تجربة الأمومة.. جسر تضامن من خارج غزة إلى داخلها

منذ أن اختبرت تجربة الأمومة، تغيّرت نظرتي إلى العالم. أشعر أنها أصبحت أكثر عمقًا. لم أعد أنظر إلى الأشياء كما كنت أنظر لها قبل الأمومة، لا أعلم ما جرى تحديدًا، وما ألمّ بي. ولكن وجود كائن ضعيف، هش، يعتمد علي كليًا، جعلني أكثر هشاشة.

أنا أم مصرية في عقدي الثالث، وتبلغ طفلتي “ليان” ثلاث سنوات فقط، شعرها كيرلي مموّج ومتمرّد. 

أتذكر أن أوّل تظاهرة شاركت بها مع أبي كانت عقب اغتيال الطفل محمد الدرة في حضن أبيه. لكن العدوان الأخير على غزة هو الأول من نوعه منذ أصبحت أمًا، وأثره عليّ ليس مجرد حزنًا على أناسًا تتم إبادتهن/ن. وإنما هناك طعنة في قلبي، شيء ما يؤلمني بشكلٍ شخصي، كأنها مأساتي أنا.

أعلم أن الكون لا يدور حولي وحول مشاعري، ولكن مشاعري تتقاطع بشكلٍ عجيبٍ مع كلّ أم مكلومة أجدها تصرخ وهي تبحث عن طفلها/طفلتها بين الركام. مشاعر تجمعني بكل أمٍّ تصرخ وتولول وتدعي وتتضرع لله وهي تودع أبناءها/بناتها.  

تلك الأم التي كانت تبحث عن طفلها: «اسمه يوسف، شعره كيرلي وأبيضاني وحلو». أنظر إلى شعر “ليان”، ابنتي، الكيرلي، وأبكي. الأم التي صرخت: «الأولاد ماتوا بدون ما ياكلوا»، ينتفض قلبي ويبكي معها. وأنا التي تجن جنونها، لو شعرت انني تأخرت على ابنتي في وجبتها، وهي في حضني دافئة آمنة. 

“ماذا لو هؤلاء هم أطفالي وطفلاتي؟ ماذا لو كنت أنا تلك المكلومة؟”

فرقتنا الحدود وجمعتنا الأمومة

تعتبر الأمومة تجربة شديدة الخصوصية والتفرّد. خلقت جسرًا من التواصل المعنوي والحسي، والتضامن والدعم بين الأمهات خارج غزة مع نظيراتهن داخل القطاع المنكوب. النساء الفلسطينيات يقاسين أشد التجارب قسوة وحزنًا. عدوان مجرم تجاوز كافة القوانين الدولية، وسخر من كل القيم الإنسانية.

وليس بالضرورة أن تلك المشاعر هي انتصارٌ فلسفي لخرافة أن الأمومة غريزة وفطرة لدى كافة النساء. أتفق مع الدكتورة بقسم الآثار في جامعة كامبريدج، جيليان راغسديل، التي نشرت مقالًا في موقع “سايكولوجي توداي”، في كانون الأول/ ديسمبر 2013. إذ فنّدت فيه عدد من الادعاءات بفطرية وغرائزية الأمومة.

“قد تكون النساء عرضة لمجموعة من الاستراتيجيات والاستجابات للظروف. نتيجة لذلك، لا يعتمد سلوك الأم على وضعها عندما تصبح أمًّا فحسب، بل يعتمد أيضًا على تجربة حياتها”. الأمر الذي أؤيده مع نفسي والأمهات المتأثرات بما يحدث لنظيراتنا في غزة. فتجربة الأمومة وحدها لا تبلور ما نختبره، وإنما عدة عوامل تصيغ أفكارنا ومشاعرنا وانفعلاتنا. نحن النساء اللواتي تجمعنا الهوية الاجتماعية وتجربة الأمومة معًا، بالإضافة إلى تجاربنا الشخصية وذواتنا الفردية.

لم تكن تلك مشاعري وحدي، إذ قامت الطبيبة والمدونة المصرية، غالية مدبولي ببث مباشر عبر صفحتها على “فيس بوك”، في شباط/ فبراير الماضي. أعلنت فيه عن موقفها الداعم والتضامني مع نساء غزة، من خلال حلاقة شعرها بالكامل. كما صرحت أن ما قامت به هو لدعم نساء غزة، اللواتي يضطررن لحلاقة شعرهن، بسبب عدم توفير المياه.

الأمومة المكلومة داخل غزة

تقول غالية لـ”شريكة ولكن”: “تابعت العدوان منذ اللحظات الأولى. ثم بدأت الأمور تأخذ منحى شخصي، بعد نشر مقطع لأم مكلومة تنتحب: «ماتوا الأولاد بدون ما ياكلوا». كان ذلك بالتزامن مع انطلاق موسم الرياض، وأثر هذا التناقض الفج على حالتي النفسية بشكلٍ كبير. بعدها، فكرت في التطوع والدعم، ولكن كل منافذ ومجالات التطوع مغلقة، والحصار مشتد على غزة وأهلها. فقررت حلاقة شعري، تضامنًا ودعمًا للنساء هناك. النساء المحاصرات والمحرومات حتى من أساسيات احتياجاتهن”.

تحدّثنا مع الدكتورة المصرية هانم عبدلله، 50 عامًا، وهي أستاذة مساعدة بكلية التمريض جامعة القاهرة، ولديها ولد وبنت. تقول: “بدأت المتابعة منذ عملية طوفان الأقصى، والتي تعتبر أول رد بهذا الحجم على الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية. كنت مرعوبة من رد الفعل الصهيوني، وانقبض قلبي مع محو أول عائلة من السجل المدني. وقتها، أدركت أن تلك ليست مجرد هجمات انتقامية، وإنما نية واضحة ومبيتة على الإبادة الجماعية.  

الطفل الذي ظل ينتحب وينادي: «يا كمال.. كان عايش والله»، يقترب عمره من عمر ابني. بكيت بسببه لفترة طويلة، قبل استشهاده في حصار مستشفى الشفاء. مازلت غير قادرة على تجاوز كلمات الأم الفلسطينية: «يشهد عليا الله.. الأولاد ماتوا جوعانين». كل ما تمر به نساء غزة هو معاناة ومأساة، بداية من الإجهاض القسري، الولادة المبكرة بدون بنج، وفقدان المنزل والأمان. أعتقد أن من أشد تلك المآسي قسوة، هو فقدان الطفلات/الأطفال.

أحاول السيطرة على مشاعري وانفعالاتي، وشعور الذنب لا يفارقني. أحضر طعام طفلي وطفلتي، وأتذكر أن طفلات وأطفال غزة قتلن/وا أثناء الحصول على المساعدات. أستيقظ ليلًا على شعور قوي بالألم في معدتي من القلق والحزن والتوتر. إن كانت دولة الاحتلال ستحاكم يومًا على تلك الحرب، فلابد من أن تحاكم كذلك على كم الألم الذي عاشته البشرية”.

هناك حالة من المشاعر الداعمة والمتعاطفة، والتضامن الجندري خلقتها عوامل عدة من بينها الأمومة.

هل تجربة الأمومة وحدها هي السبب؟

تفهّمت مشاعر هانم ومن قبلها غالية، وأملك قناعة بأن هذا التضامن مع أمهات غزة، ليس لأن الأمومة غريزة، كما يزعم البعض. ولكن لأنها تجربة فريدة، نمر فيها بمشاعر مختلفة، نتحمل معها ضغوطات وصعوبات تدربنا عليها طوال حياتنا، على يد المجتمع والأسرة والعائلة. كل هذا التقى مع أفكارنا ومبادئنا التي تناصر وتدعم أهل القطاع أمام الاحتلال الإسرائيلي.

لا يحتاج الأمر لتبرير أو شرح، فالأرقام وحدها كافية لتشرح مأساة وهول ما تواجهه الفلسطينيات عامة، والأمهات والحوامل خاصة، منذ بدء العدوان. في بيان لها صادر في 19 يناير/كانون الثاني، تقول هيئة الأمم المتحدة إن آثار الأزمة على النساء وصلت لمستويات كارثية وغير مسبوقة.

حيث استشهد حتى وقت صدور البيان، أكثر من 24 ألف فلسطيني/ة، بينهم/ن 16 ألف امرأة وطفل/ة. بنسبة تصل إلى 70% من إجمالي الضحايا، كل ساعة يتم قتل أمين، وتقتل يوميًا ما لا يقل عن 63 امرأة بينهن 37 أمًا. وتوقع صندوق الأمم المتحدة للسكان أنه، خلال مارس/آذار، أكثر من 5500 امرأة، بينهن 840 امرأة حامل من المحتمل أن يتعرضن لمضاعفات صحية.

من جانبها، ترى الطبيبة النفسية المصرية دعاء عبدالرحمن أن: “متابعة العدوان على غزة أثرت بعمق ليس النساء فقط، أو الأمهات والآباء فقط. وإنما حتى الفئات العمرية الأخرى، ومن يعيشن/ون في النصف الآخر من الكرة الأرضية، وينتمين/ون لثقافات أخرى. وهذا بالأخص مع وجود أعداد مرعبة من الأطفال/الطفلات يقتلن/ون كل يوم.

السيناريو الذي يتحكم في مشهد تعاطف الأمهات هو “ماذا لو”. ماذا لو هؤلاء هم أطفالي وطفلاتي؟ ماذا لو كنت أنا تلك المكلومة؟

الجانب النفسي للتضامن

التعاطف ليس أمرًا سلبيًا، على العكس، مشاعر التعاطف هي التي تقربنا من بعضنا كبشر. لكن السلبي هنا، أن المتعاطفات/ون تحولن/وا بصورة ما إلى ضحية، يشعرن/ون شعور أهالي غزة بدرجات متفاوتة. كل هذا يولد حالة من الغضب والاكتئاب، بالأخص عند الأمهات.

الأثر سلبي بالطبع، ويسمى إجهاد التعاطف، لأن الشأن العام تحول إلى شأن شخصي، حاول البعض التعبير عنه بالتظاهر والتبرع والمقاطعة. لكن هذا تنفيس عن الغضب، وليس علاجًا له. ومع مرور الوقت، على عكس المتوقع، تلك المشاعر ستزيد. ونتائج هذا العدوان النفسية، سواء على أهل قطاع غزة أو خارجها، لها أثر طويل المدى لن يختفي بسهولة”.

تضيف الطبيبة النفسية نهال زين أنه: “ليس هناك حتى الآن أبحاث أو دراسات تتناول تأثير تجربة الأمومة في توجيه مشاعر التعاطف تجاه أطفال وطفلات الآخرين/الأخريات. وهذا لا يمكن وصفه بأنه قاعدة عامة، أو أن تجربة الأمومة من ضمن خواصها الأساسية هو التعاطف مع أطفال وطفلات الآخرين/الأخريات. يحدث ذلك بشكل فردي، ويختلف من شخص لآخر أو أم عن أخرى.

وتنهي زين حديثها مع “شريكة ولكن”، قائلة: الأمومة تخلق جسرًا وأخوية بين النساء. وهو ما ظهر في أكثر من مثال، منها تنظيم بعض المؤسسات النسوية حملات للتبرع بالفوط الصحية، أو لبن وحفاضات. هذا النوع من التبرعات قد لا تلتفت إليه فئات أخرى، ولكن لأن النساء يتفهمن خبرات بعض النسائية، تتكون رابطة تترجمها مثل تلك الحملات”.

في النهاية، لا يسعنا سوى القول بأننا لسنا في غزة، وصدفة قدرية جعلتنا في بقاع مختلفة جغرافيًا. هناك حالة من المشاعر الداعمة والمتعاطفة، والتضامن الجندري خلقتها عوامل عدة من بينها الأمومة. فهذه التجربة صاغت حالة من الدعم والتعاطف بين الأمهات من خارج غزة وداخلها. ومثلما تكمن داخل الأمومة أعباء وأدوار اجتماعية يدفعنا إليها المجتمع دفعًا، فإننا اليوم نستخدم هذه الأعباء وتلك المشاعر المعقدة للتواصل الإنساني مع نساء وأطفال/طفلات لم نقابلهن/م يومًا في حياتنا.

كتابة: مي الصباغ

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد