في مصر.. نساء تختنق بين حرارة الصيف ووعيد نار جهنم!
في مصر، إذا سرتِ لدقائق معدودة في الشارع، ستجدين حولك أنماطًا مختلفة لملابس النساء في الصيف. أما المشترك بينهن، فهو طبقات متعددة بأشكالها وأنواعها من الملابس، بعكس مظهر الرجال في نفس الشارع. منهم من يرتدي الشورت القصير والتيشيرت القطني، ومنهم من يرتدي تيشيرت بدون كم، وغيره يرتدي “الفانيلّة” (قطعة ملابس داخلية بيضاء).
في منشور على حسابي الشخصي بموقع فيسبوك، وضعت نفسي في هذه المقارنة. إذ شعرت بالضيق والغيرة من سهولة اختيارات الرجال للملابس في الأماكن العامة. أما نحن، النساء، فتطور الأمر معنا لدرجة تشبه الهوس، لتغطية الجسد والخوف من كشفه، ولو بفعل نسمة هواء.
اتفقت معي نساء كثيرات، وعبرن عن حزنهن بهذه المقارنة: “ليه حياتنا مش سهلة زيهم؟!”.
“صوت في دماغي وأنا مخففة الحجاب حول رقبتي في الحر يقول: ‘هنخيب ولا ايه؟'”
في مصر.. الأماكن العامة بوابة النساء إلى جهنم!
فور نشري للمنشور، وجدت اعتراضًا من بعض المحجبات اللواتي رأينه تحريضًا على الحجاب ودعوة لخلعه. ذكّرتني عباراتهن بأن الرجال لا ينالون ثوابًا على ملابسهم، عكس النساء. ثم تبعنها بتحذيرات وترهيبات مثل تذكيري بنار جهنم وحرارتها، أو اتهامي بضعف إيماني مقارنة بالنساء في غزة اللواتي تخرجن من تحت الركام بكامل حجابهن!
ربما أثار المنشور حفيظتهن لعدة أسباب، منها الخطاب الديني المجتمعي. حيث يكرس الشيوخ مساحة كبيرة للحديث عن أجساد النساء، مرددين شعارات: “مقابل كل سنتيمتر يظهر منكِ، ستتعذبين في نار جهنم إلى الأبد”. هكذا كنت أسمع شيخ الجامع يقول، لدرجة أرعبتني في طفولتي، وجعلتني أحلق شعر رأسي من أمام جبيني. كنت أخافُ من أن يظهر منه شعرة واحدة فتتسبب في عذابي الأبدي.
هكذا تستقبل النساء اللعنات والدعوات الترهيبية والمخيفة والمتوعّدة بعذابهن، والإشارة دومًا إلى أن الكشف عن الجسد هو ضعف إيمان. أو كما قال صاحب الفتوى التالية بأن ليس في التزام شرع الله مشقة على المؤمنين الصادقين.
قبل أيام قرأت سؤالًا طرح في أحد مواقع الفتاوى الإسلامية. كان من امرأة تعاني مرضًا شديدًا لا يتلاءم مع الجو الحار، وخصوصًا تغطية منطقة الرقبة. وجاء سؤالها: “هل يجوز تخفيف الملابس عملًا بالآية (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)؟”.
توقعت ردًا مراعيًا ينصفها، لكن الإجابة كانت بعيدة عن أي نوع من المراعاة. “ترك التزام شرع الله وتعدي حدوده يؤدي بصاحبه إلى التهلكة. وليس في التزام شرع الله مشقة على المؤمنين الصادقين. فإذا كان تخفيف اللباس حول الرقبة يؤدي إلى الإخلال بشيء من شروط لباس المرأة الشرعي فلا يجوز إلا لضرورة، أو حاجة ماسّة تقرب من الضرورة، وبشرط أن يكون ذلك بقدرها. فإذا كان خروجك ليس ضروريًا كأن يكون للعمل […]”.
ضرورة طبية أم شرعية؟
تذكرت هذه الفتوى مجددًا عندما سمعت هدى، اسم مستعار، تتحدث عن تجربتها. وأشارت إلى أن قرار ارتدائها الحجاب جاء بحرية تامة، وتغيّر شكل حجابها مع تغيّر علاقتها بجسدها.
تحدثت عن تجربتها مع مرض خلل عمل الغدة الدرقية، ومن ثم حملها، الذي يستدعي منها تخفيف الحجاب حول الرقبة لشعورها بـ”الخنقة والدوخة”، حسب توصية الطبيبة. لكن، لم تستطع القيام بذلك ولو لدقائق معدودة خلال تنقلها من بيتها إلى بيت والدتها. لذا تتجنب النزول إلى الشارع خلال الموجات الحارة التي تجتاح مصر تلك الفترة.
على الرغم من اقتناعها التام بفريضة الحجاب وعدم رغبتها في التخلي عنه، إلا أنها لا تنفي شعورها بالضيق من الحر وما يسببه الحجاب من تعب مستمر. لا تستطيع الاستمرار في تخفيف الحجاب حول رقبتها لمدة تتجاوز خمس دقائق خلال مشوارها اليومي، لشعورها بالذنب.
تقول: “صوت في دماغي وأنا مخففة الحجاب حول رقبتي في الحر يقول: ‘هنخيب ولا إيه؟'”.
تشهد مصر، وعدة مناطق أخرى في العالم، ارتفاعًا غير مسبوق بدرجات الحرارة. وفي ظل موجات حر متتالية خلال أشهر الصيف، تعاني العديد من النساء في مصر لارتدائهن طبقات متعددة من الملابس. وذلك لكونهن محجبات أو محتشمات، أو تماشيًا مع المعايير الأبوية المفروضة على ملابس النساء في الشارع المصري. وإلا سيصبحن معرضات للمضايقات والتنمر والتحرش، إذا ارتدين خلاف ذلك -أحيانًا-.
وخلال هذه الموجات قد يتعرض البعض لحالة مرضية تعرف بالإنهاك الحراري، تحدث عند تعرض الجسم للحرارة الزائدة. وقد تشمل أعراضه التعرق بغزارة وتسارع نبضات القلب. تتضمن الأسباب الأخرى للإنهاك الحراري، إلى جانب الطقس الحار والنشاط الشاق، ارتداء ملابس كثيرة، وخصوصًا الملابس التي لا تسمح للعرق بالتبخر بسهولة.
View this post on Instagram
حرّ الصيف وطبقات لانهائية من الملابس
تختلف اختيارات النساء للملابس المفترض ارتداؤها في الشارع. لكن القاسم المشترك بينهن هو الاضطرار إلى استخدام طبقات عديدة لتغطية أجسادهن من خامات تُزيد شعورهن بالحرارة أغلب الوقت.
تحكي الصحافية إيناس كمال عن موقف لن تنساه قبل قرارها التوقف عن ارتداء الحجاب. حيث عانت من تأثير تلك الطبقات، وتحديدًا في الفترة التي انتشرت فيها موضة “الكارينا”. تلك المادة القماشية “اللعينة” التي تضغط على الجسم، وتحبس العرق، وتزيد من حرارة الجسم.
سردت إيناس ما حدث معها بسبب هذه الموضة التي عادت بقوة مؤخرًا. حيث كانت أغلب التيشرتات بأكمام غير مكتملة تجبر النساء والفتيات على ارتداء طبقة إضافية لتغطية ذراعهن بالكامل. تتذكر شعورها بالغثيان والتعب في إحدى المرات: “كنت أرى نقاطًا ملونة أمام عيني ولم أستطع التقاط أنفاسي”.
كانت تلك هي المرة التي قررت فيها إيناس التوقف عن ارتداء هذا النمط من الملابس والحجاب حول الرقبة. اكتفت بتغطية الرأس، مع استمرار بحثها عن تيشرتات قطنية تناسب الحجاب، دون الحاجة إلى إضافة طبقات أخرى مثل الكارينا أو غيرها من الخامات.
هذه المعاناة في البحث التي حكت عنها إيناس تشاركها فيها مي عماد، مهندسة عبرت عن قرارها بتخفيف طبقات الملابس التي تضطر النساء لارتدائها من أجل تغطية كامل الجسد، سواء كان ذلك بسبب وازع ديني أو رغبة في الخصوصية.
اتخذت مي ذلك القرار بعد أن رأت الحجاب بشكل مختلف وأن الغرض منه الاحتشام. فعلى حدّ قولها: “ميرضيش ربنا أكون مخنوقة”.
كانت تتلقى نظرات وصم من جارتها لو استرقت الأخيرة النظر إلى الشرفة المفتوحة، ورأت آلاء دون حجاب.
رحلة البحث عن قطع ملابس مناسبة في مصر
تعاني النساء المحجبات واللواتي يفضلن ارتداء ملابس فضفاضة وطويلة يصفها البعض بالـ”محتشمة” في رحلة بحثهن عن قطع ملابس تناسب الضوابط المجتمعية والدينية في مصر. والغريب هو ما يعرضه السوق من “موضات وستايلات” بعيدة عن احتياجات النساء أو تراعي درجات الحرارة.
هناك موضة “الكروب توب”، والتي يتطلب معها ارتداء قطعة أخرى. قد تكون القطعة الإضافية قميص قطني طويل، أو “الكيمونو” أو “الكارديجان” والذي لا يكتمل أبدًا إلا بقطعة أسفله. كذلك البلوزات والقمصان التي تُصنع من خامات شفافة تستلزم من النساء والفتيات إضافة قطع أخرى لضمان التغطية والخصوصية.
في سؤالي للصحافية إيناس كمال عن رأيها في ذلك أجابت: “السوق لا تحكمه عقليات أو دراسات تراعي احتياجات النساء. بل تروج لما هو شائع في البراندات العالمية”.
أما مي، فأشارت إلى أن الحلول المطروحة أحيانًا كالملابس العلوية القطنية “البيزك” والتي يمكن الاستعانة بها في الموجات الحارة تحمل طابعًا رجوليًا لا تفضله الكثيرات. كذلك الترويج للحجاب التركي أو السوري أو الخليجي، حيث العباءة بتصميماتها المختلفة المفتوحة وأسفل منها طبقات أخرى ضرورية أو منغلقة بأقمشة ثقيلة نسبيًا تحبس الحرارة داخل الجسم.
اللعنات والمكايدة مصير الشكوى من الحر
في مقطع مصور على تطبيق تيك توك، تسخر شابة من شكوى الرجال بسبب شعورهم بالحر. إذ قارنت بين ما ترتديه من طبقات، وما يرتديه الشاب المصري العادي في الشارع قائلة :”إحنا بنسيح”.
اعتقدت أنها تشكو اضطرارها لارتداء هذا الكمّ من القطع. لكنها كانت تسخر مما سمعته، وتراوحت التعليقات بين دعمها والسخرية من شكوى الرجال.
على عكس ما حدث معي حين أعلنت عن معاناتي من الحرارة والطبقات العديدة من الملابس وتحدثت عن نساء أخريات مثلي لا يستطعن تحمل الحر أكثر من ذلك. بل يعانين جميعهن صحيًا بسبب “الاستايل المعتاد”.
تحول الأمر إلى احتقار لشكوتي وتباهي بقدرتهن على التحمّل. وأشارت إحداهن: “على قلبنا زي العسل”. لم أفهم لماذا تحول خطابهن إلى مكايدة أمام شكوتي؟ وهل الشعور بالحر أصبح جريمة؟ أم الخوف والتهديد الذي يصاحب أي حديث عن أجساد النساء هو ما دفعهن لذلك؟
الخطاب الديني والمجتمعي.. هو السبب
تقول أسماء مصطفى، صحافية، إن الخطاب الديني عامل رئيسي في خوف النساء من الكشف عن أي جزء من أجسادهن، مهما كان السبب. حيث تلقت نفس الكلمات حول التهديد والوعيد بنار جهنم، والصور التي كانت تُرسل لها عن فتاة تحولت إلى كائن غريب بسبب خلعها الحجاب.
قد ترتدي المحجبات والمحتشمات ملابس ضيقة وغير ممتثلة للضوابط المفروضة عليهن دينيًا أو مجتمعيًا. يعكس ذلك مناورات تلجأ لها النساء والفتيات للتحايل على القيود المفروضة على ظهورهن في الفضاء العام. وهو كذلك يعكس تناقضًا في الخطاب الديني الذي يُعلي تغطية الجسد، مهما كانت مغايرة للضوابط الدينية التي يتم الترويج لها باستمرار، على ارتداء قطع ربما تكون كاشفة لجزء من الذراع أو الرقبة. حيث يتم استقبال الأخيرة على كونها “فسادًا أخلاقيًا”. تجدر الإشارة هنا إلى اعتبار أجساد النساء “فتنة” تصيب الرجال. وهو ما يجعل أي ظهور لهذه الأجساد محدود وله شروطه الأبوية التي تعتبر الرجال محورًا لاختيارات النساء وظهورهن في الأماكن العامة.
تقول آلاء الكسباني، الناشطة النسوية، التي تحدثت عن جرأة الرجال في الخروج إلى الشرفة شبه عرايا، غير مهتمين بمن سيراهن. بينما تظل النساء محتفظات بكامل ملابسهن، حتى الحجاب، عند خروجهن لنفس الشرفة.
كما أشارات أنه في الإسكندرية، يسير الرجال بالملابس الداخلية في الشوارع أو على الشواطئ العامة. بينما تعاني آلاء، المحجبة، داخل منزلها إذا احتاجت لفتح الشباك لتجديد هواء المنزل. إذ كانت تتلقى نظرات وصمية من جارتها لو استرقت الأخيرة النظر إلى الشرفة المفتوحة، ورأت آلاء دون حجاب. وباتت آلاء مضطرة لتغطية نفسها بالكامل حتى داخل بيتها، وأكدت أن السبب هو الهوس المجتمعي بأجساد النساء.
هذا الهوس، بالإضافة إلى تجاهل الماركات المحلية لحلول تناسب اختياراتنا المختلفة مع الاحتفاظ بمظهر “حديث”، يجعلنا نقف أمام تناقض المجتمع الذي حرم النساء من حق الشكوى واحتقار اختياراتهن المختلفة. وصمهن وفرض عليهن تحمّل طبقات عديدة تحبس عرقهن وأنفاسهن خلال الموجات الحارة. كل هذا بالتزامن مع دعوات بالثبات والتمجيد في تلك المعاناة والترويج للثواب المضاعف عندما نعاني أكثر ونرتدي مزيدًا من الطبقات. يختفي الحديث عن ثواب الرجال في تحمل الحرّ وارتداء طبقات الملابس، كما لو أنهم لا يحتاجون إلى إثبات “للإيمان” أمام المجتمع. هم رجال.. ونحن نساء.
كتابة: آية منير