استغلال للنساء، كما قالت الباحثة النسوية سالمة جيمس في سبعينيات القرن الماضي. فحين تمتثل النساء للأمومة النمطية، تُعيد إنتاج العائلة والأسرة التي هي نواة سياسية اقتصادية واجتماعية.
“كل المهام المنزلية والزوجية أهم من صحتها” (فلسطين)
إذا فكرّنا في الأمومة واستغلال أجسام النساء داخلها، لوجدنا أن المُستفيد منها ليست النساء، حتى لو تمتعنّ بمكانة اجتماعية بسبب الإنجاب، إنما أطراف أخرى على أصعدة مختلفة.
على الصعيد الشخصي، الزوج مُستفيد كرجُل يتلقى رعاية وخدمات جنسية مشروعة بالقانون والعرف، ويتحرر من مسؤوليات الرعاية والتربية وكذا الوصم.
يستفيد من العمل الرعائي المنزلي غير المأجور الذي تُمارسه النساء داخل المنزل من دون أن يضطر لاقتطاع جزء من أجره لتوظيف عامل/ة منزلية.
“فضلت عمرها كله تشتغل برة وجوة علشان تثبت إنها كائن مش ناقص. مخادتش مقابل. بس دفعت كتير” (مصر)
أما المنظومة السياسية والاقتصادية، فتستغل الأمومة لصالحها؛ فالدول العربية لا تسمح قوانينها بإجازات رعاية للآباء، ولا يتقاضى الأزواج رواتب تسمح بتوظيف عامل/ة منزلية، أو جليس/ة أطفال، ونعني هنا الأسر المتوسطة وتحت المتوسطة كغالبية عظمى من البيوت العربية.
“مش عايزة أعمل العمل المنزلي غير المأجور بدون مناصفة مع شريكي” (مصر)
لذلك، لا نعتبر تقديس الأمومة إيجابي أو فردي، إنما صورة نمطية مُتجاوزة لأمي وأمك وأمهاتنا جميعاً، تأتي في سياق تاريخي استُغلّت فيه النساء وأُمِّمت أجسامهن وفردانياتهن لصالح البُنى القمعية.
“أمي تعطي امتيازات للولاد دون البنات” (السودان)
“لا أريد أن أتحمل شغل البيت لوحدي. وأصير أكره البيت ومن فيه لأنني لا أعرف أن أقول لهم كل واحد يخدم نفسه (السعودية)
إذن، تلك ليست صفقة من الأصل، بل خدعة اجتماعية واستغلال أبوي سياسي واقتصادي للنساء. وهذا جزء كبير من تعقيد العلاقة بين الأم والأبناء/البنات.
فتحاول الأم غالباً ممارسة سلطتها على الأطفال/الطفلات تعويضاً عن هذا الاستغلال حتى لو أنها غير مُدركة له من منظورنا النسوي ولا تملك مُسمى له.
فوصلتنا إجابات كثيرة جداً عن عصبية الأم وتحكماتها وفرض آرائها واختياراتها. لكن ذلك نتيجة منطقية لتحمل هذا الكم من الأعباء الجسدية والصحية والنفسية والعاطفية.
“لا أريد تمرير صدماتي النفسية لأطفالي” (لبنان)
“أمي عصبية وغير واثقة في نفسها” (الجزائر)
أدركت الشابات هذا الاستغلال وكنّ قادرات على التمييز بين الأمومة النمطية والأمومة الصحيّة، التي لا تُنفي فردانية النساء ولا تستغل أجسامهن وتحترم فردانية الأبناء والبنات ولا تُمارس سلطة عليهم/ن.
“لو بنتي حكتلي على قصة تحرش، هصدقها. مش هقول عليها **موطة” (مصر)
“عايزة لو جبت عيال أسبهم يعيشوا حياتن” (الأردن)
كيف أثرَ الحراك النسوي العربي على رؤية النساء للأمومة؟
ويبقى السؤال: كيف فعلن ذلك؟! الفرق بين جيلنا وجيل أمهاتنا وجدّاتنا هو الفرق الذي أحدثه الحراك النسوي العربي في الـ11 سنة الأخيرة.
فهذا الحراك لو لم يؤتَ ثماره القانونية والاجتماعية الواضحة، فقد ساهم في رفع وعي الشابات بالمظلومية التاريخية للنساء وبأطرافها المختلفة.
أدركتْ الشابات العربيات أن النظام الاجتماعي السياسي قائم على قمع أجسام النساء في الفضاء العام والفضاء الخاص وتقاطعاتهما. كنّ أكثر قدرة على تفكيك خيوط الأبوية في حيواتهن الشخصية.
فبالتوازي مع هذا الحراك، كانت تتسع أفقهن في نقد الصور النمطية المفروضة على النساء، ومن ضمنها الأمومة. فكل واحدة منهن لها رؤيتها النقدية لما تمر به في حياتها الشخصية.
وكان للأمهات نصيب كبير من هذا الغضب النسوي، بحكم العلاقة القريبة مكانياً واجتماعياً ورعائياً بين الأمهات والشابات.
استطاعت الأخيرات تفكيك صورة الأم النمطية، مع تصاعد وتيرة مفاهيم الفردانية والاستقلال وتحقيق الذات غير المرتبط بالزواج والإنجاب.
“مش عايزة أوقف تطوير نفسي وعقلي. مش عايزة أخصص عمري للبيت والزوج والولاد” (المغرب)
كان مثال الأم حاضراً أمامهن طيلة الوقت، وانعكست أفكارهن النسوية عليه. فانتقدن الصمت على الأذى، والاستكمال في الزواج خوفاً من وصمة الطلاق، ومبادئ التضحية والفناء، لأنهن رأين بأعينهن هذا الاستغلال وأدركنه.
“أمي تقبل الإهانة. تسكت عن حقها حتى لو من أجل أسرتها وأولادها. هذا غلط. ما أريد أكره نفسي مثلها” (العراق)
غضب ممزوج بالشفقة والألم
هذا الغضب تجاه الأمهات مشروع ومُبرر في سياقه، خصوصاً تجاه من مارسن عنفاً وقمعاً وتمييزاً ضد الشابات المُجيبات على السؤال.
“أمي نرجسية” (قطر)
“أمي مصابة برهاب المثلية” (مصر)
“عشت كل حياتي أسمع تعليقات من أمي على وزني” (فلسطين)
هناك إجابات مزجت الغضب بالشفقة والألم، لاسيما عندما ذكرت الشابات مفاهيم التضحية والتخلّي عن النفس من أجل الطفلات، اللواتي كبرن الآن وأصبحن شابات ينتقدن هذه التضحية ويتمنىين لو أنهن رأين في الأم مثالاً أكثر تحرراً من الصور النمطية للنساء.
“مابدي كون مثلها وأسمع بنتي جملة: بدي أفرح فيك” (الأردن)
“قعدت فالبيت ومشتغلتش. واستحملت راجل قاسي علشاننا. دلوقتي كلنا سافرنا وهي وحيدة” (مصر)
بالنسبة إلي، عليّ مسؤولية نسوية في تفسير وتفكيك أسباب تصرّف الأمهات بهذه السلطوية، أو السلبية، أو التماهي مع المفاهيم الأبوية، وشعور الشابات بالاستياء تجاه خنوع الأم وقبولها للعنف وتسامحها مع أشياء كخيانة الزوج أو عدم تقديره لها أو استغلالها مالياً.
نحنُ غاضبات لأننا نُحب أمهاتنا، ولأننا لم نتمنى أن يتم خداعهن واستغلالهن باسم الأمومة حتى لو استفدنا شخصياً من هذا الاستغلال.
“ضحّت بشبابها وكملت مع راجل مش طايقاه ورضيت على نفسها الإهانة علشان تربيني أنا وأخواتي” (مصر)
تم استغلال أمهاتنا، وهذا الاستغلال التاريخي ليس وليد اليوم. وكانت أدواتهن للنجاة مختلفة، والتماهي مع الأبوية هو أيضاً أداة نجاة من عنف محتمل وقتل محتمل.
“مش عاوزة أموت على إيد جوزي” (مصر)
كل أم منهنّ تصرّفت في حدود المتاح لها من موارد، وأفكار ومسارات، واختلاف رؤيتنا للأمومة عن رؤيتهن، نابع من اختلاف السياقات والمسارات المتاحة لنا.
وأؤكد أن ذلك التفكيك النسوي، لا يُبرر ممارسة الأمهات للعنف. في النهاية، تعرّض إنسان للظلم، قد يُفسر لماذا يُمارس هذا الإنسان الظلم على آخرين/أخريات، لكنه لا يُبرره أبداً.
المثال الحي أن ذلك لا يُبرر ممارسة العنف، هو أن توافر الموارد والمسارات وتعدد الخيارات أمامنا، نحنُ الشابات، أثرى رؤيتنا عن الأمومة وعن أجسامنا وعن الاستغلال التاريخي الذي نتعرّض له بسبب أننا نحمل الهوية الاجتماعية: امرأة، في بلدان لا تعترف بنا كمواطنات كاملات الأهليّة، ومجتمعات تقتلنا كوننا نساء.
قررنا استخدام هذه الامتيازات لكسر دوائر الأذى، ومنع تمرير القمع والاستغلال للأجيال القادمة سواء أنجبنا أو لا.
في النهاية، ولأنه عيد الأم، نودُ أن نشكُر أمهاتنا؛ ليس للتضحية، إنما لأنهنّ كنّ المثال الذي لا يجب أن نكونه.