الحراك النسوي في السودان.. نضال في مهب الانقلابات العسكرية والعقلية الذكورية

بدأ الحراك النسوي في السودان منذ عقود طويلة. إذ ارتبط بالنضال ضد الاستعمار، واستمر في مراحل لاحقة مع الحكومات الوطنية والانقلابات العسكرية، التي هزت البلاد مرات عدة. ومنذ مطلع القرن العشرين، ناضلت النساء السودانيات ببسالة من أجل حقوقهن. ورغم الصراعات السياسية والانقلابات العسكرية والعادات والتقاليد البالية، استطعن الحصول على بعض الحقوق النوعية حينها.

لكن بمجرد أن استلمت الجبهة الإسلامية الوطنية مقاليد السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1989، انتكست أوضاع النساء. وانتكس كذلك الحراك النسوي عمومًا، لتبدأ مرحلة هي الأشد وطأة. ولهذا، عندما انطلقت شرارة الثورة ضد نظام “عمر البشير”، كانت النساء السودانيات في مقدمة كل التحرّكات. ولم تغادر النساء الميادين، وساهمن بقوة في إسقاط النظام. ولكن مجددًا، لم تنَل النساء السودانيات من المكتسبات والحقوق ما يعادل جهودهنّ في المشاركة.

تعترف كتب التاريخ بأن النساء السودانيات قد شاركن منذ القدم في مقاومة كافة أشكال الاستبداد والاستعمار. إذ اشتهرت عدة نساء شاركن، إلى جانب الرجال، في محاربة الاحتلال الأجنبي. وبرز اسم مهيرة بنت عبود بشكلٍ خاص في بداية القرن التاسع عشر. حيث عُرفَت بأشعارها المحفزة للمقاتلين السودانيين في حربهم ضد الاحتلال التركي- المصري. كما شاركت في مرحلة لاحقة في معارك الجيش، خلال تصديه للحملة التركية على السودان.

أمسى دور النساء في هذه المرحلة مهمًا، وعلى أكثر من صعيدٍ، إلى أن ظهرت الاتحادات والتنظيمات، كأدوات لمقاومة الاحتلال الأجنبي. حينها، كانت النساء السودانيات حاضرات بقوة، وبرز اسم الطبيبة خالدة زاهر، أول طبيبة سودانية، كناشطة سياسية مهتمة صراحةً بقضايا النساء. وكنتيجة، اعتقلها المستعمر البريطاني، بسبب مواقفها من الاحتلال الأجنبي لبلادها. كما كانت خالدة إحدى أبرز مؤسسات الاتحاد النسائي السوداني، الذي يعتبر أهم التنظيمات النسائية في تاريخ السودان الحديث.

عاد الإتحاد النسائي مرة أخرى إلى العمل السري، وتفرّقت كوادره بين القاهرة ولندن. كما تعرضت النساء السودانيات إلى إذلالٍ ممنهجٍ من قبل الجبهة الإسلامية، التي سعت إلى تقليص أدوار النساء في الحياة العامة.

حراك نسوي تنظيمي.. الاتحاد النسائي السوداني

كان تركيز الاتحاد النسائي السوداني منصبًّا على تشكيل نقابة تهتم بقضايا النساء، وتوحّد الاتحادات التي تشكلت من طرف نساء عاملات. في البداية، تم تأسيس “رابطة النساء الثقافية”، ما بين (1946 – 1949)، لكن التجربة لم تكتمل. واستمرّ المخاض حتى بداية يناير من سنة 1952، التي انعقد خلالها أول اجتماع تأسيسي للاتحاد النسائي.

بدأت اللجنة التمهيدية على يد “خالدة زاهر، ونفيسة أحمد إبراهيم، وعزيزة مكي، وحاجة كاشف، وفاطمة أحمد إبراهيم، ونفيسة المليك، وفاطمة طالب”، وهن نساء فاعلات في الحياة العامة والمهنية. وعلى سبيل الذِكر، في عام 1949، قادت الطالبة حينها في ثانوية “أمدرمان العُليا”، “فاطمة أحمد إبراهيم”، أول إضراب مرتبط بقضية نسائية في السودان.

ومنذ التأسيس، ناقش الاتحاد قضايا مهمّة، كالتعليم ومحو الأمية، وحق النساء في العمل، كمدخل للمساواة والعدالة الاجتماعية. كما سعى الاتحاد إلى تحسين أوضاع النساء في المعيشة والأجور، ومحاربة العادات والتقاليد، التي تسيء إلى صورة النساء. وكان ذلك بجانب حملات توعية قادها الاتحاد لمناهضة الختان (تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية)، والتي اعتمد فيها على أكثر من وسيلة.

بعد الحصول على الاستقلال في كانون الثاني/ يناير 1956، لم تنجح الأحزاب السودانية في الاتفاق على صيغة توفيقية حول نظام الحكم والدستور. وانتهى الأمر باستيلاء الفريق “إبراهيم عبود” على السلطة، عبر انقلاب عسكري في الـ17 من تشرين الثاني/ نوفمبر 1958، والذي استمر حتى 1965. بعد الانقلاب، تم حل جميع الأحزاب السياسية، ومنع العمل التنظيمي كالتجمعات والتظاهرات في كامل البلاد، وبالطبع كان الاتحاد النسائي أحدها.

الحراك النسوي في مرحلة ما بعد الاستقلال

وفي ظل هذا الوضع الجديد، اضطرّ الاتحاد إلى استكمال نشاطه بشكلٍ سريّ، ومواصلة إصدار مجلة “صوت المرأة”. كما شاركت النساء السودانيات بقوة في مناهضة الحكم العسكري الأول. فلعب الاتحاد النسائي دورًا محوريًا في ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1964، من خلال حشد القواعد النسائية للمشاركة في الاحتجاجات، التي كانت تقودها آنذاك رئيسة الاتحاد المناضلة “فاطمة أحمد إبراهيم”.

وبعد سقوط النظام العسكري، استطاعت النساء السودانيات انتزاع بعض المكاسب، كالحق في التصويت والترشّح للانتخابات. فأصبحت المناضلة “فاطمة أحمد إبراهيم”، أول برلمانية في السودان والشرق الأوسط، بعد ترشحها في أول انتخابات بعد ثورة أكتوبر.

وواصلت “فاطمة أحمد إبراهيم” نضالاتها داخل البرلمان دفاعًا عن حقوق النساء. إذ ساعد وجودها في هذا المنصب، النساء السودانيات في الحصول على بعض الحقوق، كضمان الحق في مزاولة كل المهن، بعد أن كان عمل النساء السودانيات محصورًا في التمريض والتعليم. كما استطعن تأمين مبدأ التساوي في الأجر والعلاوات والمكافآت والترقّي الوظيفي، إلى جانب إجازة الأمومة مدفوعة الأجر، وإلغاء “قانون المشاهرة”. كان هذا القانون يتم بموجبه إجبار النساء العاملات على تقديم استقالاتهنّ بعد الزواج.

ولكن الوضع الأمني والسياسي في البلاد لم يستقر طويلًا في ظل الحرب الأهلية في جنوب السودان، وفشل الأحزاب مرة أخرى في التوافق. وبالتالي،حدث انقلاب عسكري جديد على الحكومة المنتخبة، بقيادة “جعفر نميري” في الـ25 من أيار/ مايو 1969.

وعلى غرار الانقلاب العسكري الأول، سارع نظام “نميري” إلى حل البرلمان. وحظرَ جميع الأحزاب السياسية، وفرض دولة الحزب الواحد ممثلًا في الاتحاد الاشتراكي السوداني. كما تم حل الاتحاد النسائي وفصل عضواته من العمل واعتقال بعضهن، والزجّ بهن في السجون. وبدلًا من حراك نسوي مستقل، تم تأسيس “اتحاد نساء السودان”، وهو الجناح النسائي للاتحاد الاشتراكي، والذي بدوره شدد أدوات القمع. مما أدى إلى تقييد حرية النشاط السياسي والاجتماعي.

 

 

 

 

 

 

View this post on Instagram

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

A post shared by شريكة ولكن – Sharika wa Laken (@sharikawalaken)

رحلات الحراك النسوي السوداني.. من العلن إلى السريّة

وفي خضمّ هذا الوضع، تفاقمت الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية مع بداية الثمانينيات. كما اندلعت الحرب الأهلية مجددًا في جنوب السودان سنة 1983، والتي مهّدت لانتفاضة (آذار/ مارس – نيسان/ أبريل 1985) فيما بعد. ومن جديد، لعبت النساء السودانيات أدوارًا ذات أهمية كبرى في الانتفاضة، مُستفيدات من تقدمهن في التعليم والعمل في مختلف المهن. كان ذلك سببًا مباشرًا في انتظامهنّ تحت مظلّة النقابات المهنية، التي كان لها الدور الأكبر في إنجاح الثورة، والإطاحة بنظام “نميري” العسكري. وعاد، بعدها، الاتحاد النسائي لممارسة أنشطته بشكل علنيّ.

في حزيران/ يونيو 1986، شكّل الصادق المهدي حكومةً ائتلافيةً بين عدد من الأحزاب. لكن الصراع السياسي كان لايزال قائمًا على مدار ثلاث سنوات انتهت بانقلاب عسكري آخر. بعدها، تمّ التحالف بين الجيش والإسلاميين في الـ30 من يونيو عام 1989، والذي استمر حوالي 30 عامًا.

خلال هذه الفترة، عاد الاتحاد النسائي مرة أخرى إلى العمل السري، وتفرّقت كوادره بين القاهرة ولندن. كما تعرضت النساء السودانيات إلى إذلال ممنهج من قبل الجبهة الإسلامية، التي سعت إلى تقليص أدوار النساء في الحياة العامة. حيث تم إصدار القوانين التي تحول دون حصولهنّ على بعض الوظائف العليا، بعد أن حصلن عليها سابقًا. وبناء عليه، تم تقليص حضور العنصر النسائي في كليات الهندسة والطب. إلى جانب الفصل من العمل والتشريد والمضايقات، والتدخل السافر في شؤون المظهر العام وحرية الحركة.

لم يتوقف الأمر على الحرمان من الحياة العامة كحق التعليم العالي وحرية الحركة والمظهر، إذ كان هناك أيضًا قمع ممنهج. مارست الأجهزة الأمنية العنف ضد الناشطات فى المجتمع المدنى والتنظيمات السياسية والصحافة. وتراوح هذا العنف بين تشويه صورتهن أمام المجتمع، وعنف لفظي وجسدي، وبين العنف الجنسي بممارسة ممنهجة للاغتصاب. كما قدمت منظومة النظام العام غطاءً قانونيًا، ساهم في اعتقال قوات الأمن للنساء بصورة تعسفية والاعتداء عليهن، حسب ما يتم اعتباره سلوكًا “غير لائقًا”، أو ملابس “غير محتشمة”.

طيلة أيام الثورة، نالت السودانيات نصيبهن من القتل والتعذيب والاعتقال. كما تحدين رفض المجتمع انخراطهن في العمل الثوري، لأسباب ذكورية مفادها أن المنزل هو “المكان الطبيعي” للنساء. وبعد نجاح الثورة وسقوط نظام “عمر البشير” الذي كان للسودانيات الفضل الأكبر في حدوثه، لم تكن الثمار المقطوفة بحجم مشاركتهن.

ما بعد الثورة

تقول الناشطة السودانية رؤيا حسن لـ”شريكة ولكن”: “بسبب النزاعات المسلحة والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية وانتشار السلاح على مدار عقود، هناك خوف يسكن كل السودانيات/ين ولا سيما الناشطات النسويات. لأنهنّ كن دائمًا عرضة للاستهداف بأشكال مختلفة. ولكن كان هناك أمل في أن يحدث التغيير المأمول، وتنجح تضحيات أجيال من النساء وتثمر، خاصةً على مستوى النصوص القانونية”.

وأسفت لأن “فترة حكم الإسلاميين نسفَت كل جهود وتضحيات النساء السودانيات، اللواتي خضن المعارك الضارية من أجل تحصيل بعض الحقوق. إذ أدت هذه الحقبة التي تشرذم الحراك النسوي وتشتته في ظل قبضة النظام الصارمة، إلى محدودية وسريّة النشاط النسوي. واليوم، بعد إسقاط البشير، بدأت حقبة جديدة بالنسبة إلى السودانيات وإلى الحراك النسوي خاصة، لكن بملامح غير واضحة حتى الآن”.

منذ اندلاع الثورة في السودان، أواخر عام 2018، شاركت النسويات الأحزاب السياسية والمجموعات التنظيمية، في المطالبة بإسقاط “نظام عمر البشير”. وتميّز الحراك النسوي بمشاركة فعّالة، والتي ظهرت جليةً في قيادة وتخطيط بعض النسويات للمظاهرات المطالبة بإنهاء الحكم الشمولي. كذلك كنّ حاضرات بقوة في كافة الأنشطة الثورية، بما في ذلك عمليات صيد قنابل الغاز المسيل للدموع وغيرها.

وطيلة أيام الثورة، نالت السودانيات نصيبهن من القتل والتعذيب والاعتقال. كما تحدين رفض المجتمع انخراطهن في العمل الثوري، لأسباب ذكورية مفادها أن المنزل هو “المكان الطبيعي” للنساء. وبعد نجاح الثورة وسقوط نظام عمر البشير الذي كان للسودانيات الفضل الأكبر في حدوثه، لم تكن الثمار المقطوفة بحجم مشاركتهن.

تقول الناشطة النسوية اعتزاز بكري عبد الله عثمان، لـ”شريكة ولكن”: “شاركت النساء بصورة لافتة في ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة. ولكن تم إقصاء النساء من أماكن صنع القرار السياسي، لأن بنية الوعي السياسي ذكورية ومنحازة للرجال. حيث تتعامل هذه البنية مع النساء كصفّ ثوري ثانوي، ووظيفتهن مقتصرة على تحميس الرجال في المقاومة الثورية”.

 

 

 

 

 

 

View this post on Instagram

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

A post shared by شريكة ولكن – Sharika wa Laken (@sharikawalaken)

حراك جديد في طور النشوء

واعتبرت اعتزاز بكري عبد الله عثمان أن “معركة الحقوق للنساء السودانيات في الفترة الانتقالية فشلت”، مشيرةً إلى أنه “تم التلاعب بأبسط حق وهو المشاركة السياسية. حيث تم تحديد مشاركة النساء على نسبة 40% من مقاعد المجلس التشريعي، الذي لم يتم تشكيله. حتى الحكومات التي تشكّلت، كانت نسبة النساء فيها قليلة، وذلك بعد حملات ضغط، نظمتها المجموعات النسوية”.

أما الناشطة السودانية رؤيا حسن، فأشارت لـ”شريكة ولكن” إلى أنه “في الفترة الراهنة، هناك صعوبة في رسم صورة واضحة عن الحراكات النسوية السودانية. كما يصعُب تقييمها في ظل الوضع الاقتصادي المنهار، والحروب الأهلية، والقوانين المجحفة، والسلطة السياسية الذكورية سواء كانت معسكرة أو مدنية”. وأكدت أن “كل هذه التحديات تؤثر على الحراك النسوي السوداني. كما أنه بعد الثورة، ظهرت بعض الأصوات الجديدة من النسويات تعتمد على مناهج ونظريات تختلف عمّا قبل 2018. وهي جميعها معطيات تجعلنا نكتفي بالمراقبة، لنفهم كيف سيتشكل الحراك وأي أفكار سيتبنى”.

رغم قتامة الوضع، هناك بعض المكتسبات التي تبثّ الأمل في طريق النساء السودانيات. فبعد عقود، تم تعديل بعض مواد القانون الجنائي، وقوانين الأحوال الشخصية التي كانت تؤصّل دونيّة النساء. إذ تم إلغاء المادة التي تُحرّم اصطحاب النساء لأطفالهن خارج البلاد دون موافقة الزوج أو من ينوب عنه. وفي هذا الصدد، تم تجريم عمليات تشويه الأعضاء الجنسية والتناسلية للنساء (الختان). كما تم إلغاء قانون النظام العام المرتكز على المادة (152) من القانون الجنائي. وكان الأخير يتم استخدامه للحد من مشاركة النساء في الفضاء العام، بمطاردتهن وابتزازهن وجلدهن، بتهم ارتداء “زيّ فاضح أو مخلّ بالآداب العامة”، أو “الإتيان بسلوك فاضح”.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد