إسراء الغمغام .. شجاعة مواجهة “أمنا الغولة”!
في ظلمات السجون وأقبية مباني التعذيب في بلداننا، كم من أمنيةٍ للموت أطلقت من قلبٍ متألم. قلبٌ أصابه الحزن وأضحت عّلته الوطن. وحين تكون المقاومة من أجل الحرية والمساواة والعدالة، قد يكون الموت ثمناً أقل ألماً في بعض الأحيان من التعرض للسجن أو للتعذيب.
لكن النساء اللواتي قاومن من أجل حقوقهن وحقوق الآخرين/ات لسن وليدات اليوم أو العقد الماضي. إنما تاريخ النضال النسوي متوازي مع التاريخ الإنساني.
وربما تبدو المرأة غريبةً في مجتمعها، وفي وقت ثورتها على واقعها لا تكون مميزة في بلداننا بقدر ما توصم بالـ”شذوذ”. وقد تشعر بالوحدة والغربة وإن كانت في وطنها، وتحتمي فيه بحثاً عن ملاذٍ آمن بعيداً عن المطاردات البوليسية أو الاجتماعية.
وقد تضيع سنوات عمرها في كفاحها للحصول على المساواة أو العدالة، إلا أنها أبداً لم تكن وحيدةً يوماً، وليست الوحيدة اليوم، هناك دائماً أخريات.
نتذكر منهن في هذا المقال الناشطة السعودية إسراء الغمغام التي كادت أن تدفع حياتها ثمناً لنشاطها الحقوقي السلمي، وما زالت تقبع في زنازين النظام، بعد أن واجهت خطر الحكم عليها بالإعدام!
كيف يكون الإعدام عقوبةً للنشاط الحقوقي السلمي؟
صحيح أنه ليس من المفترض أن تكون حياة النساء ثمناً بأي شكلٍ لمطالبتهن بحقوقٍ إنسانية أو لممارستهن حقهن في التعبير بسلمية. لكن “أمنا الغولة” لم تعد اليوم مجرد وحشٍ مختلق في حكايات الطفولة فحسب، بل أضحت واقعاً يواجهنه كلما قررن القول إن هذا ليس صحيحاً.
فأن يطالب شخص ما بقتلك هو موقف صعب، لكن الأصعب أن يطلب النظام رقبتك ثمناً لدفاعك عن الحرية.
اعتقلت إسراء في كانون الأول/ديسمبر عام 2015، وقضت 3 سنوات في الحبس على ذمة التحقيقات تحت قانون “مكافحة الجرائم المعلوماتية” سيئ السمعة، على خلفية نشاطها التدويني على شبكات التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى دعاوى أخرى تتعلق بمشاركتها في المسيرات والتظاهرات عام 2011 في المنطقة الشرقية في المملكة، وتوثيقها ونشرها على السوشيال ميديا مطالبةً بحقوق متساوية بين أبناء الوطن الواحد والمذاهب الدينية المختلفة.
بعد 3 سنوات من الاعتقال، طلبت النيابة العامة إعدامها مستندةً إلى “مبدأ التعزير في الشريعة”، ما يعني أن للقاضي حرية التصرف في تسمية الجريمة وحكمها، في ظل غياب قانون عقوبات مكتوب أو واضح. فشن المجتمع المدني حملةً عالمية لأجلها، إذ شكل الحكم صدمةً ومخاوف كبيرة.
فأن تتجرأ امرأة وتقف وتطالب بحقها كما فعلت إسراء كان سبباً كفيلاً ليشعر النظام بحقه في طلب النيل من رقبتها، وسلبها حياتها!
أن تعيش هذا المرأة تحت سلطة نظامٍ قمعي سلطوي يدّعي سعيه للإصلاح الديمقراطي كان كفيلاً بأن تتعرض للتهديد بالقتل خلال محاكمتها في آب/أغسطس عام 2018.
بعد ذلك، ظهر فيديو لامرأة بعباءةٍ سوداء يقوم رجل بتجهيز رأسها للقطع، في مشهدٍ قاسٍ نُشر مصحوباً بتعليق: “السيف لم يكن كافياً لقطع رأسها من ضربة واحدة، فضرب عنقها مرتين”.
أثار هذا الفيديو صدمةً قبل أن يتم التأكد من أنه لم يكن لإسراء، على الرغم من أنه انتشر كثيراً مصحوباً باسمها، وما جعله أقرب إلى التصديق قبل أن تنكشف الحقيقة، كان طلب النيابة السابق بقطع رأسها، حتى وصل إلى أهلها قبل أن يتمكنوا/ن من التحقق من عدم صحته، وأن إسراء ما زالت حية.
ضغوط المجتمع المدني
دفع تهديد النيابة بقتل الناشطة السعودية، المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان في مختلف دول العالم إلى مهاجمة النظام السياسي في المملكة والمطالبة بوقف عقوبة الإعدام للنشطاء والناشطات الحقوقيات/ين والسياسيات/ين على خلفية نشاطهن/م غير العنفي. واستمرت المحاولات المستميتة للحيلولة دون تعرض الغمغام للقتل باسم حكم الشريعة.
شكلت قضية إسراء جرس إنذارٍ موجهاً إلى العالم، إذ كادت تصبح أول ناشطة حقوقية يحكم عليها بالإعدام بسبب نشاطها السلمي. وإن كانت ليست المرة الأولى التي يقتل فيها العالم امرأة تجرأت على رفع صوتها عالياً مطالبةً بحقوقها، متعللاً بالدين أو الأخلاق أو القوانين.
وبالفعل، بعد الحملة الحقوقية، نجح الناشطون والناشطات في منع تنفيذ هذا الحكم، لينشر في 1 شباط/فبراير 2019 خبر تراجع الادعاء عن المطالبة به.
وعلى الرغم من أن الخبر كان حرفياً نازعاً للسيف من على رقابٍ كثيرة، وليس رقبة إسراء فحسب، بل رقبة كل امرأة سعودية تملك من الشجاعة والإنسانية ما يكفيها لتعارض الظلم والقوانين المجحفة، لكنه ترافق مع خبر سيئ آخر، وهو الحكم عليها في 10 شباط/فبراير 2021 بالسجن مدة 8 سنوات، فقط لأنها شاركت ودعمت تظاهرة سلمية تطالب بحرية العقيدة.
من هي إسراء الغمغام؟
ولدت إسراء عام 1989، وهي من منطقة القطيف في شرق المملكة، وهي منطقة شهدت تحركاتٍ وتظاهرات احتجاجية في شباط/فبراير 2011. اعتقلت من منزلها مع زوجها، واتهمت بالـ”مشاركة في المسيرات والتظاهرات في القطيف وترديد عبارات مناوئة للدولة ومحاولة التأثير في الرأي العام وضد السلطة، وتصوير المسيرات ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتوفير الدعم المعنوي للمشاركين/ات في التجمعات”.
فقط لأنها امرأة سعودية قررت أن لا ترضخ وأن لا تسكت، تقضي إسراء سنواتها في أقبية سجون النظام الذي يدعي الإصلاح ويعد بـ”إعطاء” السعوديات حقوقهن ويسجنهن في الوقت نفسه لمطالبتهن بهذه الحقوق!
لكن تلك لم تكن أبداً نهاية القصة، فإسراء ما زالت تقاوم بالتأكيد، شأنها شأن آلاف السعوديات والنساء اللواتي لم يرتضين الخضوع لأي سلطةٍ أبوية بل تمكنّ وبقوة أن يواجهن “الغولة” ويصرّحن علناً بأن “عينها حمراء!”.