أولمبياد 2024.. مساواة أم محاباة؟

تتفاخر اللجنة الأولمبية الدولية بأن دورة باريس 2024 حققت “مساواة عددية كاملة”، حيث تساوى عدد الرياضيات والرياضيين رجالًا ونساء.

مرحى! لكن قبل أن نسكر في نشوة الاحتفال، دعونا ندقق في ماهية ما يسمونه مساواة. والحقيقة أن ما ستكتشفنه/ستكتشفونه لن يكون تقدّميًا بالقدر الذي تتوقعنه/تتوقعونه.

ففي الوقت الذي تتعادل فيه كفة السيدات الرياضيات عدديًّا مع نظرائهن الرجال، تبقى حقيقة تجاربهن متباينة تمامًا.

على أرض الواقع، يتلاشى لواء المساواة الذي تتفاخر به اللجنة أمام سيل التعليقات الذكورية التي يتعرضن لها، الأمر الذي يقوض انجازاتهن الرياضية. واللافت أن هذه الأحداث لا تعدّ حالات فردية معزولة، بل أصبحت حالةً سائدةً ونهجًا مقلقًا يستمر بالتوسع على الرغم من مزاعم التقدم وشعارات المساواة بين الجنسين.

الأولمبياد.. والإرث الذكوري

لنرجع بالزمن قليلًا. في عام 1924، وهي المرة الأخيرة التي استضافت فيها باريس دورة الألعاب الأولمبية، لم تشكّل نسبة النساء المتنافسات في الألعاب الأولمبية سوى 4% من المتنافسين. في حين اقتصرت مشاركتهنّ على رياضات اعتبرت “مناسبة” مثل السباحة والتنس والكروكيه.

“وجود النساء في الألعاب الأولمبية ليس عمليًّا، ولا فائدة منه”.

وسبق للأرستقراطي الفرنسي بيير دي كوبرتان الذي أعاد إحياء الألعاب الأولمبية، أن أدلى عام 1912 بتصريحات تعكس الرؤية الأبوية وتجذُّرها عبر العصور. فصوّر الألعاب الأولمبية على أنها تمجيدٌ للرياضيين الرجال، معظّمًا وهم التفوّق الذكوري، ومسخّفًا دور النساء.

“النساء يصفّقن لأمجاد الرجال”

إذ قال دي كوبرتان، في معرض معارضته لمطلب مشاركة النساء في الألعاب الأولمبية، إنه “يجب الاستمرار في التمجيد الدوري للرياضة الخاصة بالرجال، وفق أبعادٍ عالمية تعتمد على النزاهة، وتجري في إطارٍ فني”، ليتابع: “حيث يكون تصفيق النساء هو المكافأة.”

يا لها من نظرة دونية موصوفة! أن يكون أقصى طموح النساء التفرج على أمجاد الرجال والابتهال أمام “عظمة” انجازاتهم!

ويكمل دي كوبرتان، في موقفٍ آخر يعبّر عن فوقيته الذكورية الثابتة، قائلًا إن “وجود النساء في الألعاب الأولمبية ليس عمليًّا. كما أنه ليس مثيرًا للاهتمام، ولا فائدة منه. ولا أتردد من اعتباره غير لائق”.

وكانت أليس ميليا، وهي رائدة الرياضات النسائية، وأول رئيسة لاتحاد المجتمعات الرياضية النسائية في فرنسا ومؤسسة الاتحاد النسائي الرياضي العالمي، قد عارضت بشدة رأي بيير دي كوبرتان بأن مشاركة المرأة في الألعاب الأولمبية غير لائقة.

وبسبب تأثرها بصعود الحركات النسوية في عصرها، أسست أليس ميليا دورة الألعاب العالمية للنساء في عام 1922، لتتيح لهنّ مساحة للتنافس على المستوى الدولي. وفي نهاية المطاف، أجبرت الألعاب الأولمبية على إدراج المزيد من الفعاليات النسائية، ما جعل من ميليا رائدةً تحدت الهياكل الأبوية للرياضة، ووسّعت الفرص المتاحة أمام الرياضيات النساء.

هنا، نعود قليلًا بالصورة الذهنية إلى العام 2024، لنجد أن تحسّن الأرقام لم ينعكس تحسنًا على النظرة القديمة البالية. إذ تبقى النساء رغم إنجازاتهن الرياضية “غرضًا” يجري تقييمه وفق المعايير الذكورية للجمال أو الدور الذي يفترض لها أن تلعبه.

العدسة المتلصّصة

لا تنحصر الذكورية في الألعاب الأولمبية على الآراء الرجعية فحسب. بل تظهر بوضوح في عدسات الكاميرا، وزوايا التقاط الصورة، ومواضع التركيز.

فعلى الرغم من تأكيدات الرئيس التنفيذي لخدمات البث الأوليمبي “يانيس إكزارخوس” بأن “السيدات الرياضيات لسن موجودات هنا لأنهن أكثر جاذبية أو إثارة… بل لأنهن نخبة  الرياضيات “، ورغم تحذيره من “التحيز اللا واعي” للمصورين، إلا أن الأدلة تروي قصصًا مختلفة.

كثيرًا ما تم تصوير النساء الرياضيات بطرق تبرز مظهرهن أكثر من أدائهن وكفاءتهن الرياضية.

في هذا السياق، ذكرت صحيفة فرانس 24 أن “مشغلي الكاميرات والمحررين التلفزيونيين يميلون لاختيار لقطات النساء لتكون أكثر قربًا”. ما يظهر أن الكاميرات، ومن خلفها -المصورين الرجال- لم يتمكنوا من مقاومة تشييء النساء وتحويلهن إلى أغراض تثير الاهتمام البصري، بدلًا من الاحتفاء بمهارتهن وإنجازاتهن.

كما تؤكد تقارير لمنظمة اليونسكو أن النساء الرياضيات يواجهن أكثر من مجرد التشييء البصري. فهن أكثر عرضة للتحرش والإساءة، ما يضيف بعدًا آخر إلى التحديات التي يواجهنها.

التسلط على سلوك النساء

لكن مهلًا، لا ينته التسلّط هنا!

فعند الحديث عن الرياضيّات النساء، غالبًا ما يمتد التمحيص إلى ما هو أبعد من أدائهن، ليطال سلوكهن خارج الملعب.

مشهدٌ يمكن ملاحظته في أولمبياد باريس 2024 في مواقف مختلفة، من بينها ما واجهته السبّاحة لوانا ألونسو. إذ تلقّت المتنافسة الباراغوية البالغة من العمر 20 عامًا، رد فعلٍ عنيف، أقل ما يمكن وصفه بالأبوي والتمييزي. فبعد خسارتها وعدم تأهّلها إلى الدور نصف النهائي، واجهت لونا انتقادات من القيّمين على فريق البارغواي، ليس بسبب أدائها الرياضي، وإنما بسبب ما وُصف “سلوك غير لائق”.

ما هي جريمة لوانا؟

جريمتها أنها ارتدت الملابس التي تناسبها، واختلطت بزملائها الرياضيين لقضاء الوقت في باريس كما يحلو لها. أمرٌ أزعج القيّمين على فريقها، فتم توجيه تحذير شديد اللهجة إليها.

من المخيّب فعلًا، أنه ما يزال يتعيّن على الرياضيّات، حتى وهنّ في ذروة مسيرتهن المهنية، الالتزام بالتوقعات الأبوية عن السلوك واللباس. وإلا، فالويل والثبور ومواجهة عواقب الأمور!

حرية الانصياع.. حظر الحجاب

وبعد، الأمر يزداد سوءًا.

فبينما يتم توبيخ بعض الرياضيات والتضييق عليهن بسبب اختيارهن الملابس التي تناسبهن، يتم منع واستبعاد أخريات من المنافسة بذريعة الحجاب.


مرحبًا بكم في أولمبياد باريس 2024، حيث أخذت السلطات الفرنسية على عاتقها تحرير النساء المسلمات من “عبء” غطاء الرأس الديني. طبعًا، لأنه لا شيء يعبر عن المساواة بين الأجناس مثل إجبار النساء على الاختيار بين معتقداتهن والرياضة التي يعشقنها.

إن حظر الحجاب، الذي تفرضه فرنسا يضمن تهميش وإقصاء النساء المسلمات باسم “العلمانية” و”الشمولية”. فهل من أمر أكثر شمولية من استبعاد النساء اللواتي لا تنطبق عليهن القوالب “الأنيقة” الجاهزة بذريعة العلمانية؟

لذا، بينما يتم توبيخ لوانا ألونسو بذريعة ملابسها “الضيقة”، يتم حظر الرياضيات المسلمات بشكلٍ صريح بسبب تغطية رؤوسهن. أين التوازن والعقلانية في هذا التفكير؟ هل هكذا يتم التعبير عن احترام أجساد النساء واختياراتهن؟

طالما أن هذه الاختيارات تتوافق مع تعريف فرنسا ولجنتها الأولمبية الضيق لما هو “مقبول”، فلتحيا الحرية!

مصيدة الجمال

وهناك أيضًا ياروسلافا ماهوتشيك، بطلة الوثب العالي الأوكرانية، التي لم تفز بالميدالية الذهبية فحسب، بل أصبحت أيضًا محط اهتمام وسائل الإعلام بسبب جمالها وليس بسبب براعتها الرياضية.

لُقبت ياروسلافا بـ”الجميلة النائمة”، وكان التركيز على مكياج عينيها الذي يتطابق مع العلم الأوكراني بدلًا من قفزتها التي حطمت بها الرقم القياسي.

إن هوس وسائل الإعلام بـ”الجمال الأولمبي”، من المكياج المقاوم للعرق إلى فن طلاء وزخرفة الأظافر، يسلط الضوء على واقع الرياضيات السيدات ومدى النظرة السطحية الفارغة إليهن عوضًا عن تمجيد التزامهن وجهودهن الجبارة في البناء الجسدي والعقلي.

كراهية النساء.. الضربة القاضية

من ناحية أخرى، لنأخذ حالة إيمان خليف، الملاكمة الجزائرية التي تجرأت على دخول الحلبة بملامح لا تتناسب مع القالب “المقبول” للأنوثة.


لم يكن فوزها بالميدالية الذهبية كافيًا لإسكات المنتقدين/ات – بل كان عليها أن تتحمل حملة تشويه عالمية تشكك في كل شيء بدءًا من جنسها إلى حقها في الوجود في هذه الرياضة. وعلى الرغم من اجتيازها “اختبارات الأهلية” التي أجرتها الرابطة الدولية للملاكمة، فإن ذلك لم يسعفها للنجاة من محاولات النيل من تميّزها وتفوّقها الرياضي، سواء من قبل المتنمرين على مواقع التواصل الاجتماعي أو الرؤساء السابقين.

كان من المفترض أن يتم الاحتفال بفوز خليف على أنه انتصار. ولكن بدلًا من ذلك، كان فوزها عبارة عن حلقة من مسلسل الألعاب الأولمبية المستمرة تحت عنوان “نحن ندعم النساء – لكن لا للنساء اللواتي لا يتطابقن مع القوالب الذكورية”.

التعليقات الذكورية.. مشكلة كلّ الأزمنة

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد. فالتعليقات ليست تعليقات متعالية فحسب – بل هي متحيزة جنسيًّا بشكلٍ صريحٍ وفادح.

فقد تم إيقاف معلق في قناة “يوروسبورت” مؤخرًا بسبب إشارته إلى أن السباحات يركّزن على “إصلاح مكياجهن” أكثر من تركيزهن على رياضتهن.

وفي الوقت نفسه، قارن أحد المعلقين في قناة “آر إم سي” إحدى لاعبات التنس بربة المنزل، مستخدمًا الصورة النمطية. فقال: “على اليسار، هناك سارة إراني وهي الرئيسة. هي تقوم بكل شيء: الغسيل والطبخ والتنظيف”.

تكشف مثل هذه التعليقات عن أن التقدم بالنسبة للبعض يعني إيجاد طرق جديدة للتقليل من شأن المرأة بدلًا من الاحتفاء بإنجازاتها. وهذا النوع من الذكورية تحديدًا لا يساعد  دورة ألعاب باريس 2024 على الارتقاء إلى مستوى ادعاءاتها بالمساواة والتكافؤ بين الجنسين.

تحقير النساء.. حتى في اللغة

تلعب اللغة دورًا محوريًا في تعزيز الصور النمطية.

في هذا الإطار، تسلّط الدراسات التي أجراها موقع “ميديا سمارتس” الضوء على مسارٍ واتجاهٍ مقلق حيال اللغة السائدة لوصف اللاعبات، مقارنةً مع اللاعبين الرجال.

إذ عادةً ما يتم وصف الرياضيين بصفات مثل “الأقوياء” و”الرائعين” و”الشجعان”، بينما توصف الرياضيات بـ “المرهقات” و”المتعبات” و”الضعيفات”. هذا التباين في الوصف لا يقلل فقط من كفاءة النساء رياضيًّا، بل يكرس أيضًا الصور النمطية التي عفا عليها الزمن والتي تحد من قدراتهن. يبدو الأمر كما لو أن عالم الرياضة عالق في زمنٍ مشوهٍ غير قادر على تجاوز التحيزات التاريخية ضد النساء.

دعوة للمساواة الفعلية

إن احتفال اللجنة الأولمبية الدولية بالمساواة الجنسية في أولمبياد باريس 2024 يشبه التلهي بالقشور وإغفال الجوهر.


لا شكّ أن تحقيق المساواة العددية تعدّ خطوة محمودة نحو الأمام، لكنها بعيدة كل البعد عن وجهة الرحلة المنشودة. فالمساواة الحقيقية في جوهرها تتجاوز مجرد المساواة العددية، وتتطلّب تفكيك سياقات التمييز المستمرة التي ما تزال تعاني منها الرياضيات.

ويشمل ذلك مكافحة تشييء النساء الرياضيات، ومعالجة اللغة المتحيزة جنسيًّا المستخدمة في التعليقات، وضمان احترام جميع الرياضيين والرياضيات والاحتفاء بهم/ن لمهاراتهم/ن وليس لمظهرهم/ن.

في المحصّلة، إذا كانت الألعاب الأولمبية ملتزمة فعليًّا بالمساواة بين الأجناس، فقد حان الوقت للنظر إلى ما وراء الأرقام، والعبور نحو معالجةٍ أعمق للقضايا الأكثر خبثًا التي ما زالت تهدّد حقوق النساء في المجالات الرياضية. وحتى ذلك الحين، فإن ما يسمى بـ”المساواة الجندرية” في أولمبياد باريس 2024 لا يعدو كونه غسيلًا بنفسجيًّا جديدًا لتحسين صورة نظامٍ رياضيٍّ قديم لا تزال بنيته ذكوريّة لدرجة معيبة للغاية.

كتابة: هالة الحاج

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد