اضطراب ما بعد الصدمة.. كيف استغلّه الصهاينة لخدمة سرديتهم؟

أدرجت الجمعية الأمريكية للطب النفسي “اضطراب ما بعد الصدمة” في دليلها التشخيصي الثالث للاضطرابات النفسية عام 1890. وتم اعتماد هذا الاسم بشكل رسمي لتوصيف مجموعة من الأعراض التي يعاني منها الشخص بعد التعرّض لحادث صادم، والتي تظهر على شكل كوابيس، واستعادة الحدث المؤلم مرارًا وتكرارًا وكأنه يقع الآن، بالإضافة إلى القلق والاكتئاب، والشعور بالانفصال عن الواقع والرغبة بتجنّب الأنشطة الاجتماعية.

ويشكّل ضحايا الحروب والاعتداءات الجنسية النسبة الأكبر ممن يعانين/ون مع هذا الاضطراب. ونظرًا لأن احتلال فلسطين هو الاحتلال الأطول والأعنف في التاريخ الحديث فإنه يؤثر بشكل مستمر ومتفاقم على الصحة النفسة للفلسطينيات/ين، خصوصًا بعد الإبادة الجماعية المستمرة لما يزيد عن عام في غزة.

ولكنّ التحيّز لصالح سردية الاحتلال لا يظهر فقط في الخطابات السياسية ونشرات الأخبار، بل يصل إلى جميع المجالات الثقافية والعلمية. ولربما يكون التحيّز النفسي لصالح الجنود الإسرائيليين المرتكبين للإبادة عبر تقديمهم كضحايا للسياسات الخاطئة لحكومتهم، هو الأخطر.

اضطراب ما بعد الصدمة في سياق صدمة مستمرة

تكمن حساسية هذا الخطر أنه يعزز الرؤية الفاشية للاحتلال الإسرائيلي الذي عمد على لسان وزرائه ومسؤوليه إلى إسقاط صفة الإنسانية عن الغزاويات/ين، عبر استخدام عبارات “حيوانات بشرية”، و”أبناء الظلام”.

من اللافت للنظر أن تنكبّ التقارير المعنية برصد الأثر النفسي على الأشخاص أثناء الحروب، على توضيح الأثر السيء للقتل على نفسية القاتل. فلم نشهد تقاريرًا تتناول حالات الانتحار والصدمات النفسية لدى عناصرالجيش الروسي أثناء حربه لاحتلال أوكرانيا، ولا دراسات عن الدوافع النفسية التي أوصلت بشار الأسد إلى قتل شعبه وتهجيره. بل يركّز علم النفس في هذه السياقات على الضحايا، أي الطرف الأضعف بوصفه قابعًا تحت ويلات القصف والحصار والتهجير.

فما الذي يجعل الفلسطينيات/ين استثناءً من هذه القاعدة البديهية في وضع إنقاذ الضحايا أولوية على فهم وتفنيد حياة القاتل قبل جريمته أو بعدها؟

لا يمكن عزل الإجابة على هذا السؤال عن السياق الكامل لواقع المجتمعات الفلسطينية تحت الاحتلال، ولا عن تحيّز المؤسسات الغربية لصالح الصهاينة.

فالتقرير الذي نشرته شبكة سي إن إن الأمريكية عن معاناة الجنود الصهاينة العائدين من القتال في غزة مع اضطراب ما بعد الصدمة، وتسجيل العديد من حالات الانتحار في صفوفهم، دون التطرّق إلى أنهم أجرموا بالغزيات/ين، هو أقرب مثال.

يسرد التقرير تفاصيل دقيقة ترمي إلى رسم صورة عن “أشخاص رقيقين” دفعتهم الحرب إلى “معايشة” أحداث أدت إلى تخريب حيواتهم وإصابتهم باضطرابات نفسية أدت في الكثير من الأحيان إلى الانتحار.

ويلقي باللوم على عملية 7 أكتوبر بوصفها صدمة أدت إلى شعور المستوطنين بالخطر، والتحاقهم بالجيش للدفاع عن وجودهم أمام “وحشية حماس والغزيات/ين”.

بالطبع، ليس لنا أن نتوقع من شبكة أمريكية ألّا تتبنى سردية الصهاينة، ولكن تصوير القاتل على أنه ضحية لمجرد أنه “اضطر إلى القتل” فهذا تعدٍّ على علم النفس، الذي يفترض به أن يكون موضوعيًا ومحايدًا.

من الجدير بالذكر أن هذا التقرير لاقى انتشارًا واسعًا على منصات عربية وعالمية، مع اختلاف الزوايا التي تم تناوله منها بين محاولات جذب التعاطف بشكل مباشر، وبين تصوير هذه الأرقام على أنها “شكل من أشكال الانتصار” لأن الجنود عادوا مصابين ومضطربين عقليًا وبعضهم انتحر بالفعل.

ولكن ماذا عن الصحة النفسية للفلسطينيات/ين؟

لقد مضى ما يقارب الـ17 عامًا على الحصار الإسرائيلي لغزة، تناولته الأمم المتحدة في إحدى تقاريرها قائلةً “تجارب سكان غزة تتحدى التعاريف الطبية الحيوية لاضطراب ما بعد الصدمة، نظرًا لعدم وجود (ما بعد) في هذا السياق. إنها صدمة مستمرة ومتفاقمة”.

وحوّل الاحتلال الإسرائيلي غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، مدينة حولها جدران، يتحكّم السجان بالغذاء والدواء الداخل إليها، ويمنع عن أهلها الماء والكهرباء أنّى شاء ذلك.

كما أن الوضع في الضفة الغربية ليس أفضل بكثير، حيث يعاني الفلسطينيون/ات من عنف الاستيطان الذي يطردهن/م من منازلهن/م، ويطلق يد المستوطنين/ات لتعنيفهن/م.

تناول تقرير” لا وجود لراحة البال” لمنظمة “أطباء العالم” الأثر النفسي للاحتلال، وانعكاساته على الصحة الجسدية بوصفه يشكّل حالة جماعية من الصدمة غير المنتهية.

“إن الرفاه أمر نادر بالنسبة للفلسطينيات/ين، إن حيواتهن/م تسرق منهن/م”. هذا ما جاء على لسان واحدة من الطبيبات اللواتي عملن على إنتاج التقرير، والذي خلُص إلى أن 70% من الغزيات/ين، و57% من فلسطينيات/ي الضفة الغربية يعانون بشكل حاد من اضطراب ما بعد الصدمة.

بالإضافة إلى التركيز على استحالة الشفاء في ظل القمع والعنف المستمر الممارس عليهن/م من قبل الاحتلال، وأثره المضاعف على الطفلات/ الأطفال.

طفلات/ أطفال فلسطين.. أجيال من الصدمات المتتابعة

لم تكن حرب الإبادة الأخيرة بداية المأساة، بل هي ذروتها، ووجهها الأشنع والأكثر عنفًا وكثافة.

فقد عانى الفلسطينيون/ات من أزمات عقلية ونفسية حادة ومتتابعة لأجيال، تجلّت بشكلها الأوضح لدى الطفلات/ الأطفال نظرًا لاختبارهن/م عنفًا متواصلًا وشعورهن/م الدائم بالخطر.

وهو ما رصده تقرير لليونيسف صدر في شباط/ فبراير الماضي  “أكثر من 500 ألف طفل/ة كانوا/ن بحاجة إلى الدعم النفسي نظرًا لتدهور حالتهن/م، قبل السابع من أكتوبر، وقد ارتفع هذا الرقم منذ ذلك الحين إلى أكثر من مليون طفل/ة – أي جميع أطفال/ طفلات غزة تقريبًا”.

كما أدرج الأطباء الذين شهدوا الإبادة، وعلى رأسهم الدكتور غسان أبو ستة، مصطلح “طفل مصاب نجى دون عائلته”، للإشارة إلى الطفلات/ الأطفال اللواتي/ الذين أصبحن/وا وحيدات/ين تماماً في هذا العالم بعد إبادة عائلاتهن/م.

وأصبح هنالك شبه إجماع في الأوساط العلمية النفسية، أن الطفلات/ الأطفال في فلسطين يعانين/ون من “الصدمة النفسية المعقدة”. وهي مرحلة متقدمة من اضطراب ما بعد الصدمة تتشكّل نتيجة التعرض لصدمات متتابعة وغالبًا ما تكون مترابطة، وتؤثربشكل كبير على إدراكهن/م وقدراتهن/م المعرفية.

“علم النفس التحرري/ علم نفس الاحتلال” النظرية التي يرفض الصهاينة الاعتراف بها

في إحدى لقاءاتها مع وكالة الأناضول قالت الدكتورة إيمان فرج الله- أخصائية علم النفس السريري وأستاذة مقيمة في علم النفس بجامعة كاليفورنيا:

“إن هذه الآثار النفسية ليست تلقائية، بل هي جزء من تصميم إسرائيلي يهدف لتحويل المجتمعات الفلسطينية إلى أمة عاجزة عن الدفاع عن نفسها”.

واستشهدت إيمان بنظرية علم نفس الاحتلال، للتأكيد على أن أكثر من 75 سنة من الحصار والتهجير والعنف المتواصل ساهمت بتشكيل صدمة نفسية جماعية سعى الاحتلال إلى تكريسها، لوأد أي محاولة للتحرر”.

وكانت بدايات التنظير لعلم نفس الاحتلال أو علم النفس التحرري في أمريكا اللاتينية وإفريقيا أثناء الثورات ضد الاستعمار. وهدفت لفهم التأثيرات الثقافية الناتجة عن الاحتلال على الصحة النفسية، والهوية الثقافية، والسلوك الاجتماعي للشعب المحتل.

وتنظر إلى الاحتلال على أنه ظاهرة نفسية، ليس مجرد واقع سياسي. فعلى سبيل المثال، يؤدي تحكّم الاحتلال بجوازات السفر للشعب المحتل إلى شعور بالخلل في الهوية، وتشوّه في الصورة الذاتية الجمعية التي تحتاج إلى مناخ سياسي لتنمو، وهو ما يحرص الاحتلال على حرمان الفلسطينيات/ين منه عبر إلغاء وسرقة كل دليل ثقافي، واجتماعي على هويتهن/م.

وبالتالي، فإن علاقات القوة والسلطة تؤثر على الحالة النفسية للمجتمع والفرد على حدّ سواء. وهو ما يرفض الاحتلال الإسرائيلي الاعتراف به عبر تحميل الفلسطينات/ين وزر أزماتهن/م ومشاكلهن/م.

ويعينه على ذلك الكثير من الأكاديميات والمؤسسات النفسية والإعلامية، التي تصوّر المشاكل النفسية لدى الفلسطينيات/ين على أنها نتاج “تخلفهن/م” وعدم تقبلهن/م لفكرة العلاج النفسي بسبب الوصمة الاجتماعية.

في المقابل، تدفع باتجاه خلق المزيد من التعاطف مع الجنود الصهاينة العائدين من القتال في غزة خلال الحرب الأخيرة، وما سبقها من حروب وحصار، في استمرار للمظلومية الزائفة التي تركت الفلسطينيات/ين تحت ويلات خلّفت مشاكل نفسية واجتماعية تحتاج إلى عقود لعلاجها.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد