عندما يُفرض الصمت على الناجيات من الإعتداءات الجنسية

تظهر الأرقام الرسمية المسجلة لحوادث الإعتداءات الجنسية في لبنان نسباُ منخفضة جداً. كما تكشف كثرة وقوع الاعتداءات الجنسية، والاعترافات المتأخرة، كتم الكثير من الناجيات الأمر، خشية عقاب عن ذنب كنّ ضحاياه. وفي كثير من الأحيان يتم فضح الجريمة نتيجة حادث ما، يكشف ما لم تجرؤ الضحية على كشفه. هذا ما تؤكده جمعيات تعنى بحماية النساء من العنف الجنسي.

وفيما تكشف العديد من الناجيات عن تعرضهن لهذه الاعتداءات بعد وقوعها بفترة زمنية، وبدل التعاطف مع الناجية والإثناء على جرأتها وإقدامها على هذه الخطوة التي تحمي غيرها،  ينتقل البعض إمّا للومها على صمتها خلال الفترة السابقة، أو للومها على الإفصاح عن الإعتداء بعد مرور الوقت. فتتهم الناجية بمحاولة إبتزاز المرتكب أو بالسعي لنيل الشهرة والإهتمام. وهو ما يشكل ضغطاً كبيراً عليها وعلى بقية النساء الناجيات، أو حتى من لا تزلن تتعرضن لاعتداءات مستمرة، لتستمر دوامة الصمت، ولتشكل الإتهامات الموجهة ضد النساء خلاصاً للمرتكب وشبكة حماية تؤمن له الظروف المثالية للإستمرار في جريمته. وهم بذلك يشاركونه في اعتدائه المستمر، كما يعتدون  بدورهم على اوالناجيات عبر اتهامهن ومحاولة النيل من سمعتهن، إما جاهلين وإما متجاهلين عن قصد كم الضغط النفسي والإجتماعي الذي تتعرض له الفتاة وضرره عليها.

ويعود السبب في صمت الناجيات والضحايا لصراع هائل وضغط كبير تعشنه مع أنفسهن قبل مواجهة ضغط المجتمع. وهو بالطبع صراع يزرعه المحيط في نفوس الفتيات من خلال تركيبة جهازهن النفسي، والذي يبنى على أساس القيم والأعراف السائدة وأحكام المجتمع.

تشرح المعالجة النفسية هبة خليفة في حديث إلى “شريكة ولكن” تفاصيل ما تعيشه الفتيات والنساء اللواتي تتعرضن لاعتداءات جنسية. تقول خليفة إنه لا يمكن تعميم ردة فعل واحدة على كل الفتيات، فلكل شخص جهاز نفسي واستعداد نفسي خاص به. ويمكن لفتاتين تعرضتا لنفس ظروف الإغتصاب أوالتحرش، وربما تربتا في ذات الظروف العائلية أن تظهرا ردتي فعل مختلفتين بسبب اختلاف قدرة التحمل والاستيعاب. تشير خليفة إلى “ظهور عوارض مشتركة لدى الفتيات اللواتي تعرضن للإغتصاب، حيث يمكن للمعالج النفسي معرفة ما تعرضن له دون أن يبحن به، من خلال تصرفات معينة يقمن بها. “وأحياناً يبدأ البوح من جانب المعالج بعد ملاحظته الأمر وهو ما يريح الفتيات، فليس من السهل عليهن النطق بالأمر. لهذا فمن الضروري لهؤلاء الخضوع لعلاج نفسي”.

 

تلفت خليفة إلى أن السن الذي تتعرض الفتاة خلاله للإعتداء، يلعب دوراً أساسياً في شكل ردة الفعل. “فأغلبية  الفتيات اللواتي يتعرضن للاعتداء الجنسي يتعرضن له في سن صغيرة، تتراوح بين ست وتسع سنوات. أي في سن لا تملك فيه الفتاة إدراكاً لحقيقة ما يجري حولها، ولا تتمتع فيه بالنضج اللازم لفهم ما حصل. كردة فعل تبدأ الطفلة بتركيب القصص كما تريد ليبنى من بعدها ادراكها للأمور على أساس الحادثة التي حصلت معها وهي صغيرة، لأن جهازها النفسي كان في طور التشكل ولم يكن قد اكتمل عند حصول الصدمة. وتولد هذه الصدمة ردات فعل وآليات دفاعية تختلف بحسب استعدادها النفسي”.

تتابع خليفة: “عند تعرض فتاة للإغتصاب في الصغر تكون قد تعرضت لصدمة ولم تفهم بعد الأمر فتبدا بالتفكير بأسئلة في محاولة لفهم ما حصل معها وبما شعرت به: الخوف، الرعب، أنواع مشاعر مختلفة مرت عليها ستحاول فهم ماهيتها في البداية. لن تخبر أحداً لأنها هي بنفسها لم تفهم الموضوع، فكيف ستخبره للآخرين؟! ستشعر بالذنب وهو أكثر ما تشعر به الفتيات، ويتساءلن: هل أنا سمحت له بالقيام بذلك؟ هل أنا السبب؟ هل شجعته؟ هل قمت بشيء سيء؟ هل أنا شريرة؟ هل استحق ما حصل لي؟  لما حصل هذا الأمر معي أنا؟ فيبنى جهازها النفسي على إحساسين متعارضين في آن: “إحساس بالذنب يقابله إحساس بالمظلومية”. عوامل كثيرة تدفع الفتاة للصمت، وفق خليفة، منها العائلة المحيطة والثقافة التي تتربى عليها الفتاة، وكذلك تصرفات الأهل التي يتماهى معها الأبناء.

يدفع إرتباك المشاعر الفتاة للصمت. لكن مشاعر أفظع وارتباك أفظع تعيشه الفتاة في حال كان المعتدي أحد أفراد أسرتها. تشير خليفة إلى أن حالات الإعتداءات على الفتيات هي بأغلبها سفاح قربى، حيث يكون المعتدي أحد أفراد أسرتها. وفق خليفة، فإن الفتاة وفي سن صغيرة قد تعيش إرباكاً في المشاعر بين كره ما حصل وبين حبه، يحصل هذا الأمر خصوصاً في حالات يكون فيها المعتدي هو الوالد، وخصوصاُ عند حدوث الإعتداء في المرحلة الأوديبية لدى الطفلة، السن التي تتعلق فيه الطفلة بوالدها، بين الثلاث والسبع سنوات. “يولد الأمر شعورين متناقضين لدى الطفلة: كره الموضوع والخوف منه، والقرف من المعتدي ومن جسدها ومن كل ما يجري. يقابله في ذات الوقت حب للموضوع وشعور بالإثارة تجاه موضوع ايقظ مشاعر جنسية معينة. لا لكونها فتاة سيئة، بل لأنها تعرضت في سن مبكرة لعملية جنسية، وهوما يوقظ لديها مشاعر جنسية ويولد لديها شعوراً كبيراً بالذنب، إضافة إلى الشعور بالإثارة. فتقع في صراع كبير بين رغبتها وبين صغر سنها وقرارها ب”المحافظة على نفسها” ما يدفعها للصمت. كما تعتبر الفتاة أنه من الأفضل لها إخفاء الأمر، لأن نظرة المجتمع للفتاة المغتصبة نظرة غير سليمة. بدءًا من العائلة التي تشعر أن ابنتها عارعليها، فتحاول سجنها ومنعها من القيام باي شيء. ما يشعر الفتاة بأنها مهددة من أهلها وعرضة للسجن في المنزل وحتى القتل احياناً. وفي حال تقبل الأهل الفتاة وحضنوها، ستواجه مشكلة في مواجهة نظرة المجتمع تجاهها كونها فتاة مغتصبة. وهنا تخشى أيضاً من عدم رغبة أحد بالارتباط بها أو من محاولة البعض استغلالها”.

هذه المشاعر الفظيعة التي تمر بها الطفلات والفتيات، لا تدفعهن للصمت فحسب، وإنما ينتج عنها سلوك متعب وحياة متعبة لهن. وتسبب صدمة الإغتصاب في سن مبكرة توقف في نمو المهارات المعرفية بشكل سليم فتعاني الفتاة من تأخر بالأمور المعرفية، الأمر الذي يعيق دراستها وحياتها العملية بشكل كبير. كما قد يسبب لها السمنة المفرطة.

عن الناجيات اللواتي يتحدثن فجأة عما مررن به، تقول خليفة أن الأمر يبدو ظاهرياً وكأنه حصل فجأةً، بينما في الحقيقة فإن الناجية كانت تستعد للأمر لفترات طويلة وبشكل غير واع. بعض الفتيات اللواتي يمررن بهذه التجربة يخترن الارتقاء كآلية دفاعية إيجابية، فتتجهن للتفكير بشكل إيجابي ويبدأن بالقراءة وممارسة الرياضة بهدف تقوية أنفسهن وتجهيزها لمواجهة المصاعب. وتعتبر الناجية أنها إن تكلمت ستصبح أقوى وسترتاح. لكن نساء أخريات تسلكن الطريق المعاكسة ما يجعلهن تكبتن أكثر فأكثر هذا السر، وهو ما يؤثر سلباُ على حياتهن اليومية سلوكهن وتفكيرن ومشاعرهن.

ورغم أن نسب اللواتي تبحن قد ارتفع عما كان عليه في الماضي، إلا أن الأمر يحتاج للمزيد من الوقت. فهو مرتبط  بالنظام الإجتماعي بأكمله وبالعادات والتقاليد السائدة. وهنا تشير خليفة إلى أهمية حملات المناصرة، وإشعار المراة منذ الصغر بالقوة. كما تشجع على البوح “لأنه الخطوة الأولى نحو الشفاء”.

وفي حين أن العديد من الإعتداءات الجنسية هي إما غير مجرّمة قانونياً وإما تفتح القوانين وطريقة تنفيذها باباً لنفاذ المرتكب، تشير المحامية منار زعيتر إلى ضرورة أن يترافق إقرار القوانين وتفعيل آليات الكشف عن الإعتداءات والتحقيق بوقوعها، مع التضامن الإجتماعي لاحتضان النساء ضحايا العنف القائم على النوع الإجتماعي.

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد