شهر الفخر .. بين الحق بامتلاك الظهور والمساحات والاستغلال الاستعماري الرأسمالي
في أواخر الستينيات، وفي خضم سباق الأمم نحو التطور، تحديداً أثناء الحرب الباردة، كانت الحرية مشروطةً بما يتلائم مع سياق التحدي.
حينها، لم يكن الغرب على ماهيته المستجدة، فكان أفراد مجتمع الـميم عين مأسورين/ات بأحكامٍ قانونية تجردهن/م من وجودهن/م وتحكمهن/م بالانصياع لما هو مألوف.
حالهن/م كحال جميع الفئات المهمّشة، التي تواجه القمع والتفرقة والإلغاء، أمام جرف توسع النفوذ الأممي، الذي لطالما دهس في طريقه إلى السيطرة، ملايين الآمال في الحياة والحرية.
في تلك الفترة، وفي نيويورك، ولاية الحداثة والتطور وتحقيق الأحلام، لم يكن أمام أفراد مجتمع الميم عين سوى أن يحلمن/وا، إذ جُرّموا وجُرّم من استقبلهن/م.
اختبأن/وا في الأزقة السوداء، التي تبعد عن رقابة سلطة القمع وتتركّز في قبضة العصابات المجرمة، باحثين/ات عن فرصة للتجرد من القيود، وإن كانت مصحوبةً بالكثير من المخاطر على حياتهن/م.
حينها كان نادي “ستونوول إن” الليلي، على الرغم من جميع الظروف الموحشة المحيطة به، ملاذاً آمناً لأفراد هذا المجتمع، الذين/اللواتي كن/كانوا يقصدن/ون الحانة، لتذوق البعض من الحرية المحدودة، والحب الذي كان محرّماً ومجرّماً في ذلك الوقت.
لكن صباح 28 حزيران/يونيو 1969، داهمت شرطة نيويورك النادي في القرية الغربية من الولاية. فبدأ يومها أول عصيانٍ على القمع الكيدي، الذي كان سبباً في وجود شهر الفخر.
لكن رواد النادي، الذين/اللواتي وصل عددهن/م في تلك الليلة إلى 300 شخص، سأمن/وا من الاختباء، فقرروا/ن المواجهة.
وانطلقت انتفاضة دامت لأيام من أجل حقوق أفراد مجتمع الميم عين. وكانت الشرارة الأولى في مسيرةٍ طويلة من أجل الحصول على الحق بالوجود والعيش بسلام.
لماذا نحتفل بشهر الفخر؟
شهر الفخر هو شهر كامل مخصص لإحياء ذكرى انتفاضة “ستونوول”، وللنهوض بمجتمع الميم عين.
وهو عبارة عن وقفة تضامنية عالمية ضد التمييز والعنف الموجه ضد الأشخاص المثليين والمثليات ومزدوجي الميول الجنسية والعابرين والعابرات جنسياً والكوير، للتشجيع على تأكيد الذات وتعزيز الفخر بالهوية الجنسية، وتفعيل الدمج الجتماعي.
من هي الشخصيات الأبرز وراء هذه التحركات؟
مارشا جونسن
عابرة جنسياً أفريقية أميركية، كانت تحتفل بعيدها الـ25 حين اقتحمت الشرطة “ستوونوول”.
ويُروى أنها كانت أول من وجّه ضربةً للشرطة وأشعلت الانتفاضة.
سيلفا ريفيرا
ملكة جر (دراغ كوين)، حاربت من أجل حقوق مجتمع الميم عين إلى جانب مارشا جونسن.
كما أنشأت جمعية “ستار” لمساعدة الشباب والشابات أفراد مجتمع الميم عين المشرّدين/ات.
ستورمي ديلافيارا
كانت ناشطةً في مجال حقوق المثليين/ات، وملكة جر (دراغ كوين).
وكانت أيضاً في “ستونوول” عندما اندلعت الانتفاضة في الصفوف الأمامية في مواجهة الشرطة.
من هم الممنوعات/ ين من الفخر؟
لكن على الرغم من الانتصارات التي حققها هؤلاء الأحرار/الحرات، لا يجب أن ننسى أن هناك فئة واسعة من أفراد مجتمع الميم عين ممنوعون/ات من الاحتفال بشهر الفخر ومن الوجود، المحكومات/ون بالعزلة والذل والخوف، لأن اختلافهن/م يخيف أنظمة متحجرة تأبى مجاراة التطور، لما قد يسببه من أضرار على سلطاتها الأبوية.
هم ممنوعات/ون من الفخر، خارجات/ون عن الحياة، وإن قاوموا، وحوصروا حتى آخر زفير، كحال سارة حجازي، التي أبت الاختباء من كيدهم وقاومت.
أبت الكذب، فأزهقوا روحها. حالها كحال الكثيرين/ات في مجتمعاتنا العربية، مأسورون/ات في صراعٍ لا متناهي مع الذات التي أثقلها كذب عاداتنا، وتقاليدنا، وأنظمتنا وتاريخنا.
الاستعمار والحريات الزائفة
وعلى الرغم من تلك المعاناة التي يمررن/ون بها، يتعرّض أفراد هذا المجتمع أيضاً إلى استغلال قضيتهم/ن والتوقيت، أي شهر الفخر، خصوصاً من الدول الغربية، التي تدّعي أنها عرّابة الحريات، لمصالح ومطامع خاصة.
فناهيك عن سياسات تسويق القضايا التي تتبناها الشركات العالمية لما تنتجه من زيادةٍ في الأرباح، هناك أنظمة فاشية استعمارية تعودت على أساليب تنتهك أبسط حقوق الإنسان لتبييض صفحاتها، أنظمة كاذبة نرجسية تتبنى قضايا تحررية لتغطي على ممارساتها.
لم يكن عبثاً استذكار الحرب الباردة في مقدمة التقرير. فتلك الحرب، والحروب التي سبقتها، والتي تلتها، ليست سوى امتداد لعقلية استعمارية تطورت وتأقلمت مع الوقت، حتى أتقنت التلاعب بالحقائق في سبيل التوسع والسلطة. زيفت وأفرغت الحريات في سبيل الاحتلال.
وربما يكون المثل الأبرز والأوضح أمامنا، هو كيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي لطالما استعطف العالم بكذبه. واليوم يستعمل “الغسيل الوردي” ليمسح دماء الفلسطينيين/ات عن واجهة تاريخه.
ما هو الغسيل الوردي؟
“الغسيل الوردي” هو مصطلح مركّب مرتبط بقضية حقوق أفراد مجتمع الميم عين، ويتم استخدامه لوصف مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات التسويقية والسياسية، التي تهدف إلى ترويج المنتجات أو سياسات البلدان أو الأشخاص أو الكيانات، من خلال إظهار مساندة أفراد مجتمع الميم عين بهدف تسويق صورة تقدمية وحديثة ومتسامحة، تعترف بحقوق الأقليات المضطهدة.
أطلق مصطلح “الغسيل الوردي” على الحملة الدعائية الإسرائيلية “براند إسرائيل” الممنهجة وفق مبدأ عنصري، وذات منطق استعماري يروّج لإسرائيل في أوساط مجتمع الميم عين العالمية والليبرالية، على أنها دولة متسامحة مع هذه الفئة من المجتمع، لتبييض صفحتها وصورتها الإجرامية والوحشية كدولة احتلال واستعمار، إلى دولة ديمقراطية وليبرالية ومنفتحة.
يصاحب هذه الحملة عادةً حملات ترويج عالمية أخرى تدّعي أن الفلسطينيون/ات يعانين/ون من داء “رهاب المثلية” المتمثل في ثقافتهن/م العربية والإسلامية، وفي بنيتهن/م الاجتماعية والدينية.
يخاطب الغسيل الوردي الأشخاص المثليين والمثليات ومزدوجي الميول الجنسية، والعابرين والعابرات جنسياً والكوير، الفلسطينيات/ين، مدعياً أن كيان الاحتلال هو الملاذ الآمن لهن/م، لأنه يحمي حقوقهن/م.
ولهذا دور كبير في خطاب “الغسيل الوردي” الذي لا يمكن فصله عن المنطق الاستعماري.
فهو يحمي الفلسطينيات/ين ما دامن/وا مستعدات/ين إلى إلغاء أحد انتماءاتهن/م، فيخيّرهن/م بين الهوية والهوية. لكن، هل من هوية جزئية؟
في مجتمعاتنا، تجزئ الهويات والحريات والقضايا، فيقاوم الفرد كل الجهات وحيداً. كحال محمد الكرد، ابن حي الشيخ جراح، الذي واجه وما يزال احتلال المستعمر الغاصب، وأحكام المجتمع الخانقة.
كُتب لمحمد هذا الصراع، تحت رايات الذكورية الموروثة، التي يتناقلها أباطرة العالم أجمع.
ذنبه الوحيد أنه وُجد وتَمسك بالوجود. لكن الكذب يلاحقنا دائماً، غرباً وشرقاً، وفي كل مكان. فهل تنتصر الحريات مرة؟