الهيمنة الإنجابية .. أنجبي الآن، لا تُنجبي أكثر
تأخذ الهيمنة الأبوية أشكالاً متعددة، وتتدرج من النظام السياسي نحو النظم الاجتماعية والتفاعل والتواصل اليومي.
ولعل أبرز وجوهها تطرفاً هي تلك الممارسة على أجساد النساء، والأجساد غير المعيارية.
إذ تتحول السلطة من الفعل القسري المباشر، الذي يتحكم في شكل الجسد وحجمه وهويته والملابس المسموح بها، إلى نمطٍ ثقافي.
نمطٌ يعتبر أنه من الطبيعي أن تكون هناك آراء وتوجيهات لهذه الأجساد، خصوصاً إذا كان الأمر هو التحكم في جنسانية وإنجابية النساء، الذي يعد حجراً رئيسياً في كل القواعد والسلط الأبوية.
ونادراً ما تخلو أي توجيهات للنساء، من أوامر، أو تشريعات تخص أجسادهن وإنجابيتهن.
بينما يتعلّق ذلك بالهمينة، كإطار سلطوي يتحرك فيه النظام الأبوي، نحو الأجساد والعقول. فيشكّلها بحسب مصالح طبقية وجندرية وعرقية.
وتأخذ هذه الهيمنة منحى جنساني، يتعلق بهيمنة المعيارية الغيرية كنوع وحيد للهويات الجندرية، والعلاقات، والأطر الجنسانية، والظهور الاجتماعي.
أما النوع الآخر، فيرتبط بالهيمنة الإنجابية. وهي منظومة قيمية وتشريعية، تقوم فيها الأبوية بتشكيل اجتماعي وسياسي لأجساد النساء، من خلال تقديمهن كمسؤولات عن التكاثر، والاستمرار في تزويد الأنظمة القائمة بتابعين/ات.
كما أن هذه الهيمنة تتشكل وفق سلطات متعددة، منها القوانين المباشرة التي تحث على جعل جميع النساء منجبات.
وتفرض عليهن بالتالي أن يؤدّين هذا الدور، فتمنعهن من تقرير مصيرهن في اختيار الإنجاب من عدمه، من خلال تجريم الإجهاض.
ومن ضمنها أيضاً سلطة التعيير والنقد، التي ترى أيضاً أن النساء المنجبات لسن كافيات، ويجب أن يحاسبن على العدد الذي ينجبنه.
كما يبدأ خطاب طبقي عن أن إنجاب عددٍ كبيرٍ من الطفلات والأطفال هو أنانية، بينما يتضح أن الهدف منه هو التسلّط على خيارات إنجابية لنساء من طبقات أكثر تهميشاً.
أو التسلط على حق العديد من النساء في الأمومة، وفق أسس طبقية وعرقية، كما حدث من انتهاكات التعقيم القسري في حق النساء الأصلانيات والسود، خلال القرنين الماضيين.
الهيمنة الإنجابية بين السلطة السياسية والقيم الاجتماعية
يعتبر التحكم الإنجابي من أوضح الأمثلة على جعل أجساد النساء حاملةً لتصوراتٍ وقيمٍ أُنتجت خارجها، وتصبح مجرد وعاءٍ لسلطة النظام الأبوي وتفضيلات الآخرين.
فتساهم السلطات المختلفة من القوانين، والشرائع الدينية، والقيم الثقافية، والمؤسسات السياسية والاجتماعية، في جعل الإنجاب من عدمه أمر يعود للجميع، إلا من يحصل في أجسادهن.
وتظهر القدرة الهائلة على التحكم في إنجابية النساء، من خلال تحويلها إلى تفاعلٍ يومي.
إذ لا تخلو أي جلسة من إعطاء أوامر للنساء بما يفعلهن بأرحامهن.
وبعد انقضاء الوصفات، والمقارنات، والوعظ المتسم بتعالي ذكوري لا تُخطئه المتلقية تبدأ الأوامر والتعيير.
فإذا كن منجبات، سيسمعن أن كثرة الأولاد تسبّب الهم، وأن وزنهن زاد، وشكلهن أصبح باهتاً بسبب الإنجاب.
كما عليهن أن يكن مثل الأمهات العصريات، ويكتفين بطفلٍ/ة أو اثنين/اثنتين.
فإنجاب عددٍ كبيرٍ من الطفلات والأطفال، لم يعد خيار نساء “العصرنة والحداثة”.
لكن، إذا كنّ غير منجبات أو لا يردن الإنجاب، فإن الخطاب الوصمي، سيتحول إلى عنف رمزي لا يخلو من تعسّف.
معظم هذه الأحاديث تبدأ بقصصٍ عن نساء تُركن وحيدات من دون معيل أو منقذ، لأنهن لم يكن لديهن أبناء/بنات.
وعن قصة نساء رفضن الإنجاب في شبابهن، ثم متن بالحسرة وهن في الخمسين، لأنهن بقين من دون أولاد.
فهذه هي طبيعة النساء! عليهن الإنجاب ليجدن من يعتني بهن في الكبر، لأن الأبناء/البنات صفقة مستقبلية وليست علاقة عاطفية.
كما عليهن الإنجاب لحماية زواجهن، وكي لا يجبرن أزواجهن على تطليقهن، والزواج من امرأة أخرى.
فليست هناك وظيفة أكثر قداسة، وتبرع فيها النساء سوى الإنجاب!
ومن لا ينجبن، يُغضبن الرب والمجتمع وأسلافهن تحت التراب.
أما من لا يستطعن الإنجاب، فلن يجدن في المجالس الاجتماعية سوى الشفقة، والكثير من الدعاء، ووصفات الحمل.
كما دفعهن إلى تجربة “قرن الديناصور”، لتحقيق القاعدة الأبوية: النساء وُجدن ليتزوجن، يتكاثرن، يُربين، ويمتن.
الهيمنة الإنجابية كسلطة طبقية
تعمل الرأسمالية على جعل الإنجابية إطاراً تعمل من خلاله على تشكيل العالم الاقتصادي، عبر الحرص على الحصول على أكبر عددٍ من العمال/العاملات، الذين/اللواتي ستواصل طحنهن/م في ماكينة الجشع والاستغلال التي تدير بها العالم.
وتضمن أن السوق يتوفر دائماً، على يد عاملة تعوّض الإصابات والوفيات وعدم القدرة على العمل.
ساهم ذلك في جعلها تنخرط في الاستثمار في الخطاب الأبوي، عبر تمويل حملات إعلامية، وهيئات سياسية وقانونية، تدافع عن حق النظام السياسي والاجتماعي في التحكم في إنجابية النساء.
حصل ذلك عبر تجريم الإجهاض، والدفع بالسياسات والقيم الرجعية، التي تساهم في شرعنة هذا التوجه وجعله وعياً جمعياً.
إلا أن القيم الرأسمالية التي تمجّد الطبقية، واستثمرت عبر تاريخها في جعل التفاوت الطبقي نتيجة الاجتهاد الشخصي، والحق في الثروة والتميز، ساهمت أيضاً في سيادة القيم الطبقية، واحتقار الفقراء/الفقيرات، ومصادرة حقهن/م في الحياة، وفي أن يحظين/ون بأي شيء يساعدهن/م على الشعور بأنهن/م أحياء، وهن/م أكثر من مجرد أجساد تستغلها هذه الماكينة الوحشية في مراكمة الربح.
بينما أدى ذلك مع الوقت إلى تطبيع انتهاك خصوصية الطبقات الفقيرة، وانتقاد النساء اللواتي ينتمين إلى طبقات عاملة وفقيرة إذا أنجبن، باعتبار أن الإنجاب مسؤولية.
ويجب أن يكون حقاً حصرياً لمن يملك/تملك مالاً أكثر، ويعد بمستقبلٍ زاهرٍ للأطفال/الطفلات.
خطاب ينبع من قيم طبقية كارهة للفقراء/الفقيرات، لكنها أيضاً تريد توجيه الاتهام في غياب العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروات، إلى من يعانين/ون منه، أي الفقراء/الفقيرات.
وتنخرط بوعي أو من دونه في الدفاع عن الطبقية، وحرمان الطبقات المهمّشة من كل ما يدلّ على الحياة، بما فيها إنشاء أسرة وإنجاب الأطفال والطفلات، بدلاً من محاسبة الرأسمالية على سحق الخدمات العامة وتجويع الغالبية.
الإعداد الأبوي “للنساء” .. إخضاع مستمر
يبدأ الإعداد الأبوي لدور “النساء” منذ السنوات الأولى، وتُربط تنشئتها بالقواعد والنواهي والأوامر.
وتكاد لا تخلو تجربة أي منا من قسر أو عنف، من الإملاءات المختلفة، ومن سماع أننا لا نملك مصائرنا.
فقد ولدنا لأدوار معينة، يرتهن استمرار أنظمة كاملة بتأديتها.
وليصبح الأمر وعياً جمعياً ومنظومة قيمية، لم يكن العنف وحده الوسيلة المتبعة في ذلك، بل يحتاج الأمر إلى ربط أدوار الأمومة والزواج بقوة سماوية، تُقرن النساء بمهمة مقدسة، أي أن كل ما يفعلنه هو أمر إلهي، وطبيعة لا يمكن الهروب منها، وقدر تلاحق من يخالفنه اللعنات والشؤم.
يبدأ تحضير الأطفال والطفلات لأدوارهن/م المستقبلية منذ سن صغيرة.
لكن تغدو السلطة واضحة عند سن المراهقة، خصوصاً بالنسبة إلى الفتيات.
إذ تبدأ الملاحقة والترصد والعنف، ومراقبة تصرفاتهن، ويبدأ تشكيل وعيهن ليناسب الأدوار الجندرية.
فيمكنهن أن يدرسن أو يعملن، أن يحلمن بأشياءٍ متعددة، لكن لا يجب أن يفرّطن في التجهيز لدورهن كأمهات وزوجات.
تتشابه الأحلام أثناء نشأتنا، بشكلٍ ما نتعلم التخلي عن أنفسنا لصالح المجتمع، لصالح أن نكون نساء صالحات. وأن نحقق الهدف من وجودنا.
لكن، ندرك في وقتٍ لاحق أن أوامر الأبوية لا تنتهي، حين نلتزم بالملابس المحددة لنا، ونوعية الضحكة المسموعة، والزمان والمكان، الذي يُسمح لنا بالتحرك فيه، علينا أيضاً أن نحافظ على الأوامر حول جنسانيتنا.
وعلينا أن لا نكتشفها، وأن نبقى في حيز الظلام حتى يأتي نور الزواج.
حينها يبدأ التفاوض مع النظام الأبوي. فيمكن للمتزوجات أن ينلن الشرعية أخيراً، لكنهن لن يحظين بالسلام من الملاحقة وإصدار الأوامر.
تبدأ قواعد جديدة حول كيفية الطبخ، والاعتناء بالأزواج وبأدوارهن، والسهر على مواكبة المناسبات الاجتماعية، والحرص على البقاء في نموذج “الزوجات المثاليات”.
ولن تمضي أسابيع من الزواج، حتى يبدأ حرّاس معابد الأبوية في مساءلتهن حول الحمل. عليهن أن يحملن في أول سنة، للحفاظ على أزواجهن.
كما عليها أن تثبت براءتها من عدم القدرة على الإنجاب، المهارة الوحيدة التي يعترف بها النظام الأبوي، ويحرص أن تكون جميع النساء قادرات عليها، أو سيقوم بفتح أبواب جديدة من الجميع يفوق عقابها العقاب على عدم الزواج.
يكون التحكم الإنجابي إذاً من أوضح وجوه السلطة الأبوية، التي تعتبر أن إصدار الأوامر والمحاكمة المستمرة للنساء، سواء التزمن بالأدوار الجندرية أو كسرنها، هي السبيل الوحيد لنشر الخوف والانضباط، وجعل معظم النساء مشغولات في الوصول إلى النموذج المثالي للمرأة والزوجة والأم.
وهو عمل يرتبط باستنزاف نفسي وجسدي كبير، ما لا يدع أي مجال لمحاسبة هذا النظام أو حتى التفكير فيه ومساءلته.