الحرب المضاعفة ضد الفئات المهمشة في غزة.. النساء ذوات الإعاقة نموذجًا

في سعيها الحثيث لإبراز صورة إنسانية مزعومة لا تمت للواقع بصلة، تعتمد دولة الاحتلال على استغلال الإعاقة داخل المستوطنات.

فتخصص، تحت عنوان “في أيادٍ أمينة”، امتيازاتٍ اجتماعية واقتصادية للمتعايشات/ين مع الإعاقة. 

لكن في الحرب الحالية على غزة، التي بدأت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، وما تزال مستمرة، تسقط أكاذيب وادعاءات إسرائيل الواحدة تلو الأخرى.

فبينما هناك رعايةٌ طبية كاملة، ووصولًا مجانيًا وميسّرًا للأدوية والعلاجات لذوات/ذوي الإعاقة في المجتمع الصهيوني تحت مسميات التعايش والعدالة، تغرق قوى الاحتلال الغاشمة مدينة غزة بالقصف بلا تفرقة.

الجميع مهددات/ون بالموت تحت الركام، خصوصًا هؤلاء اللواتي/الذين تمنعهن/م الإعاقة من الفرار.

منذ بدء الحرب، يعيش ذوو وذوات الإعاقة في غزة ظروفًا لا إنسانية، في ظل انعدام الأدوية الخاصة بهن/م. كما يتعرض الناجون/الناجيات إلى مُسببات إعاقات جسدية، سواء كانت ببتر الأطراف أو الإصابات الجسدية المزمنة.

وحيدات أثناء الحرب

فيما يصرف الاحتلال مكافآت مالية لكل مرافق/ة من ذوي وذوات الإعاقات في المجتمع الصهيوني، فهو يفرض بالمقابل، بشكلٍ يومي، معاناةً مضاعفة على ذوي وذوات الإعاقة في غزة. إذ فقدوا/ن حتى أفراد العائلة اللواتي/الذين كن/كانوا عونًا لهن/م. وهو بدوره ما يجعل الاهتمام بذوات/ذوي الإعاقة داخل “إسرائيل” مجرد دعاية للاحتلال.

ميسون جلال، من الفاخورة شمالي غزة، امرأة من ذوات الإعاقة البصرية الجزئية منذ الولادة. تبلغ من العمر 35 عامًا، ولديها طفلٌ واحدٌ لم يتجاوز 3 سنوات بعد، أصبحت له أمًا وأبًا في آنٍ واحد.

استشهد زوجها نتيجة قصفٍ عنيفٍ تعرضت له الفاخورة، وراح ضحيته 38 فردًا من العائلة. أما ميسون، فكانت قد سبقت زوجها بفترةٍ وجيزة إلى بيت شقيقتها في حيٍّ قريب، حين وعدها أنه سيقوم بعملٍ صغير ويتبعها. ولكن صواريخ الاحتلال كانت أسرع منه. ليأتي الرد الآلي من هاتفه المحمول سريعًا: “لا يمكن الوصول إلى الشخص المطلوب حاليًا”.

تروي ميسون: “كان صوت الانفجار قويًا جدًا. مشيت في الشوارع مثل فاقدات الوعي، تحت القصف ومن حارة إلى حارة، حتى وصلت إلى المستشفى. وعندما رأى الطاقم الطبي حالتي النفسية المنهارة، رفضوا أن أدخل للبحث والتعرف على جثمان زوجي. قالوا أنه ليس من بين الجثث التي وصلت، وكانت قد وصلت أشلاء عشرين شهيدًا وشهيدة آنذاك. في حين وصل عدد الشهداء/الشهيدات المفقودين/ات إلى 38”.

حساسية الإعاقة.. رفاهية أثناء الحرب

تتابع ميسون: “في اليوم التالي، وبينما كنت أنتظر أن تستكمل طواقم الدفاع المدني عملها في المكان، جاء شقيقي من خانيونس ليأخذني مخاطرًا بنفسه. تعرف العائلة الوضع الصعب الذي أصبحت فيه مع طفلي الوحيد، وخاصة أنني من ذوات الإعاقة. خرجنا مسرعين هاربين من القصف بملابسنا ودون أن نأخذ أي شيء”.

في خيمةٍ صغيرةٍ على حافة الطريق بمستودعات رفح، تسكن ميسون وابنها حاليًّا مع 25 شخصٍ من عائلتها. في مكانٍ لا يتسع لأيّ شيء، تنام لياليها على صوت بكاء طفلها ذي الثلاث سنوات يسألها عن والده وعن طعام.

ففي الحرب “لا طوابير خاصة بذوي وذوات الإعاقات، ولا حمامات خاصة، ولا أدوية وأماكن ملائمة للنوم”.

تستكمل ميسون حديثها: “النساء ذوات الإعاقة لديهن احتياجات تزيد عن غيرهن، لا يتم توفيرها أو النظر إليها على أنها ذات أولوية في ظل الحرب. مثلًا، أحتاج لأدوية خاصة لعيني وهي مقطوعة منذ بداية الحرب، وعدم تناولها يزيد حدة آلامي.

كسرت نظارتي أثناء النزوح ولا أستطيع الرؤية دونها، وهذا يجعل حياتي أكثر ظلمة وغباشًا وضبابية. لم أستطع إحضار نظارة جديدة في ظل الحرب. أما الالتفات إلى حاجتي لنظارة جديدة، فهو رفاهية أمام الاحتياجات الأخرى الهامة”.

تعاني النساء ذوات الإعاقة معاناةً كبيرة منذ بدء الحرب، نتيجة عدم توفر الأدوات المساعدة. وتواجه ذوات الإعاقة الحركية صعوبات جمة عند استخدام دورات المياه، نظرًا لعدم مواءمة أغلب مراكز الإيواء والأماكن التي تم النزوح إليها”.

تشير ميسون إلى أن “طوابير المياه والخبز والحمامات لا تفرق ذوي وذوات الإعاقة عن غيرهم/ن. فالكل يصطف في الطابور، دون النظر إلى الإعاقة وعدم القدرة على الوقوف والانتظار طويلًا”.

ففي الحرب “لا طوابير خاصة بذوي وذوات الإعاقات، ولا حمامات خاصة، ولا أدوية ولا أماكن ملائمة للنوم”.

التمييز الجندري يلاحق ذوات الإعاقة في غزة

حين نتحدث عن النساء ذوات الإعاقة على وجه التحديد، فإننا نتحدث عن فئة أكثر تهميشًا وعرضة للتمييز، في أي مجتمع. فما هو حال المتعايشات مع الإعاقة في غزة وفي ظل الحرب؟

هذا الأمر شعرت به ميسون مرارًا، في توزيع المساعدات العينية والمالية. حيث لا تُصنَّف هي وابنها كـ”عائلة”، لعدم وجود رجل معهما.

ظلت ميسون على الهامش مرات كثيرة، حتى توجّهت بنفسها إلى موزعي المساعدات. وقتها، طالبت ميسون بحقها في الطعام والشراب والفراش. ولكن، وفقًا لحديثها، الأولوية في توزيع المساعدات تمنح لأصحاب الواسطة والمحسوبية.

“حتى عندما طلبت فرشة أنام عليها وابني، وأشرت إلى أنني من ذوات الإعاقات سخرت مني المسؤولة عن توزيع المساعدات في الأونروا”.

“أراكِ واقفة أمامي على قدميكِ ما هي إعاقتك؟!”، نقلت ميسون كيف افتقر ردّ “المسؤولة” لأدنى مسؤوليةٍ أو تقديرٍ لخصوصية وضعها. 

استهجنت ميسون عدم اعتبار ابنها يتيمًا في المساعدات البسيطة المخصصة للأطفال/ الطفلات، لأنه فقد والده فقط. ثم تساءلت: هل كان عليها الموت أيضًا حتى يستطيع ابنها سدّ جوعه؟

ذوات الإعاقة في نهاية سلم النجاة

لم تكن ذوات الإعاقة في نهاية سلم الأولوية في تقديم المساعدات فحسب. وإنما كذلك في فرص النجاة، إن كان يمكن تسميتها بالنجاة، من القصف والدمار.

“لوما أبويا وأخوتي رفعوني من تحت الحجار، ما كان الدفاع المدني والإسعاف دوروا عليي. كان ضليت تحت الركام”.

فالعشرات وربما المئات من ذوات الإعاقة الحركية فقدن حياتهن منذ بدء الحرب. كان ذلك بسبب عدم قدرتهن على الهرب، وعدم وجود من يحملهن ويخرجهن من تحت الأنقاض.

الناجية نور أرشي، من ذوات الإعاقة الحركية، تقول لشريكة ولكن: “لوما أبويا وأخوتي رفعوني من تحت الحجار، ما كان الدفاع المدني والإسعاف دوروا عليي. كان ضليت تحت الركام”.

نور التي تبلغ من العمر ثلاثين عامًا، ولدت بإعاقة حركية سببها استنشاق والدتها الغاز الناتج عن قنابل أطلقها الاحتلال. وللمفارقة الكارثية، كادت أن تنتهي حياتها جرّاء قصف الاحتلال أيضًا.

النجاة من القصف.. هل هي “نجاة” فعلًا؟

نجت نور من القصف، ولكنها لم تنجُ من الآثار النفسية التي خلفتها الحرب منذ بدايتها. فبينما كانت تعيش في بيت عملت عائلتها على مواءمة جميع أجزائه لتسهيل حياتها، أصبحت اليوم تتنقّل بين مراكز الإيواء غير المجهزة بالمطلق لذوي وذوات الإعاقات.

وهو ما ترك آثارًا نفسية جسيمة عليها، حالها حال الآلاف من ذوي/ذوات الإعاقة في غزة. هؤلاء الذين/اللاتي فرضت عليهم/ن ظروف الحرب والتهجير وانعدام الأدوية والعلاجات والأدوات المساعدة، ظروفًا نفسية ومعيشية صعبة.

فعلى سبيل المثال، فقدت نور كرسيها المتحرك جراء قصف منزلها. واضطرت للمناشدة عبر فيسبوك من أجل توفير كرسي آخر لها. وإذ أشارت إلى “وجود أشخاصٍ يعانين/ون من شللٍ تام، أفقدتهن/م الحرب الأمل في العيش”، أكّدت أنهن/م “بحاجةٍ إلى الكثير من المساعدة ممن حولهم/ن”.

كما لفتت إلى أن “عدم توفر المياه أيضًا يسبب ضغطًا نفسيًا مضاعفًا لذوي/ذوات الإعاقة”.

وناشدت نور المؤسسات التي تعنى بذوي/ذوات الإعاقات لـ”فتح مقراتها في غزة للنازحات/ين منهن/م. وذلك لكونها مناسبة، والتواجد بداخلها أفضل بكثيرٍ من التواجد في الخيم”.

6 آلاف على الأقل دخلوا/ن دائرة الإعاقة جراء الحرب

تحدثنا إلى الناشطة في حقوق ذوي وذوات الإعاقة في غزة حنين السماك. تقول إنه “بعد العدوان الأخير على غزة، زادت نسبة ذوي/ذوات الإعاقة في المجتمع الغزي نتيجة الحرب. ولكن لا يمكن معرفة أو تقدير حجم هذه الزيادة، إلا بعد انتهاء الحرب ومرور 6 أشهر على الأقل”.

الاحتياجات تختلف حسب نوع الإعاقة. ولكن ذوات/ ذوي الإعاقات الذهنية هن/م الأقل حظًا في هذه الحرب.

وأوضحت أن “الإعاقات لا تظهر مباشرة بعد إجراء العمليات الجراحية، ويتطلب الأمر وقتًا لمعرفة ما إذا تعرض المصاب/ة لإعاقة”. وأشارت إلى أنه “يتم تعريف الإعاقة فقط في حالة بتر الرجل أو اليد”. 

ووفقًا للسماك، فإن “التقديرات الأولية تشير إلى أن أكثر من 6 آلاف شخصٍ بُترت أحد الأطراف العلوية أو السفلية لديهم/ن حتى الآن”.


أما بالنسبة لاحتياجات الأشخاص ذوي/ذوات الإعاقة في مراكز الإيواء، فبينت السماك أن “الاحتياجات تختلف حسب نوع الإعاقة. ولكن ذوات/ ذوي الإعاقات الذهنية هن/م الأقل حظًا في هذه الحرب، إذ لا يتم تلقي أية مساعدات أو توفير بيئة مناسبة، بجانب صعوبة إدراك الواقع وفقدان الأهل أو النزوح لأماكن لا يعرفنها/يعرفونها. الأمر نفسه ينطبق على ذوات/ذوي الإعاقات السمعية، اللواتي/الذين شهدن/وا تمييزًا وتهميشًا من النازحين/ات ومن إدارات مراكز الإيواء. وذلك نتيجة عدم وجود لغة تواصل، وعدم القدرة على توصيل رسائل واضحة بلغة الإشارة”.

أما بالنسبة للإعاقات الحركية في بعض مراكز الإيواء التابعة للأونروا، فأشارت السماك إلى أنه “تم عمل صف خاص لهن/م، الرجال والنساء معًا من ذوي/ذوات الإعاقات الحركية”. ويخضع ذلك لنسبية أن يكون مركز الإيواء مجهزًا. وتلك نسبةٌ قليلة مقارنة بمحدودية مراكز الإيواء نفسها.

الإعاقة تعمّق الاحتياجات

تقول السماك، “يعاني ذوات/ ذوي الإعاقة من عدم وجود الحفاضات الصحية، ومن عدم تخصيص مرافق صحية لهن/م”. حيث “تحولت دورات المياه المخصصة لهن/م إلى أماكن إستحمام للنازحات/ين، كونها الأكثر اتساعًا”.

كما “يواجهن/ون مشاكل في التغذية والأدوية، ويتم التوزيع كغيرهن/م من النازحات/ين. في حين أن بعض الأشخاص يحتجن/ يحتاجون لأدويةٍ معينةٍ بسبب الإعاقة والإصابات المسبّبة لها.

وبيّنت السمّاك أنّ “أكبر مشكلة تعاني منها النساء ذوات الاعاقة تكمن في وجود معاناةٍ متزايدة فيما يتعلق بالخصوصية”.

وأوضحت أن “القليل من المؤسسات في ظل الحرب، تواصل عملها، وتعتني بذوات/ذوي الإعاقة. وهناك رصدٌ أوليّ للاحتياجات، ولكن ما يتم تقديمه هو الفتات من الخدمات”.


من جهتها، أوضحت المعالجة النفسية غيداء الصراحنة أن “الاضطرابات النفسية قد تصيب ذوات/ ذوي الإعاقة نتيجة الحرب. وأهمها التوتر الحاد، واضطرابات القلق، واضطراب ما بعد الصدمة”. وأضافت إليها “الهذيان والاضطرابات النفسية الذهانية والإدراكية والانفعالية”.

وأكّدت أن “هذا الأمر يتطلب تدخلًا عاجلًا لمواجهة الكارثة في قطاع الصحة النفسية في غزة بشكلٍ عام، والأشخاص ذوات/ ذوي الإعاقة بشكلٍ خاص”.

الإعاقة في سياق الحرب الأكبر

إن ما تعانيه النساء ذوات الإعاقات في غزة ليس خارجًا عن سياق المعاناة التي سببتها هذه الحرب الصهيونية للمواطنين/ات في غزة من كافة الفئات. ولكن المؤكد تمامًا أن هذه المعاناة ليست وحيدة. وإنما يضاف إليها معاناة سببها التهميش والتمييز الذي تعانيه النساء ذوات الإعاقة، وحاجتهن لخصوصية أكبر تفرضها حاجتهن البيولوجية وطبيعة أجسادهن. 

فالوصول إلى الخدمات في غزة، رغم صعوبته، إلا أنه ميسّرًا أكثر لذوي الإعاقة من الرجال، مقارنة بالنساء ذوات الإعاقة.

يبدو أنه لا أمل برفع المعاناة عن هؤلاء النساء، إلّا بوقف الحرب نهائيًا. وذلك حتى يستطعن مواصلة الدفاع عن حقوقهن التي سلبها الاحتلال، وساهم التمييز المجتمعي في مضاعفة آثارها عليهن.

كتابة: وفاء عاروري

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد