الإنترنت من مساحة نسوية إلى مصيدة أبوية

شكلت المساحات الافتراضية خلال السنوات الماضية مساحة استطاعت التغلب على القيود الأبوية الصارمة المفروضة على المجال العام، والنضال ضد النظام الأبوي بكل مناحيه السياسية والثقافية والاقتصادية.

وبصفته مكانًا مفتوحًا، أصبح الأنترنت ملاذًا استراتيجيًّا للفئات المضطهدة من أجل النضال ومقارعة الأنظمة التي تضطهدها، بعد أن كان الفضاء العام يخضع لسلطة ومؤسسات ذات الأنظمة.

مساحة نسوية محررة

كان تشكيل هذه المساحات شديد السياسية، حيث استعادت النسويات مركزية الصوت المناضل ضد النظام الأبوي والأنظمة الاضطهادية الأخرى. فظهر إنتاج المعرفة النسوية على الفضاء الإلكتروني، والنضال ضد العنف الأبوي بكل تجلياته.

فبعد قرون من توفّر وسائل المعرفة والتواصل تحت رقابة الأنظمة القمعية التي تفرز ما يسمح أن يقال وتلاحق ما يهدد وجودها، ظهرت المنصات النسوية وأصبحت الكتب والمقالات المنتجة منذ بداية ظهور الحركات النسوية متوفرة وازدهرت حركة الترجمة. وتمت إعادة كتابة التاريخ وتبسيط المفاهيم النسوية من خلال التغريدات والمنشورات التي تنشر بضغطة زر ولا تنتظر الموافقة من أدوات الرقابة.

لا شك أن المتابعة لظهور الحراك النسوي الإلكتروني قد تخرج بعدّة مراحل، ساهم فيها هذا الحراك في تثوير المساحات الافتراضية وتطبيع وجود النساء فيها، بل وتبسيط المعرفة النسوية لحد وصلت فيه أعداد النسويات في عموم المنطقة الناطقة بالعربية لأرقام هائلة.

إثر ذلك ظهرت الحملات المنددة بالعنف الأبوي مثل حملات التنديد بقتل النساء ومناهضة الاعتداء الجنسي، وهاشتاغات التضامن النسوي التي أصبحت مهددة لسلطة النظام الأبوي وسيطرته على السرديات العامة عن النساء والفئات المضطهدة.

لم يعد من السهل وضع امرأة واحدة تحت المحاكمة، فمناهضة القيم والسلط الأبوية أصبحت تصدر من أصوات متعددة ومن سياقات متعددة.

في هذا الصدد ظهر الحكي الجمعي النسوي عن التجارب الشخصية/السياسية، وهي الأداة التي مكّنت النسوية من أنسنة النضال، حيث لم يعد الحديث مقتصرًا على التنظير عن النظام الأبوي، بل أصبح مواجهة سياسية تستعرض تجارب شديدة الألم تتحدى سياط القمع والوصم ولوم الضحية، وتقول بكل وضوحٍ بأن تجاربها مع العنف تدين النظام الأبوي فقط.

من ارتياد الانترنت إلى صناعة المحتوى

هذا التثوير للفضاء افتراضي أصبح بلا شك يوازي ويرتبط بنفس الوقت مع الواقع المادي، حيث أن تزايد وجود النساء على الإنترنت واستعادة مكانتهن التاريخية ضمن التجمع الإنساني بصفتهن صانعات للخطاب لا متلقيات فقط، أثر بدوره على مقدرة النساء على ارتياد الإنترنت.

فساهم وجود نساء يعدن كتابة التاريخ ويناضلن ضد القمع، وينادين بإسقاط المنظومة التي حرمت فئات واسعة من سبل الحياة والكرامة، في أن يكون هذا الفضاء الافتراضي أكثر مرونة بالنسبة للنساء.

رغم الاختلافات في المحتوى والأهداف، مكّن هذا النضال النسوي من الاستفادة من وجود عالم موازٍ للعالم القمعي حتى وإن كان افتراضياً، يمكن للنساء الظهور دون قيود السلطة وإن كان ذلك يأتي بضريبة كبيرة على مستوى الأمن الشخصي والصحة النفسية.

جازفت الكثير من النساء بالظهور والحديث ومشاركة نشاطاتهن اليومية، وحتى قلب معادلة الفضاء العام المقيد من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للترويج والدعاية، فيما أصبح يعرف بظاهرة “الفاشيونستات”.

سواء كان هذا يخدم الأجندة النسوية أو يعيقها، الثابت أنه كسر العديد من القواعد الصارمة التي كانت تلاحق ظهور النساء على العلن، منها الحجاب والقواعد الذكورية التي تشدد على الالتزام بالأدوار الجندرية.

قد يكون من المبالغة أن نتحدث عن كسرٍ تام للأدوار الجندرية في الفضاء الرقمي، لكن الثابت للملاحظة والدراسة هو أن نشاط النساء على هذا الفضاء أصبح يهدد السلطة الأبوية والتقاليد والثنائيات القمعية التي وضعتها.

يتجلى ذلك بشكلٍ واضح من خلال وجود أزواج يظهرون في محتوى مشترك يكسر ظاهرة الزوج الذي يمنع زوجته من الظهور للآخرين بصفته “مسيطرًا”، أصبحت مقاطع وضع المكياج والرقص وطبخ الرجال ومشاركة النساء لهوايتهن ومواهبهن تنتشر في جميع وسائل التواصل الإجتماعي، بل أصبحت تشكل طبقة اجتماعية جديدة تنفلت من بين الطبقات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية.

ولا يعني هذا أن الطبقات والهرميات التي تسيّر المجتمع يمكن أن تتفكك، بل بدورها تتمدد لتشمل أشكال جديدة لكنها غير خاضعة تمامًا للبروتوكولات المعروفة عن الترقي الطبقي، وذلك لأنها تنبع من الثراء السريع لمنصات التواصل الاجتماعي الذي يمكن تحقيقه ممن فرض عليهن/م التفقير والتهميش.

كما أن ظاهرة صانعات/صناع المحتوى لا تعني أن القواعد والقيم الأبوية يمكن أن تتأثر، بل بالعكس يتم الدفاع عنها لكسب ود المجتمع، لكن الواضح أن هذه الظاهرة تساعد في التحايل عليها وإظهار أنها غير مطلقة وأن رغبات الإنسان وطموحاته أوسع من نطاقها الضيق.

الاعتقال والقتل والتشهير وسائل استعادة السلطة

ساهمت هذه الكثافة والوقائع الاجتماعية الجديدة في خلق حالة من الفوضى لدى النظام السياسي والاقتصادي القائم على الأبوية والسياسات الرأسمالية، فظهر القمع وتمدد لينتج ظاهر العنف المركب الذي يستهدف النساء بناءً على نشاطهن الإلكتروني.

ظهر ذلك بشكلٍ كبيرٍ خلال السنتين الماضيتين عندما تم إطلاق حملات اعتقال واسع ضد فتيات التيك توك في مصر بتهم مثل قيم الأسرة المصرية، ونشر الفسق والفجور والاتجار بالبشر.

اعتقالات طالت فتيات من طبقات مفقرة استطعن تحقيق شهرة واسعة في فترة قصيرة، تجاوزن فيها القيود الأبوية التي تضع للنساء قواعد محددة للظهور فشاركن أساليب حيواتهن المختلفة عن النماذج المفروضة، والقيود الطبقية التي تحرم فتيات الطبقات المفقرة من وسائل الحياة الأساسية والرفاهية التي يتمع بها غيرهن.

وتفاقمت ظاهرة العنف ضد النساء بناءً على نشاطهن الإلكتروني لتأخذ طابع القتل والتصفية في العراق منذ عام 2018، حيث تصاعدت جرائم قتل المشهورات في الشارع العام لتأخذ منحى القتل المنظم في السنوات الأخيرة.

لا يقتصر العنف الأبوي الموجه ضد النساء على السجن والقتل، بل شمل أيضًا حملات تحريض وتشهير في الفضائين الرقمي والواقعي، بنفس الأدوات الأبوية التي استخدمت ضد كل من تحدت قواعد هذه المنظومة العنيفة.

إن تدمير المساحة التي أسستها النسوية ضمن الفضاء الرقمي بالنضالات التي اقتلعت حق النساء في التواجد فيه، حول هذا الفضاء لمصيدة أبوية تلاحق كل من تظهر دون الالتزام بتعزيز سلطة النظام الأبوي وقمع الحريات والأصوات.

فلم تكن الانترنت يومًا خالية من العنف الأبوي ومن قيمه العنيفة، لكن لا يمكن تجاهل السعي الممنهج لهذا النظام في بسط سيطرته على مكان استطاعت فيه الفئات المضطهدة أن تقوض هذه السلطة وتتحداها وتكشف زيفها.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد