الحركة النسوية في الأردن.. بين مدّ وجزر الحريات
كانت آلام الحمل تشتد عليها، والأوجاع سكنت مفصليها. وفي كل خطوة، يتضاعف جهدها. هنا، كانت المسيرة الجديدة لرائدة الحركة النسائية الأردنية، إميلي نفّاع. حاملًا في شهرها السابع، جاءت تهتف ضد الممارسات التمييزية بحق النساء، وتطالب بجملة من الحقوق الشرعية، داعيةً لإلغاء كافة أشكال التمييز ضد النساء في الأردن. بالإضافة إلى بناء مجتمع صحي تسوده العدالة والمساواة.
“بدأ تاريخ الحركة النسائية في خمسينيات القرن الماضي، متأثرًا بالحركات المصرية آنذاك بقيادة الناشطة هدى شعراوي. وبعد لقائها بثلة من الناشطات النسويات، بمقدمتهن إميلي بشارات في مؤتمر القاهرة عام 1944، تمت دعوتها لزيارة الأردن. وذلك لعقد اجتماع مع رئيس الوزراء بهجت التلهوني. وفي ذلك اللقاء، كانت هناك رغبة بتأسيس منظمات داخلية تقود الحركة النسائية الأردنية”. كما تروي لنا الناشطة النسوية ليلى نفاع مديرة جمعية النساء العربيات وشقيقة الناشطة إميلي. تسترجع معنا أبرز المحطات، والذكريات في حقبات زمنية هامة عبرت على تاريخ النساء الأردنيات.
خلال السنوات الثمانين الماضية، لم يكن المسير سهلًا على الإطلاق.
الخطوات الأولى للحركة النسوية
في أربعينيات القرن الماضي، كانت شوارع العاصمة الأردنية، عمّان، تعجّ بالنساء اللاتي جئن من مختلف المحافظات. في خطوة جريئة، كسرن الحواجز الاجتماعية التي تحول بينهن وبين الالتحاق بالصفوف الدراسية، وتحجب عنهن الحق في الدخول إلى سوق العمل. وهكذا، شكّلن نقلة نوعية من ناحية نوع وحجم المطالبات الحقوقية التي امتدت من الاجتماعية إلى الاقتصادية والسياسية.
من هنا، بدأ حراك نسوي منظم بالخروج إلى الساحة، حسب ما تقوله إميلي نفّاع. “جاء تأسيس اتحاد المرأة الأردنية، الذي يعتبر أقدم منظمة نسويّة عام 1945 على يد مجموعة من النساء الأردنيات الناشطات في مجال حقوق النساء”.
كان هذا الاتحاد مؤشرًا على بزوغ حراك نسائي مستقل، بعد حصوله على التراخيص الرسمية. من خلاله، تم انعقاد المؤتمرات النسائية بمشاركة الرجال على نطاق واسع. وهنا بدأ القطاف، وبرزت قيادات نسائية ساهمت في إيصال أصوات نساء المجتمع واحتياجاتهن. كما استطاعت النساء دخول القطاع التعليمي والعمل، شأن الرجال. لكن في الوقت ذاته، كانت العقلية الحكومية لا تزال متمسكة بعدم السماح للنساء بالترشح أو الحصول على حق الانتخاب.
لم تكتمل فرحة تأسيس الاتحاد. في عام 1957، أدت بعض الأحداث السياسية في الأردن إلى فرض قانون الطوارئ. وهو بدوره أدى إلى حل جميع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في البلاد، ومن ضمنها اتحاد المرأة الأردنية.
نشهد حراكًا قاعديًافي الأردن حول قضايا الحقوق الجسدية والجنسية والإنجابية. ونرى جهودًا مبذولة لوقف قتل النساء والفتيات، ووقف العنف الإلكتروني والتمييز وخطابات الكراهية ضدهن.
مطالب سياسية لأول مرة
وفي عام 1974، أعيد تأسيس الاتحاد مرة أخرى، تحت اسم “الاتحاد النسائي في الأردن”. آنذاك، قابل وفد نسائي رئيس وزراء البلاد، للمطالبة بحق النساء في الانتخاب والترشح. وبعد ضغوطات عدة، تمت الموافقة على إعطاء حق الانتخاب للنساء المتعلمات فقط. فلقي القرار رفضًا من الحركة النسائية، لما له من طابع تمييزي.
إذ تسمح الدولة للرجال غير المتعلمين بالترشح والانتخاب، فيما تُحرم النساء غير المتعلمات من هذا الحق. وبناء على رفض هذا القرار المبتور، بقي حق النساء بالانتخاب معطلًا، حتى حلول العام الذي تلاه، بحسب ما تقوله نفاع.
في عام 1975، أصدر ملك الأردن آنذاك، الحسين بن طلال، قرارًا بمنح النساء الأردنيات حق الانتخاب. وذلك قبيل إطلاق المؤتمر العالمي الأول المعني بوضع النساء، في مكسيكو سيتي. في دولة المكسيك، دعا المؤتمر المجتمع الدولي لوقف التمييز ضد النساء، لما له من أثر سلبي على بناء الدول والمجتمعات.
فتسابقت حينها الدول لإعطاء النساء حق الترشح والانتخاب. وأدى إبداء إدارة المؤتمر نية نشر لائحة بأسماء الدول التي ستكفل هذا الحق، إلى إعطاء دفعة قوية للحركة النسائية، وجعل أقدامها ثابتة على الأرض.
View this post on Instagram
سنوات من النضال في تاريخ الحركة
في مكتبٍ بسيطٍ يطل على مدينة عمّان، وداخل أروقة صحيفة “الجوردان تايمز”، التقينا بالصحافية الأردنية والناشطة النسوية، رنا الحسيني.
قبل سنوات، أطلقت رنا كتابًا بعنوان “سنوات من النضال.. الحركة النسوية في الأردن“. يوثّق الكتاب مسيرة كفاح وسعي النساء الأردنيات لتحقيق العدالة والمساواة، ويحكي قصص الانتصارات والتحديات التي وقفت أمامهن خلال هذه المسيرة.
كما يسلّط الكتاب الضوء على المعارك التي واجهتها النساء منذ بدء الحركة النسوية. وذلك انطلاقًا من القوانين التمييزية والأعراف السياسية والمجتمعية والأبوية، التي ساهمت بتقييد وعرقلة الحركة النسائية في البلاد.
تقول الحسيني: إن محطات متعددة عبرت في تاريخ الحركة النسوية الأردنية. على سبيل المثال، في حقبة الستينيات، كان للقضية الفلسطينية أثرٌ على نضالات النساء. فقيّدت الحكومة الأردنية أنشطة الحركة، وفرضت قبضتها الأمنية على جميع التنظيمات السياسية. كان ذلك خوفًا من تعزيز وضع جماعات التحرير المؤيدة للفلسطينيات/ين آنذاك.
في كتابها، تذكر رنا الحسيني إن مرحلة الثمانينيات رسمت تغيرات تدريجية في الوضع السياسي والاجتماعي. إذ تقلّص دور الجمعيات النسائية وبرز نجم جماعة الأخوان المسلمين. فيما جاءت حقبة التسعينيات بمثابة مرحلة نهوض وصعود في مسيرة الحركة. حيث بدأ الملك الحسين بن طلال بدعم الحركة النسوية، ضمن خطة الإصلاح التي قادها.
وهنا، تذكر لنا رنا دخول النساء الأردنيات في مفاصل السياسة. إذ تم تعيين أول وزيرة في تاريخ الأردن عام 1979، وهي أنعام المفتي، لتترأس وزارة التنمية الاجتماعية في حكومة الشريف عبد الحميد شرف. بعد ذلك، فتحت الأبواب أمام النساء بشكلٍ أكبر، ونجحت في الحصول على مقعد بمجلس النواب الأردني. بعد خوضها الانتخابات النيابية، أصبحت أول امرأة تصل إلى هذا المنصب.
وترد في فصول الكتاب مرحلة ما بعد التسعينيات، “السنوات العشرين القادمة”، بأنها مرحلة الإنجازات. فقد سنّت القوانين والتشريعات المنصفة للنساء. كما عرج الكتاب على أثر سنوات الربيع العربي على الحركة النسوية في الأردن. إذ ساهم حرص الدولة على السيطرة على الوضع الأمني في البلاد إلى تقسيم الحركة المدنية وتقييد عملها.
يتطلب تحقيق العدالة الاجتماعية وتمكين النساء جهودًا حقيقة وجادة، من جميع أجزاء النسيج الوطني والاجتماعي في الأردن. تبدأ من أفراد العائلة الصغيرة، مرورًا بالمجتمعات الضيقة، فالأكثر اتساعًا.
الحركة النسوية.. من التعليم والانتخاب إلى الأحوال الشخصية
رغم أن العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي وقّعت عليها الأردن تلزمها بتصحيح حالة انعدام المساواة في النوع الاجتماعي “الجندر” والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء من كافة الأعمار وفي مختلف مجالات الحياة، إلا أن الأردن ما يزال واقفًا على عتبات العدالة الجندرية، بحسب نفّاع.
“يتوجب تعديل وتحديث القوانين التي تعيق حصول المرأة الأردنية على كامل حقوقها، كحقها في إعطاء الجنسية لطفلاتها/أطفالها بعد زواجها برجلٍ من غير جنسيتها. وهو أكثر قانون تمييزي ضد النساء”.
وينطبق الأمر نفسه على القانون الذي يمنح استثناءات لتزويج الفتيات بعمر 15 عامًا، أي قاصرات تحت السن القانوية للرشد. وهو ما سمح بارتفاع معدّل تزويج القاصرات. وتضيف نفّاع: “ترى الحركة النسائية أن التعليم هو الأساس، وأنه يجب وقف تزويج الفتيات تحت سن 18 عامًا.” وتكمل: “نحن نتخوف اليوم من العودة إلى نكسة جديدة في تاريخ الحركة النسوية وحقوق النساء”.
فمنذ سنوات، بدأنا نلاحظ تضييق الجهات الرسمية على عمل مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني. فتشكلت في وزارة التنمية الاجتماعية، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة هذا الملف، لجنة للوقوف على جميع المشاريع التي تنوي الجمعيات تنفيذها، تحديدًا في حال حصولهم على دعم خارجي”.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبعد موافقة اللجنة على تنفيذ المشروع، يتم رفعه إلى لجنة خاصة في رئاسة الوزراء. هذه اللجنة لها الحق برفض إجراء المشروع، وفي النهاية هو بحاجة إلى توقيع من قبل رئيس الوزراء. رغم أنه منذ عام 1993 تحصل المؤسسات على تمويل خارجي لتنفيذ مشاريع نسوية، ولم يكن يجري ما يحصل اليوم. ناهيك عن إطالة أمد الردود الرسمية، وهي تحتاج إلى أشهر في بعض الأحيان”، وفقًا لنفَاع.
عرقلة وقيود
بالتزامن مع ذلك، يتم التضييق حال إجراء أي فعالية نسوية أو نشاط، وهو بحاجة إلى موافقة المحافظ، أو الحاكم الإداري لكل محافظة. رغم أن القانون سابقًا كان يشترط إخطار الجهات الرسمية بالمناسبة المزمع إقامتها. اليوم، يتوجب إرسال وثيقة رسمية تشرح تفاصيل المناسبة وقبل 14 يومًا. وهذا ما عرقل الكثير من النشاطات التوعوية على مدار الأشهر الماضية في بعض محافظات المملكة. وكذلك منع عددًا من مؤسسات المجتمع المدني من الوصول إلى الفئات المستهدفة، لاسيما النساء.
أما عن تمكين المرأة اقتصاديًا، فترى نفّاع أن المرأة الأردنية تشهد انتكاسة في هذا القطاع. فمشاركتها في سوق العمل تبدو ضئيلة. إذ أن التضييق الذي يمارس عليها يمنعها من الحضور والوصول إلى مناصب إدارية عليا. وبالرغم من الجهود التي تحاول الحركة النسوية بذلها لتمكين المرأة، إلا أن نسب مشاركتها في سوق العمل ما تزال منخفضة، فهي لا تتجاوز (14%)، مقارنة ب (54%) للرجال.
قبل سنوات، تبنت الأردن مجموعة من القوانين التي تهدف إلى تحسين واقع النساء. كما أنها تسعى لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، وتحديدًا الهدف الخامس المعني بالمساواة. تلك الأهداف تتضمن أيضًا إزالة أشكال العنف ضد النساء والفتيات، وخفض نسبة تزويج القاصرات، ورفع المشاركة الإقتصادية من 13% إلى 27% خلال السنوات المقبلة.
وعلى الصعيد السياسي فيما يتعلق بأهداف التنمية المستدامة، فهي تشير إلى ضرورة ألّا يقل عدد النساء المشاركات في البرلمان الأردني عن 50%، وينطبق الأمر ذاته على المجالس المحلية.
أما عن تمكين المرأة اقتصاديًا، فترى نفّاع أن المرأة الأردنية تشهد انتكاسة في هذا القطاع. فمشاركتها في سوق العمل تبدو ضئيلة. إذ أن التضييق الذي يمارس عليها يمنعها من الحضور والوصول إلى مناصب إدارية عليا. وبالرغم من الجهود التي تحاول الحركة النسوية بذلها من أجل تمكين النساء، إلا أن نسب مشاركتها في سوق العمل ما تزال منخفضة، فهي لا تتجاوز 14%، مقارنة بـ54% للرجال.
حركة نسوية تقاطعية.. ولا يزال الأمل مستمرًا
بعد موجات الاحتجاج في البلدان الناطقة بالعربية عام 2011، أخذت الحركة النسوية منحى جديدًا. فقد ظهرت مجموعات وناشطات من مختلف الخلفيات والأماكن المهمشة، رافعات صوت مطالبهن عاليًا بالعدالة الاجتماعية. وقد اختلفت تلك عن سابقاتها من جهة المأسسة والخطاب وأيضًا القضايا.
فاليوم، نشهد حراكًا قاعديًا في الأردن حول قضايا الحقوق الجسدية والجنسية والإنجابية. ونرى جهودًا مبذولة لوقف قتل النساء والفتيات، ووقف العنف الإلكتروني والتمييز وخطابات الكراهية ضدهن. وهناك تقاطعات مع عدة قضايا، كالعدالة البيئية، والقضية الفلسطينية. فالخطاب التقاطعي اليوم أصبح محوريًا، مقارنةً بالأجيال السابقة من النسويات.
ما تزال رحلة النضال من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في الأردن قائمة. ولم تنته بعد، بالرغم من الإنجازات والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي استطاعت النساء الوصول إليها.
خلال السنوات الثمانين الماضية، لم يكن المسير سهلًا على الإطلاق. فمنذ أن خطت النساء أول خطوة في هذا الطريق، وحتى يومنا وهنّ مستمرّات بالكفاح لتحقيق الأفضل. ولكنّ الطريق ما يزال طويلًا لانتزاع المزيد من الحقوق التي تضمن تحقيق العدالة.
ويتطلب تحقيق العدالة الاجتماعية وتمكين النساء جهودًا حقيقة وجادة، من جميع أجزاء النسيج الوطني والاجتماعي في الأردن. تبدأ من أفراد العائلة الصغيرة، مرورًا بالمجتمعات الضيقة، فالأكثر اتساعًا. فيما يتوجب على الجهات الرسمية العمل بجدٍ وإرادة حقيقية لصناعة التغيير، وتعديل وسن القوانين والتشريعات، والسعي إلى زيادة وعي المجتمعات والأفراد بأهمية تحقيق العدالة والمساواة.
تقف النساء الأردنيات اليوم على جبهات المواجهة الأكثر احتدامًا. بينما مازال نضالهن مستمرًا نحو العدالة الاجتماعية بلا نقصان.