كيف اخترقت “مساحة حب ودعم” للنساء المساحات الذكورية وخطابات الكراهية؟
على الرغم من ضيق مساحة دعم الفضاء القانوني لنون النسوة اللبنانية دعماً ناجعاً مستقلاً عن جمع المذكر السالم لغوياً، والمعتل عرفياً، استطاع الفضاء الافتراضي أن يروي بعضاً من رمق الثائرات اللبنانيات ولو بجرعة “حب ودعم”.
ثائراتٌ لم تُتعبهن الأشواك ولم تقف في درب نضالهن لأجل كرامتهن الإنسانية. فقررن استثمار وسائل التواصل الاجتماعي لدعم النساء والفتيات، بعد أن هضمت حقوقهن القوانين وهمّشتهن الأعراف، وضيقت على حريتهن المفاهيم والمعتقدات الذكورية البالية. ولعل أكثر ما تحتاجه النساء، في بلداننا هو مكان كـ”مساحة حب ودعم” صادق لهن.
بين ليلةٍ وضحاها، خلقت هذه المنصة “مساحةً قلبيةً تُؤتمن على قضايا النساء، داخل فضاءٍ إلكتروني غير آمنٍ بالكامل”، بحسب ما قالت مُؤسسة مجموعة “مساحة حب ودعم للنساء” فرح أبي مرشد، في مقابلة خاصة لموقع “شريكة ولكن”.
ففي ظل تفشي الخطابات الذكورية المثابرة على غرز المفاهيم الأبوية وتعزيز التمييز ضد النساء والفتيات، وجدت فرح أنه “هناك حاجة ملحة لمساحات تحمل قضاياهن ولا تميز ضدهن، ولا تروج لخطابات الكراهية بحقهن”.
ما هي مساحة حب ودعم؟
أُنشئت المجموعة في آب/أغسطس 2019، وسرعان ما لاقت استحساناً وتفاعلاً من قبل النساء اللواتي “انضممن إليها بأعدادٍ منذ اليوم الثاني، وسجّلن تجاربهن مع هذه المنظومة وأدواتها الذكورية”، بحسب فرح.
باعتزازٍ وامتنانٍ للثقة التي مُنحت للمجموعة بشكلٍ عام، وللمشرفات عليها بشكلٍ خاص، كشفت أبي مرشد عن “التفاعل الكبير منذ اليوم الأول”. لكنها لم تخفي قلقها من “الإفصاحات الحساسة التي سجّلتها بعض العضوات، اللواتي لم يخفين هوياتهن”. فهي لم تتوقع أن “يكون هناك قصصاً شديدة الحساسية، كتلك التي وردت وترد باستمرار إليهن”.
كما كشفت أن “كمية القضايا الشخصية الحساسة التي نُشرت في البداية، وبيّنت هويات صاحباتها كانت مقلقة، ما تطلّب ضبط الأمور بشكلٍ يحافظ على خصوصية النساء ويؤمن لهن الحماية في الوقت نفسه وبشكلٍ سريع”.
وككل خطوةٍ تخرج عن الأعراف ولا تنصاع لها أو تنهزم أمامها، تعرضت مساحة الحب والدعم لهجمات الكره والتخوين. نظرية المؤامرة دائمة الجهوزية، ولم يعد مستغرباً زج قضايا النساء ضمن أدواتها “المشبوهة” و”الدخيلة” و”الممولة من الغرب”. فأول ما تُتهم به الجهات الداعمة لتحرير النساء من التبعية والسلطوية والارتهان للذكور هو “تنفيذ لأجندة غربية أو مشبوهة” في أحسن الأحوال.
هذا الحال، طال المساحة منذ انطلاقتها. فروت فرح كيف لعبت بعض الأطراف على الوتر الطائفي للتشكيك بأهدافها، وكيف ابتزت تلك الفئات عاطفة الجمهور “الطائفية والسياسية” للتأثير على مواقفهم/ن تجاهها. لكنها أكدت أن “المساحة هي مجموعة أدارتها نساء من مختلف الانتماءات، بعد صياغة أعرافٍ تشاركية لتنظيم وجودنا داخلها”.
وحول آلية مواجهة “نظرية المؤامرة”، قالت: “حاولنا في البداية التعويل على التواصل الجيد لشرح المواقف، إلا أننا عندما رأينا أن الاتهامات استمرت على قاعدة أننا مدربات على لعب هذا الدور ومواجهة هكذا مواقف، توقفنا عن الرد على الاتهامات والتعليقات المسيئة”.
كما أكدت أن “القاعدة الثابتة في آليات المواجهة كانت تفادي الوقوع في فخ المواجهة المباشرة مع النساء، لأن هذه المنظومة تتعمد استخدامهن في خط الهجوم والدفاع الأول، ونحن أردنا أن لا ننصاع لرغبتهن وهي أن نقف كنساء في وجه بعضنا”.
ما هي الخدمات التي تقدمها مساحة حب ودعم للنساء؟
عبّرت فرح عن رضاها بما أنجزته هذه المجموعة التي خُلقت ونشأت وترعرعت تحت كنف الإرادة النسوية الحرة، المستقلة عن كل مصادر السلطة، داخليةٍ كانت أم خارجية. فباتت مكاناً تلجأ إليه النساء ليَعبُرن بحقوقهن المسلوبة نحو الأمل بواقعٍ أفضل، في ظل نكران واقع التسلط والحرمان.
وتحدثت كيف “تحولت المساحة أثناء ثورة 17 تشرين في لبنان إلى وكالة أنباء تنقل أخبار الشارع والثورة، وخلال الأزمة الصحية باتت تسجّل محتوى معرفي قوي، حلّ محلّه أمور تتعلق بالإغاثة بعد جريمة المرفأ وأثناء الأزمة الاقتصادية”.
وأشارت إلى الدور المهم الذي لعبته أيضاً في “تغطية تكاليف جامعية لبعض الفتيات، والاهتمام بأمهات عازبات، وتقديم استشارات قانونية مجانية، وإحالة حالات صحة نفسية إما إلى جهات تقدم خدمات مجانية، أو من خلال تغطيتها، وتأمين علاجات صحية، وتكلفة عمليات، وفرق استشفاء، بالإضافة إلى تأمين فرص عمل أو تدريبات كالتي استطاعت المساحة تأمينها”.
وإلى جانب الخدمات المادية، تؤمن فرح بأن لـ”هذه المجموعات دور في خلق فرصةٍ للترابط والتشبيك بين النساء وتصويب بعض المفاهيم والمصطلحات، وخلق علاقات ودية ومبادرات مشتركة”.
تمكنت أيضاً مساحة الحب هذه في وقتٍ سابق من المساعدة في كشف ملابسات جريمةٍ وقعت ضحيتها إحدى عضوات المجموعة، وتحويلها إلى قضية رأي عام.
فبعد تداول خبر مقتل السيدة منال التيماني، “تبين من خلال تفاعلٍ سابقٍ للضحية داخل المساحة أنها جريمة عنف أسري وقتل بذريعة الشرف، كما يُشاع”، بحسب فرح التي أكدت أن “منال كتبت عن حياتها وزواجها، وتحولت القضية إلى قضية رأي عام بسبب ما كتبته داخل المجموعة”.
تطمح “المساحة”، التي جمعت النساء والفتيات من مختلف الخلفيات العقائدية والفكرية والسياسية، إلى “زيادة المصادر المعرفية، خصوصاً في ما يتعلق بمناقشة قضايا النساء”. وفي هذا السياق، أكدت مُؤسسة المجموعة في حديثها لموقعنا، أن “الناشطات الفاعلات في إدارة المجموعة يحاولن التشبيك مع مجموعات تعمل ضمن القيم النسوية، وحالياً نجرب أن نشبّك مع منتدى جنسانية في فلسطين”. وهي تعتبر أن “هذه المساحات تستطيع أن تعيد تصويب نظرتنا لبعضنا كنساء، من خلال إعادة تنقيح أفكارنا وسلوكياتنا ومحتوانا اللغوي ومفاهيمنا ورؤيتنا التي أُسقطت علينا من المنظومة الأبوية التي شكلت أفكار المجتمع وقيمه”. وأضافت: “وهي التي تتحكم في كل شيء؛ بدءاً من الخطاب السياسي، مروراً بالإعلام، وصولاً إلى تصدير الأفكار المجتمعية النمطية”.
ولما كان من المهم التأسيس لهذا الخرق البنّاء في ظل الهدم الذكوري الممنهج، ولما كانت الوسائل المتاحة قادرة على التأثير الإيجابي وبالتالي التأسيس لإعادة تشكيل الأفكار وطرح مفاهيم بديلة أكثر تجسيداً لإنسانية النساء، اختارت فرح ومعها مجموعة من الثائرات مواجهة “عُصارة الكره الذكوري لوعي النساء” بمساحةٍ تواصلية نسوية، أساسها الثقة والإيمان والأمان و”الحب والدعم”.
دعمٌ غير مشروطٍ بالولاء لسلطاتٍ فوقيةٍ، على غرار وهمية التفوق الذكوري. كل ما على النساء والفتيات فعله للحصول عليه، هو الإيمان بذواتهن وبوجود الكثيرات حولهن لمنحهن الحب والقوة.
كتابة: مريم ياغي