لماذا يخاف العالم من النسوية؟
أتصفح موقع تويتر، ومنشورات يوم المرأة العالمي تزداد باستمرار مع اقتراب الثامن من آذار. فأقرأ عن أسماء نسويات لا أعرفهن، في بلاد لا أعرف وضع النساء فيها، لكنني أعلم أنهن قمن بعملٍ ما أو رفعن فكرةً معينة، هزّت عرش النظام الأبوي بطريقةٍ أو بأخرى.
وأعرف أن موعد الإشادة بأسمائهن والإضاءة على دورهن في إحقاق وضع النساء. في الأيام الأخرى، الأيام “العادية”، تنهال الشتائم والتهديدات عليهن، ويتم إسكاتهن بكافة أنواع القمع، بحسب موقعهن الاجتماعي. ونقف شاهداتٍ على الحقد الموجه لهن، وكأنه طبيعي ومتوقع وعلينا فقط التعايش معه.
على الرغم من ذلك، لا يخلو “نهارنا” من التهزيء والاستحقار، فأجد نفسي تحت تغريدةٍ للجنة تعنى بحقوق الإنسان، تكرّم فيها الناشطة النسوية السعودية لجين الهذلول لدورها المهم في حملة حق القيادة للنساء في المملكة.
لا يصدمني أول تعليق تحت التغريدة، إذ كتب أحدهم أن لجين، في الحقيقة، لم تلعب دوراً في نزع حق القيادة من الحكومة. فهي كانت معتقلة في الفترة التي أُصدِر فيها القرار الملكي الذي يسمح للنساء بذلك، بل معتقلة على خلفية “خيانتها” لبلدها أيضاً.
في الواقع، بدأ التخوين للجين منذ أن شنّت الحكومة حرباً ضدها واعتقلتها على خلفية تعاملها مع جهات أجنبية، وحاولت الحكومة أخذ الشكر على إعطائها حق اعتقلت عشرات النسويات بسببه.
تهمة خيانة الوطن والعمالة جاهزة، ولم تنشأ مع حرب المملكة ضد لجين. فالنسويات يعلمن جيداً مخاطر مواجهة النظام الأبوي عندما تُبنى شرعية الدول والحكومات على إخضاع النساء والتحكم بأجسادهن وقراراتهن. تاريخ النضال النسوي مليء بالأمثلة على تحقير وتهميش أصوات النسويات والحقوقيات اللواتي تسائلن عن وضع المرأة وتحديّن القمع الذي افترضت الشعوب أنه بديهي لطبيعتنا البشرية.
فمنذ بداية الموجة النسوية الأولى ومطالبة النساء بالحق في الانتخاب والمشاركة السياسية في بريطانيا وأميركا وعدة دول أخرى حول العالم، اتُهمن بمحاولة الإخلال بنظام قائم على اعتبار الرجل مواطناً كاملاً يحق له التصويت على القرارات المتعلقة بتقرير مصيره ومصير شعبه.
قد تبدو مشاركة النساء السياسية اليوم بديهية، لكنها لم تكن كذلك في القرن التاسع عشر. التشنج المجتمعي الذي أدت له تظاهرات النسويات وحملاتهن كان واضحاً، وردّة فعل الحكومات كانت قاسية. فشيطنت هؤلاء النساء واتهمتهن بالـ”هستيريا والجنون” وسجنت المئات منهن، ووصل الأمر إلى درجة دفعت تلك النسويات للإضراب عن الطعام احتجاجاً على الاعتقال والتعذيب وتشويه السمعة الذي طالهن.
شهدت النسويات العربيات أيضاً معاركهن في نزع الحقوق السياسية في بلادنا، وأتت محاولات تسكيتهن عبر اتهامات عدّة كـ”العمالة وقلة الأدب والتمرد” على الأعراف. تلك الشيطنة لم تكن الأولى من نوعها، وتذكرنا بالمجازر التي تعرضت لها النساء في أوروبا وأميركا سابقاً ما بين القرنين الخامس والسابع عشر ميلادي، عندما شنت كل من الكنيسة والطب الحديث نسبياً حملات شيطنة للنساء اللواتي كن يمارسن القبالة القانونية والتطبيب الإنجابي والجنسي التقليدي، واتهمتهن بالشعوذة. فقُتلت آلاف النساء شنقاً وحرقاً وتعذيباً بتهمة ممارسة السحر فقط لأن الطب أراد احتكار تلك المعرفة وسلب النساء القدرة على تطبيب أنفسهن.
الأمثلة كثيرة، فنرى كيف تعامل المجتمع ومؤسساته والسلطات المختلفة مع النساء اللواتي طالبن بحق التحكم بحيواتهن والسيادة على أجسادهن، قبل أن نتعرف إلى مصطلح النسوية، واستمر هذا العنف الممنهج عبر الموجات النسوية الثلاث حتى يومنا هذا.
اليوم، على الرغم من انتزاعنا للعديد من الحقوق، لا زلنا نشعر أننا أمام حائطٍ صلب، يفصلنا عن ما تطمح إليه مخيلاتنا النسوية من تحرر وعدالة. فالحقيقة هي أن العالم لا يزال غير عادل بحقنا، وووصولنا إلى بعض الامتيازات يتعلق غالباً بالطبقة والعرق والهوية والعائلة التي ننتمي إليها، أكثر مما أنه يتعلق بكوننا نساء.
لننظر إلى السياق الذي نعرفه بالشكل الأفضل. نسمع يومياً عن جرائم قتل نساء بذريعة ما يسمى “الشرف” وغيرها من التهم، ولا يحصلن على أي نوعٍ من العدالة بعد الموت. يومياً نسمع شهادات الأمهات اللواتي خسرن أطفالهن بسبب قوانين حضانة جائرة لا ترى في النساء أكثر من أوعية حمل وإنجاب.
كلنا نعي جيداً كيف تستغل أنظمة الكفالة في منطقتنا حاجة نساء بعض البلدان الإفريقية والآسيوية لإعادة إنتاج العبودية وشرعنتها معتمدةً على تسخيف المجتمع للعمل المنزلي. قوانين انتقال الجنسية إلى الأطفال والطفلات أو الزوج من المواطنة المتزوجة من أجنبي في معظم الدول العربية لا تزال مجحفة بحقها. وعلى الرغم من حقها في التصويت، إلا أنها لا تزال محرومةً من كمال مواطنيتها. حتى ضمن دوائر الأنشطة والتظاهرات التي تطالب بعدالة اقتصادية واجتماعية، أو تغيير سياسي معين، تتعرض النساء للتحرش والتهميش، وتوضع أصواتنا ومطالبنا في جارور الثانويات.
بشكلٍ صريح، لا زلنا نفتقر للسيادة على أجسادنا، فحقوقنا الجنسية والإنجابية تخضع لقوانين وأعراف وتقاليد تلعب بنا كالدمى وتحاسبنا بالعصا. بطبيعة الحال، لا زلنا غاضبات أيضاً، ولا زلنا نعرّف عن أنفسنا كنسويات. وبطبيعة الحال، لا زال الردّ على النسوية عنيفاً، والمصطلح بحد ذاته يثير غضباً.
لماذا إذاً، مع كل الصعوبات والتحديات والقمع المسلط على النساء، لا تزال كلمة “النسوية” تثير خوفاً، وتقابل النسويات بالكره؟
النسوية تمسّ بالمقدسات الدينية والاجتماعية والثقافية
تدعو النسوية إلى التحرر من الأبوية. ومصطلح الأبوية يشير بشكلٍ واضح إلى مصدر السلطة الذكورية في العائلة، ممثلة رمزياً بالأب. والعائلة هي الكينونة المصغرة عن الدولة.
فالسلطة، كما نجدها ممثلة برموز وشخصيات معينة في الحكومة ورجال الدين الذين يسهرون على حماية القوانين الطائفية، نجدها موجودةً عادةً في يد الرجال في العائلة. لذلك، التحرر من الأبوية يعني بالضرورة مسائلة شكل العائلة والدولة وتوزيع القوى فيها. المسائلة تدعو إلى التغيير، والمجتمعات عادةَ تتردد عند الحديث عن تغييرٍ جذري في نظامها الاجتماعي.
فنحن نعي اليوم أن قدرتنا على الانتخاب أو دخولنا إلى المدارس والجامعات ليس كافياً لتغيير واقع الاضطهاد الذي تعيشه غالبية النساء. وأن القوانين قد تحد من بعض العنف، لكننا لن نرى تغييراً جذرياً إذا لم نغيّر في المفاهيم والمقدسات التي عززت السلطة الأبوية عبر الزمن.
يخاف بعض الرجال من خسارة امتيازاتهم
مع أن الذكورية تحد من تصرفات الرجال غير المعيارية وتفرض عليهم أنواعاً مختلفة من المسؤولية من دون سماحها لهم بالتعبير بطريقةٍ إنسانية ومقبولة، لكنها تعطيهم امتيازاتٍ وسلطة على محيطهم سيخسرونها مع زوال الأبوية. الأمر مخيف خصوصاً بالنسبة إلى الرجال المعياريين الذين يستمتعون بتلك السلطة ويجدونها طبيعية، فيستفيدون منها مادياً وقضائياً وجنسياً وسياسياً.
حتى عند الرجال المؤمنيين بضرورة التغيير أو الذين يرون أثر الذكورية السلبية على حياتهم، هناك تردد وخوف من الحديث عن تلك الأمور بصوتٍ عالٍ لما سيتلقونه من استهزاءٍ وعنفٍ أحياناً.
طالما الرجولة مرتبطة بشكلٍ وثيق بالسلطة اجتماعياً، سنظل نجد رجالاً يرددون كلاماً كارهاً ومستحقراً بالنسويات، ليحموا ما تبقى لهم من امتيازات.
“النسوية استيراد غربي”
مثلما تمّ تخوين لجين، يتم تخوين عمل النسويات في منطقتنا بشكلٍ يومي، وربطه بأجندات غربية لـ”تخريب أخلاق مجتمعاتنا”. للأسف، كما في بقية علوم الإنسانيات، نعتمد بشكلٍ كبير على أعمالٍ ليست وليدة العالم العربي بالضرورة، حين نتعلم ونطور العمل النسوي. والسبب في ذلك أن الكثير من البلدان سبقت منطقتنا في التنظيم النسوي.
ففيما كانوا يطالبون بحق الانتخاب خارجاً، كنا نعاني من شتّى أنواع الاستعمار. كما أن اعتماد العديد من المنظمات غير الحكومية على التمويل من بلادٍ أجنبية، يجعل تهمة التخوين أسهل لصقاً. وإن دل ذلك على شيء، فهو أن حكوماتنا تفشل في سياسات تمكينها لعمل النساء وتجعلنا عرضةً للاعتماد على منظمات تمويل عالمية.
تهمة الhستيراد الغربي مخيفة بسبب ماضينا وحاضرنا مع تحكم قوى خارجية في نظامنا السياسي والاقتصادي، والتشبت بالقيم المحلية في وجه تلك التدخلات. لذلك، علينا أن نذكّر أن منطقتنا مليئة بالتحليل النسوي المبني على واقعنا الاجتماعي هنا، ولدينا مدارس في الفكر النسوي وليدة الظروف الدينية والثقافية الخاصة بنا.
كما أن التاريخ يثبت لنا أنه كلما كان هناك قمع لمجموعة معينة، ستتمرد تلك المجموعة عاجلاً أم آجلاً، فلسنا بحاجةٍ إلى تحريض من الخارج لنعي أهمية الحرية.
لتلك الأسباب وأكثر، نجد أنفسنا بحاجةٍ لتبرير أحقية النسوية بشكلٍ يومي في مواجهة محاولات الشيطنة والتخويف.
فمن نساء لا يرين القمع كمؤسسة أبوية لأنهن لا “يعانين” في حياتهن، لرجال يختزلون عملنا النسوي بغضبنا واتهامات كرهنا للرجال، يصبح من الضروري أن نخصص جزءاً من عملنا لتغيير المفاهيم وتفكيك الأفكار المغلوطة، إذا امتلكنا الطاقة لفعل ذلك.