
الانتخابات البلدية في لبنان لعام 2025.. النساء ذوات الإعاقة في مواجهة التهميش
تمسك صفاء سكرية عكازها بيدٍ وتفتح دفتر ملاحظاتها باليد الأخرى. تجلس إلى جانب مكتبٍ صغير في منزلها في جدرا- قضاء الشوف، وتحاول استجماع أفكارها:
كيف ستكون الانتخابات البلدية القادمة؟
أي باب سيفتح للنساء ذوات الإعاقة؟
وأي نافذة ستُغلق في وجوهنا؟
منذ سنواتٍ طويلة، تعلّمت صفاء ألا تنتظر الدعوات لتجلس إلى الطاولة، بل أن تصنع مكانها بنفسها. تبتسم رغم التعب، وتقول لنفسها: “كأن الوطن ضاق بأحلامنا، ولم يعد فيه مكان لاحتوائنا”. لكنها لا تنكسر. هي واحدة من نساء كثيرات ذوات الإعاقة في لبنان، اللواتي لم يكتفين بالاعتراض على واقعٍ مجحف، بل قررن المضي قدمًا لرفع صوتهن وصوت مجتمع طال إقصاؤه.
صفاء سكرية:كأن دمج النساء المعوقات في الحياة السياسية ترف لا ضرورة!
صفاء سكرية، مرشحة للانتخابات البلدية في بيروت، تعرف جيدًا معنى العيش بين هويتين وشطرٍ في الحقوق والانتماء. تقول: “لم أكن بعيدة عن الشأن العام، لكن كوني امرأة من ذوات الإعاقة دفعني إلى الإيمان بضرورة التغيير، وأن أكون جزءًا منه”.
تواجه صفاء تحديات قانونية ومجتمعية ولوجستية، لكن أصعبها كان غياب تقبّل الآخر: “نُعامل كأننا عبء على الحياة العامة، ونظرات الشفقة أقسى من الإقصاء”.
رغم غياب الدعم من الأحزاب، وجدت في بعض المنظمات الحقوقية حليفًا معنويًا ساعدها في بلورة خطابها. وبموارد محدودة، استمرت في بناء شبكات تواصل، مؤمنة أن ترشّح النساء ذوات الإعاقة ليس مطلبًا فئويًا، بل مدخلًا لتغيير السياسات العامة وتعزيز المواطنة.
توجّه صفاء رسالتها لكل امرأة معوّقة تفكّر في خوض العمل السياسي: “لا تترددي. هذه حقوقك، وهذه معركتك. أحلامك تستحق أن تُناضلي من أجلها، وأنتِ تصنعين الطريق لنساء كثيرات سيأتين بعدك.”
عوائق بوجه ذوات الإعاقة: مجتمعية، لوجستية، تنظيمية، ونفسية
حكاية صفاء توضّح المشهد السياسي اللبناني، حيث تظلّ النساء ذوات الإعاقة على هامش التمثيل والمشاركة، رغم ما يمتلكن من كفاءات وتجارب حياتية قد تمنحهن رؤية مختلفة للعمل العام.
هذا ما تؤكده سيلفانا اللقيس، وهي رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقات/ين حركيًّا، في حوارٍ خاص لـ”شريكة ولكن”. وتشرح: “تواجه فئة الأشخاص ذوي وذوات الإعاقة في لبنان تحديات متجذّرة وعميقة فيما يتعلق بالمشاركة السياسية، ذلك لأن النظام العام في البلد لم يُصمَّم ليأخذ بعين الاعتبار تنوّع الاحتياجات، وهو ما يُفترض أن يُدمَج بشكلٍ واضح وممنهج ضمن السياسات العامة”.
وتوضح سيلفانا اللقيس: “غالبًا ما يعاني ذوو وذوات الإعاقة من تهميش ممنهج يُفضي إلى الإقصاء من كافة مناحي الحياة، وكأن وجودهن/م غير معترف به. ما يُعدّ بديهيًا لغير المعوّقات/ين، قد يتطلب نضالًا يوميًا من نظرائهن/م ذوات وذوي الإعاقة، وعلى رأس هذه التحديات تأتي مسألة الحقوق السياسية، التي تُمثّل صراعًا طويل الأمد”.
وتتابع: “النساء، على سبيل المثال، قد يُحرَمن من قرارهن المستقل عندما يحتجن إلى مساعدة عشرات الأشخاص فقط ليتمكّن من الوصول إلى صندوق الاقتراع، ما يعرضهن للإهانة والتنمر. كما يُساءل بعض المسؤولين عن العملية الانتخابية، مثل رؤساء الأقلام أو المراقبين، النساء ذوات الإعاقة عن سبب رغبتهن في التصويت أو الترشح، وكأن الأمر غير مقبول اجتماعيًّا”.
الفئات المهمشة أكثر تضررًا
توضح ديانا البابا، المديرة التنفيذية لمنظمة “لادي”، في حوار خاص لـ”شريكة ولكن” أن أي نقاش حول مشاركة الأشخاص ذوات/وي الإعاقة في الانتخابات لا يمكن أن ينفصل عن الإطار القانوني العام. وتشرح أن هذا الإطار يشكّل الأساس الذي تنعكس من خلاله الثغرات على الفئات المهمشة.
وتقول البابا: “لا يمكن الحديث عن الإعاقة دون العودة إلى القانون المنظّم للانتخابات، لأنه الأساس، وأي خلل فيه يؤثر مباشرة على الأشخاص ذوات/ذوي الإعاقة. من يرغب اليوم بالترشح، يواجه أولًا غموضًا في القانون نفسه، والإجراءات غير واضحة رغم اقتراب موعد الانتخابات، خصوصًا أن الترشح للانتخابات البلدية لا يزال خاضعًا لمنطق عائلي وذكوري”.
أما فيما يخص الأشخاص ذوات/وي الإعاقة، فلا يمكن اعتبارهن/م كتلة واحدة، فلكل نوع إعاقة تحدياته، ويجب أن يُؤخذ هذا التنوع بعين الاعتبار في أي خطة أو سياسة”.
كما تشير إلى نقطة بالغة الأهمية، إذ أن “بعض التعديلات القانونية، مثال التي طُبّقت في قانون 2017، تم استغلالها من قِبَل بعض الأحزاب بشكلٍ سلبي، ما فتح الباب أمام ممارسات تمييزية بدلًا من ضمان المشاركة المتساوية للجميع”.
الترشح حق
رشا سنكري، متزوجة وأم لابنتين، قررت الترشح لانتخابات 2016 بعد أن اختارها “المنتدى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة” ضمن حملة “لنا حق بالمشاركة”.
توضح سنكري أن قرارها لم يكن رمزيًا، بل نابعًا من إيمانها العميق بحقها كامرأة من ذوات الإعاقة في العمل البلدي. وتقول: “نحن أصحاب قضية ولسنا عبئًا، وحقوقنا جزء لا يتجزأ من واجباتنا”.
حصلت على 16779 صوتًا، وكانت المرأة الوحيدة بين 24 عضوًا في مجلس بلدية طرابلس، ما حمّلها مسؤولية كبيرة.
تقول: “واجهت العراقيل بالإرادة، ولم أسمح لها أن تمنعني من التواصل مع الناس”. وتشير إلى تفاعل كبير من المجتمع، وتضيف: “لم أشعر بالتمييز، بل بالدعم الصادق”.
كما تنبّه إلى غياب التسهيلات داخل مراكز الاقتراع، ما يحرم الأشخاص ذوات/وي الإعاقة وكبار السن من حقهن/م في التصويت بكرامة. وتشدد: “لا شيء يخصنا من دوننا. وجودنا في مواقع القرار ضرورة”.
وتختم سنكري بالقول: “ثماني سنوات ونصف في البلدية أرهقتني، لكنها شكّلت مرحلة مهمة في حياتي. أدعو كل امرأة من ذوات الإعاقة إلى الترشّح بثقة. مشاركتنا حق، لا فضل أو مجاملة”.
العوائق التقنية والتنظيمية
في هذا السياق تشرح سيلفانا اللقيس “رغم التقدّم النسبي في بعض المراكز التي تم تجهيزها جزئيًا لاستقبال الأشخاص ذوات وذوي الإعاقة، إلا أن غياب التنسيق بين وزارة الشؤون الاجتماعية – التي تملك البيانات الخاصة بالأشخاص المعوقات/ين – ووزارة الداخلية، يحول دون تكييف مراكز الاقتراع بما يتلاءم مع احتياجاتهن/م. كل ما يتطلبه الأمر هو نقل سجل الشخص المعني إلى قلم في الطابق الأرضي، ما لا يستلزم موارد ضخمة بل إرادة سياسية.”
التمثيل السياسي وموقف الأحزاب
ترى ديانا البابا أن المشاركة السياسية لا تقتصر على تسهيل الاقتراع، بل تتطلب تغييرًا جذريًا في بنية النظام الانتخابي.
وتقترح إنشاء مراكز مؤهلة تستند إلى بيانات دقيقة تراعي احتياجات كل إعاقة. وتشدد على أن “التحديات تشمل الكلفة والجهد والإرهاق، خصوصًا للنساء، في ظل غياب حملات انتخابية دامجة، وارتفاع كلفة الترشّح، واستمرار الخطاب التمييزي ضد النساء ذوات الإعاقة”.
وبدورها توضح سيلفانا اللقيس أن التمثيل السياسي للأشخاص ذوات/وي الإعاقة ما زال مرتبطًا فقط بموسم الانتخابات، حيث تُبقي الأحزاب على عقليتها النمطية، وتبحث عن “المرشح الأقوى” بدلًا من الأكثر كفاءة. يُستَعرض الأشخاص ذوات/وو الإعاقة يوم الاقتراع فقط، بتقديم الكراسي والعربات كمنّة. وتشير إلى أن الكوتا خطوة انتقالية ضرورية، لكنها في لبنان غير مفعّلة.
وتختم قائلة: “حتى الحركة النسوية يجب أن تتحمّل مسؤوليتها، فتمكين النساء ذوات الإعاقة لا يجوز أن يبقى على هامش الأولويات، ولا أن يخضع للأنماط الذكورية نفسها”.
المادة 29 المشاركة في الحياة السياسية والعامة
تنص المادة 29 الصادرة عن الإسكوا ضمن اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والبروتوكول الاختياري على حق ذوي وذوات الإعاقة بالمشاركة السياسية الكاملة، بما يشمل التصويت والترشح، مع ضمان سرية الاقتراع وتوفير المساعدة عند الحاجة.
وتدعو إلى تيسير الوصول لمرافق التصويت، وخلق بيئة داعمة عبر إشراكهم في الأحزاب والمنظمات، وتشجيع تمثيلهم لضمان صوتهم في صنع القرار السياسي والاجتماعي.
غياب البيانات: عائق أمام الإنصاف
أثناء إعداد هذا التقرير، واجهنا تحديًا كبيرًا في الوصول إلى بيانات تفصيلية تتعلق بمشاركة النساء ذوات الإعاقة في الانتخابات البلدية السابقة، سواء على مستوى الترشح أو الاقتراع.
البحث عبر البيانات المفتوحة، أو في التقارير الرسمية المتوفرة لم يُفضِ إلى نتائج مخصصة أو دقيقة، بل اقتصر في أغلبه على دراسات عامة لا تفصل بين الفئات أو تتجاهل تمامًا الفئة المعنية.
هذا الغياب لا يُعد مجرّد نقص معلومات، بل هو وجه آخر من وجوه التهميش. فعدم تخصيص دراسات أو تقارير تحليلية تُعنى بحقوق النساء ذوات الإعاقة في الشأن الانتخابي، يعكس تغافلًا عن دورهن، ويؤثر بشكلٍ مباشر على إمكانية مناصرتهن وتمثيلهن العادل. البيانات ليست أرقامًا فقط، بل هي اعتراف بالوجود، وتجاهلها هو تجاهل للحق في المشاركة.
نحو مشاركة عادلة وشاملة
بعد كل ما أُشير له ضمن التقرير، لا يكفي الحديث عن النساء ذوات الاعاقة كناخبات فقط بل كمرشحات جديرات بالعمل السياسي والمجتمعي، فلا ديمقراطية حقيقة دون مشاركة الجميع ولا عدالة اجتماعية طالما هناك فئات مهمشة ومقصية من دورها السياسي والمجتمعي.
نطمح لأن تصبح صناديق الاقتراع أبوابًا حقيقية نحو الشراكة دون تمييز أو إقصاء.
كتابة: ناهلة سلامة
أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع: “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.