موجات الحرارة.. الأبعاد الجندرية والطبقية

ترتفع الحرارة مؤخرًا في عدة مناطق من العالم، بسبب التغيرات المناخية وانبعاث الغازات. هذا الصيف، نشهد في منطقة شمال غرب آسيا وشمال إفريقيا ارتفاعًا غير مسبوقٍ في درجات الحرارة. وهو ما أدى إلى إصابات حروق جلدية أو حالات وفاة، خصوصًا في أماكن الازدحام الشديد. اتخذت بعض التدابير من قبل الحكومات، بجانب حرص الأفراد على عدم التعرّض للشمس.

يركّز هذا النص على الأبعاد الطبقية والجندرية لتأثير موجات الحرارة على الأشخاص، بالأخص لو كنّ نساء، أو من الطبقة العاملة.

العمل أثناء موجات الحرارة

وفقًا لعدة عوامل اقتصادية، يُجبر الأفراد على مواصلة العمل خارج المنزل، وهو ما يعرضهن/م إلى أشعة شمس مباشرة أو غير مباشرة. تؤثر أشعة الشمس على الجلد، وتسبب الجفاف والإعياء و/أو الإغماء. كما تتسبب في أزمات تنفسية ووجود/زيادة أعراض سلبية على الصحة العقلية والنفسية.

تضطر الطبقات العاملة والمتوسطة الخروج للعمل. إذ لا يوجد إجازات مدفوعة إلا في حالات موجات الحرارة الاستثنائية. وحتى هذه، غير مُعممة وتكون وفقًا لـ”مزاج” إدارة العمل. يؤثر هذا الاضطرار على الأشخاص بمختلف هوياتهن/م الاجتماعية، وعلى سلامتهن/م الجسدية والنفسية. هذا بجانب تقلص القدرة على الإنتاج والعمل في ظل حرارة مرتفعة، خصوصًا العمل الميداني.

فالعمل الميداني يُجبر الأشخاص على التعرّض لأشعة الشمس، وأغلبهن/م من العمالة المؤقتة وغير الرسمية. حيث لا يقدر هؤلاء على طلب إجازات، إما لكونها غير مدفوعة أو ستتسبب في فصلهن/م من العمل بذريعة “الكسل”. يعكس ذلك بُعدًا طبقيًا لموجات الحرارة التي تدفع الطبقات العاملة أثمانها أكثر من الطبقات الأخرى. 

في حالات العمل من المكاتب والبنايات، يضطر الأفراد إلى استهلاك مزيد من الوقود والكهرباء لتخفيض الحرارة. وهو بدوره يُزيد الأمر سوءً من ناحية الانبعاثات الغازية المساهمة أصلًا في ارتفاع درجات الحرارة.

أغلب قطاعات العمل الرسمي والخاص، لا توفّر حلولًا بديلة لساعات العمل النهارية. وذلك بسبب تمحوّر الوقت حول ساعات العمل الرسمية والتي تبدأ في الصباح لما بعد الظهيرة.

تفرض التغيرات المناخية نفسها على الجميع، ولذلك وجب إيجاد بدائل لساعات العمل الصباحية. فهذه البدائل تساهم في الحفاظ على صحة العاملات/ين، وأيضًا الموارد والإنتاجية، ولو من منظور رأسمالي يُعلي قيمة العمل على العامل/ة.

موجات الحرارة والعمل المنزلي والرعائي

تزداد التأثيرات السلبية لموجات الحرارة إن كانت النساء عاملات خارج المنزل. وبخلاف ما تم ذكره في الفقرة السابقة، تتحمل غالبيتهن أعباء العمل المنزلي والرعائي بمفردهن. يأتي تأنيث العمل الرعائي والمنزلى على رأس قائمة الأسباب. إذ تختفي المشاركة من الأفراد اللواتي/الذين يعيشن/ون في منزلٍ واحدٍ، تحديدًا في حالات الأسرة ووجود أطفال/طفلات وكبيرات/كبار السن.

تجد النساء العاملات أنفسهن بين نار الحرارة وضغط عمل بأجرٍ زهيد، نظرًا للفجوة الجندرية للأجور، ونار العودة للمنزل. تنتظرهن ساعات تحضير الطعام أمام الموقد، ورعاية طفلاتهن/أطفالهن، بجانب تقديم الخدمات المنزلية والجنسية للزوج. يحدث كل ذلك دون اعتبار لصحتهن النفسية والجسدية.

حالة النساء العزباوات لا تختلف كثيرًا. فأغلبهن واقع عليهن عبء منزلي ما، سواء في التنظيف والطبخ، أو رعاية الكبيرات/الكبار والمرضى داخل الأسرة. وتجبر معظمهن على مشاركة معاشاتهن الشهرية واليومية للمساهمة في مدخول يغطي مصاريف الأسرة. أما المستقلات منهن عن الأسرة، فمجبرات على مواصلة العمل خارج المنزل لتوفير مصاريفهن الشهرية، وينتظرهن العمل المنزلي عند العودة للمنزل/السكن.

كما لا تختلف حالة النساء اللواتي لا يعملن بأجرٍ خارج المنزل. حيث يتم اعتبارهن مسؤولات عن العمل المنزلي والرعائي، بحجة أنهن لا يوفرن مدخول إضافي للأسرة. رغم أن العمل المنزلي نفسه عمل، لكنه غير مدفوع الأجر، وغير معترف بقيمته الاقتصادية للأسرة والدولة على حدٍِ سواء.

تتشارك النساء، بصرف النظر عن حالاتهن الاجتماعية، في قبوع مسؤوليات العمل المنزلي والرعائي على عاتقهن. وتستمر هذه المسؤولية حتى لو استأجرن عمالة منزلية مدفوعة، التي هي أيضًا أغلبها من النساء.

في ظل ارتفاع مستمر لدرجة الحرارة، وبدلًا من الاستلقاء والراحة تجنبًا للإعياء، يضطررن إلى مواصلة العمل المنزلي دون راحة أو إجازة. كذلك يتوقع منهن أن ينظمن حياتهن بالكامل وفقًا لجدول انقطاع التيار الكهربي. يشمل ذلك الخروج لقضاء حاجيات المنزل والطبخ واستخدام الأجهزة الكهربائية في ساعاتٍ محددة.

موجات الحرارة والعنف الجنسي

من ضمن التدابير التي اتخذتها الحكومات لمجابهة تأثير درجات الحرارة المرتفعة هو فكرة تخفيف أحمال التيار الكهربائي. وترتكز هذه الفكرة على قطع متعمد للكهرباء خلال اليوم، وبشكل عشوائي يشمل ساعات الليل وليس النهار فقط. يأتي هذا القطع مُسببًا بأن الاستهلاك العالي للكهرباء لتشغيل مكيفات الهواء والمراوح، يسبب أزمات طاقة محلية.

بسبب انقطاع التيار الكهربائي، تنطفئ أعمدة الإنارة في الشوارع، ما يضطر النساء إلى السير أو القيادة في ظلامٍ يسمح للمعتدين بممارسة جرائم العنف الجنسي. ووفقًا لهذا الظلام، قد لا تتمكن النساء والفتيات من معرفة ملامح الجناة أو تصويرهم وملاحقتهم. وعوضًا عن اختيار شوارع وأزقة ذات أعمدة إنارة كما يفعلن في الشتاء، ينسحبن من الفضاء العام في ساعات الليل الصيفية. يعود الفضاء العام مرة أخرى إلى مساحة رجولية بامتياز، لأنه ورغم تعرض الرجال للعنف الجنسي، فأغلب الضحايا/الناجيات من النساء/الفتيات والأطفال/الطفلات.

الأمر غير مقتصر على العنف الجنسي في الظلام وأثناء انقطاع الكهرباء. إذ تضطر النساء والفتيات، خصوصًا مرتديات الحجاب، إلى ارتداء ملابس غير مناسبة لدرجات الحرارة. وعلى الرغم من أن عدة دراسات وأبحاث، وشهادات النساء والفتيات أنفسهن، تُشير إلى أن الملابس لا تتسبب بالضرورة في تعرض النساء لجرائم عنف جنسي، إلا أن انتشار العنف الجنسي يجعل من الصعب على النساء ممارسة حرياتهن في الملبس. من جهة، بسبب الخوف المُبرر تمامًا من العنف الجنسي. ومن جهة أخرى، بسبب الوصم الاجتماعي للنساء بناءً على ملابسهن، واستخدامها ذريعة لتبرير العنف الجنسي بحقهن.

نجد النساء والفتيات محاصرات داخل الملابس في درجات حرارة تتجاوز الـ45ْ، فقط بسبب هوياتهن الاجتماعية. يدخل ذلك حيّز العنف القائم على النوع الاجتماعي، والذي في هذه الحالة، يتم وضع مسؤولية وقوعه على النساء اللواتي هن في الأصل ضحايا/ناجيات محتملات أو فعليًات لهذا العنف. فبدلًا من أن تتخذ الدولة تدابيرها لمواجهة أزمات الطاقة والحرارة بعينٍ متحسسة جندريًا، نشهدها لا تأخذ البعد الجندري في عين الاعتبار كليةً.

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد