حلوتي «نادين»

كانت صباحاتنا مع “نادين” عبارة عن جلسة تعذيب صوتي لبقية الزملاء والزميلات حيث كُنَّا نتميّز هي وأنا بأصواتنا الصادحة “نوعًا ما”، وهذا ما كان يدفع رفيقتنا في المكتب “زينة” للجنون أغلب الأحيان.

صباح نهار الجمعة 4 تشرين 2019 كان مختلفًا، لم يكن هناك متسع من الوقت للنقاش. فرحة “نادين” لم تكن توصف. فقد استأجرت سيارة وأخبرتنا أنَّها متحمسة جدًّا لقضاء عطلة الأسبوع مع كرم بعيدًا عن ضوضاء المدينة. في ذلك اليوم، كان الدانيال معي . أخذته “نادين” إلى دكان مجاور وقامت بشراء الكثير من ألواح الشوكولاته والبطاطا، فطلب منها أن تتوسّط لديّ كي يأكلها جميعها! ركضت معه في الحديقة حيث كان الجيران يسمعون أصوات ضحكاتهم. احتضنته. وقبّلته. وحاولت إقناعي بالذهاب معهم “كرم ودانيال بيتسلوا مع بعض”. لم تفلح في إقناعي، لكنَّها أصرّت على ذهابنا للسهر معًا نهار السبت. أيضًا اعتذرت بسبب التزاماتي مع الدانيال. نهار السبت صباحًا وَضَعَت على خاصية الانستغرام صورًا عن المكان وقالت لي إنَّه رائع وجميل جدًّا. نهار الأحد 6 تشرين الاول 2019 ركبت في سيارتي مع الدانيال، وصلت إلى أوّل الشارع رَنّ هاتفي ، إنَّها زينة “عليا نادين ماتت”.

لا أذكر شيئًا بعدها. توقف الزمن، وكأنَّ ذاكرتي رفضت المضي قدماً، وعادت إلى مرحلة ماقبل الاتصال، لترصد نادين، وصوتها وهي تُذَكِّرُني بأوّل مرّةٍ رأتني فيها “كنتِ بمظاهرة عم تصرخي وأنا قلت مين هالبنت القوية وعملتلك من بعدها أد على فايسبوك”. صورة نادين عندما قصَّت شعرها وأرسلتها إلينا فَرِحَةً بالـ”نيو لوك”. نقاشاتنا العميقة والسطحية. خططها للعمل أكثر حول فضح المتحرشين الأمر الذي اعتبرته مهمّة أوكلت إليها من النساء والفتيات غير القادرات أو الراغبات بالحديث حول الموضوع. قلقها على والدتها حيث كانت تقضي وقتها على الطرقات ما بين الجنوب وبيروت لزيارتها في المستشفى. أحاديثنا النسوية، والتي غالبًا ما كانت تحمل عتبًا على الحركة “أنا بعرف كتير منيح مين بيحبني ومين لأ وما بتفرق معي”. أما شغلها الشاغل فكان “كرم” والحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية. لم تكن نادين تناضل فقط من أجلها ومن أجل حضانة كرم، بل كانت تناضل من أجل كافة النساء الشيعيات اللواتي يتمّ قمعهنّ وتعنيفيهنّ نفسيّاً من قبل قضاة ما يُعرف بالمحكمة الجعفرية في لبنان. نادين كانت أوّل من هتف من أمام المحكمة الجعفرية وهي صاحبة الهتاف الشهير “الفساد الفساد جوّا جوّا العمامات”.

قبل 6 تشرين الأول كنت أرى في نادين تلك الفتاة المشاكسة التي تساعد الجميع، تحبّ التعلّم وتسعى للتغلب على التحديات. فتاة مليئة بالحياة تُحِبُّ السهرَ وتعشق “كرم”. قبل 6 تشرين كنت أرى نادين تلك المناضلة الصادقة والواضحة التي لا تساوم على الحقوق أو القضايا. قبل 6 تشرين كنت أرى نادين الأم التي وضعت خططاً مستقبلية لكرم وكان ليفخر كثيرّا لو سنحت له الفرصة لمعرفتها.

كَمْ كنتُ أتمنّى لو لم يكن هناك بعد 6 تشرين الأول في حديثي. ولكن. بعد 6 تشرين الأول أصبحت نادين رمزًا لقضية الحضانة في لبنان وحقوق النساء والفتيات. نادين أصبحت صوت كل إمراة معنفة أو محرومة من حقوقها…وبعد 6 تشرين تعهدنا لنادين باستكمال النضال واليوم نُجَدِّدُ لها العهد.

ارقدي بقوّة يا قمري البطلة .

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد