النساء .. بين المناخ والبيئة
لا شك في أن التداخل بين واقع المناخ والبيئة والأوضاع الأمنية والحروب بات أكثر وضوحاً مؤخراً. ولكن ماذا عمّا تخلّفه أزمة المناخ من آثار جندرية في مجتمعاتنا؟
قد يعتبر البعض أنه من المبالغ به مقاربة الكوارث الطبيعية وتبعاتها من منظور جندري. إلا أنه في كثير من هذه السياقات، تكون النساء أكثر عرضةً لتأثيرات تغيّر المناخ من الرجال، كونهن يشكلن غالبية فقراء العالم ويعتمدن في معيشتهن على الموارد الطبيعية التي تهددها هذه التغيرات.
المناخ والبيئة .. التسلسل الهرمي الاجتماعي والهيمنة على الطبيعة
نقف منذ سنوات على مفترق طرق. فجميع المؤشرات تدلّ على أن العالم الطبيعي في مأزق. ولا تزال حتى الآن المياه تتدفق والمحصول شبه طبيعي.
لكننا نغض النظر عن موجات الجفاف الشديدة والمتكررة، وموجات الحرارة، وحرائق الغابات في أجزاءٍ من العالم. وزيادة الفيضانات وارتفاع منسوب المياه في أجزاء أخرى، وفقدان الكثير من الكائنات الطبيعية النباتية والحيوانية.
لا يختلف اثنان على أن المسؤول المباشر عن التغيّر المناخي هو الإنسان. لكن الجميع ليسوا مسؤولين بالقدر نفسه. البلدان الغنية والقوية والسياسيين والأثرياء، وأولئك الذين يملكون نفوذاً وسلطةً في الحكومات والشركات الكبيرة، هم المسؤولون المباشرون.
فبحسب دراسة نشرها مشروع الكشف عن الكربون CDP، فإن 71% من انبعاثات غازات الدفئية العالمية التي تسبب الاحتباس الحراري منذ عام 1988، مسؤولة عنها 100 شركة فقط. في المقابل، تتحمل الفئات المهمشة والأطفال والطفلات والنساء والفقراء العواقب.
باختصار، نعيش في ظل نظام اقتصادي مبني على استغلال الموارد البشرية والطبيعية بهدف مراكمة الأرباح، ما يضاعف الضرر الذي يلحق بالناس والكائنات الأخرى.
بينما نحن مشغولون في حياتنا اليومية، ننسى مدى تشابك محيطنا مع الواقع. فيبدو لنا أن العالمين الاجتماعي والبيئي مختلفان تماماً، لكنهما في الواقع يعتمدان على بعضهما البعض.
لا نعي دائماً أن الكوارث البيئية تفاقم الظلم الاجتماعي وتلحق الضرر بالذين لا يملكون/ن المال والقرار. أولئك الذين يتم استغلالهم/ن وتهجيرهم/ن وتهميشهم/ن وقتلهم/ن لتركيز الثروة في يد الأقلية.
وقد عمد النظام على مدى سنواتٍ طويلة على خصخصة وتسليع وتدمير الموارد الطبيعية والاجتماعية، الأمر الذي جعل الوصول إليها مستحيلاً ومكلفاً.
النسوية البيئية
نعيش في ظل نظامٍ هرمي، أبوي، رأسمالي، يستغل البيئة والنساء. وأدت العقلية الهرمية والعلاقات الطبقية التي تتغلغل في مجتمعاتنا إلى ظهور فكرة السيطرة على العالم الطبيعي كما السيطرة على النساء.
وبالتالي، من يقومون بممارسة القمع الجنساني والهيمنة العرقية، ناهيك عن استغلال العاملين والعاملات، هم من يحدّدون مستقبل العالم الطبيعي بالرغم من كل محاولاتنا للحفاظ على البيئة والمناخ.
لطالما أُبعدت النساء عن مواقع اتخاذ القرار في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني، وعلى الرغم من أن مشاركتهن في صنع القرار ارتفعت في العقود الأخيرة، إلا أن تمثيلهن لا يزال محدوداً مقارنةً بالرجال.
فشكّلت مشاركة النساء نسبة 33% فقط في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي عام 2021 ، كما كان الحال في عامي 2020 و2019. وهذا يدل على عدم إحراز تقدمٍ كبير في تمثيلها.
هنا، تجدر الإشارة إلى أن العدد وحده ليس مؤشراً كافياً، إنما التمثيل يجب أن يشمل جميع الأنواع الاجتماعية بعيداً من ثنائية الجنس. بالإضافة إلى ذلك، قد لا تكون الكوتا وحدها كافية لمعالجة مشاكل متعددة كالتمثيل الناقص واستبعاد الفئات الفقيرة والخطاب الليبرالي الذي يخدم الأقلية الحاكمة.
يؤثر التغيّر المناخي على النساء والرجال بشكلٍ مختلف، فالمسؤولات عن جمع وإنتاج الطعام وتجميع المياه، وتوفير الوقود للتدفئة والطهي هن النساء.
ومع تغير المناخ، تصبح هذه المهام أكثر صعوبةً، ما يعيق عملهن ويعرّضهن لمخاطر عديدة. وبحسب تقرير منظمة الغذاء العالمية، توفر النساء نحو 80% من مجموع الأغذية النباتية البرية التي تم جمعها في 135 مجتمعاً مختلفاً معتمداً على هذه المصادر.
وتناضل النسويات البيئيات من أجل تغييرٍ اجتماعي يهدف إلى تحرير الطبيعة والنساء من قمع واستغلال النظام الأبوي الرأسمالي الاستعماري.
قد يتساءل كثيرون لماذا هن مهتمات بهذه المشاكل؟ أو لماذا يقاربن جميع القضايا من منظور نسوي؟ فقد اعتدنا على تصوير النساء على أنهن يهتممن فقط بعوائلهن وأولادهن والأعمال المنزلية غير المدفوعة، بينما في الواقع، تُعنى النساء بكل ما له تأثير على حياة الإنسان بما فيه المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. فهن يعتبرن أنه من غير الممكن أن يتحررن فعلاً في ظل هذا النظام الهرمي الذي يعطي الرجال وأصحاب رأس المال القوة المطلقة للتحكم في النساء والطبيعة.
المناخ والبيئة والانعكاسات على النساء في الوطن العربي
تشهد البلدان العربية منذ سنوات موجات حرارة مرتفعة وتغيراً متواصلاً في كمية الأمطار وتوزيعها، ويقدّر أن ترتفع درجات الحرارة في الشرق الأوسط بمعدل ضعفي المتوسط العالمي.
وبحلول عام 2050 ستكون أكثر دفئاً بمقدار 4 درجات مئوية مقارنةً بـ1.5، أي الحد الأقصى الذي وضعه العلماء لإنقاذ الكوكب.
يترافق ذلك مع انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية فضلاً عن زيادة الصراعات ونزوح ولجوء عدد كبير من المشردين/ات.
في سوريا، أدى الجفاف إلى ندرة المياه ما أثر على الإنتاج الزراعي في المناطق الريفية، والنزوح القسري الناجم عن تغير المناخ بالإضافة إلى عوامل أخرى كظلم النظام والفقر والانقسامات العرقية. جفافٌ يضاف إلى كل هذه الضغوطات التي سرّعت في اندلاع الثورة.
ليست الآثار المتداخلة لتغيّر المناخ والنزاعات محايدة في ما يتعلّق بالجنسين. فنساء الثقافات والطبقات الاجتماعية المهمّشة، يواجهن تحدياتٍ كثيرة. فتزيد مثلاً أعباء الرعاية التي يتحملنها نتيجة تفاقم الآثار الصحية الضارة. ويواجهن تحدياتٍ أخرى عديدة في تأمين سبل العيش والحفاظ على أمنهن الشخصي حتى تصل إلى مرحلة يفقدن فيها قدرتهن على تأمين احتياجاتهن، ما يجعلهن أكثر عرضةً للعنف المبني على النوع الاجتماعي.
كما تعاني النساء في الكثير من البلدان من التمييز على أساس النوع، ويمنع عليهن تملّك الأرض والممتلكات، ما يجعل وصولهن إلى الموارد أصعب. وحتى في حال سمح لهن القانون باستملاك أراضٍ، لا تطبّق في معظم الأحيان نظراً لانتشار القواعد العرفية والتقليدية أو الدينية.
وعلى الرغم من أنهن يلعبن دوراً نشطاً في استخدام وتوزيع وإدارة الموارد داخل المنزل، إلا أن الممارسات الثقافية والاجتماعية في المنطقة العربية لا تزال تعزز سيطرة الرجل على الموارد وملكيتها. ويبقى من الضروري الإشارة إلى أنه يجب إعادة النظر بالملكية الفردية للأراضي سواء كان المالكون رجالاً أو نساء، لتوفير الحماية لجميع العاملين والعاملات فيها.
الإيكولوجية الاجتماعية
نظراً لأن الماء النظيف والهواء النقي والتربة الصحية تشكل أسساً للحياة، يمكن القول إن البيئة هي قضية سياسية بامتياز. من هنا يأتي مفهوم الإيكولوجية الاجتماعية، التي تنظر إلى جميع المشاكل البيئية على أنها مشاكل اجتماعية.
وبحسب الكاتب والفيلسوف الأميركي موراي بوكشين، فإن “هيمنة البشر على الطبيعة تنبع من هيمنة البشر على البشر”. فهو يعتبر أنه من دون تغيير العلاقات في المجتمع بين الرجال والنساء، والبالغين/ت والأطفال والطفلات، والبيض والمجموعات العرقية الأخرى، والمغايرين جنسياً والمثليين/ات لا يمكن حل مشكلة الهيمنة.
علينا أن نخلق مجتمعاً عقلانياً أخلاقياً تحررياً ولامركزياً ليقرّر الناس مصيرهم/ن من خلال الديمقراطية المباشرة.
ويعتبر في هذا السياق، إقليم “روج آفا” في سوريا مثالاً لافتاً للاطلاع عليه. فعلى الرغم من وجود بعض الانتقادات، إلا أنه أوّل تجربة حكمٍ ذاتي في منطقة الشرق الأوسط، يتم التصويت فيه بشكلٍ مباشر على القرارات وتنفيدها بطريقةٍ ديمقراطية. وتتم حماية البيئة الاجتماعية لهذا النظام من خلال تعزيز مشاركة النساء والاعتراف بقدسية الطبيعة.
وقد أُنشِئَت فيها مبادرات بيئية عدة أدت إلى زيادة فرص الوصول إلى الموارد الطبيعية للسكان، وتَوصلت الجهود المبذولة إلى الحد من الفقر من خلال الإيكولوجية الاجتماعية. هكذا قدّمت لبقية العالم نموذجاً لمستقبلٍ نسوي أخضر ومستدام، يتحدّى التسلسل الهرمي الأبوي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي السائد.
الرأسمالية الخضراء
غالباً ما تروّج الشركات التجارية لمستحضرات ومنتجات معينة على أنها مستدامة وصديقة للبيئة لخداع المستهلكين/ات بهدف زيادة الطلب عليها ومضاعفة أرباحها. فـ”الغسل الأخضر” أو ما يعرف بالـ”Greenwashing”، هي تقنية تستخدمها الشركات لإسكات المنتقدين/ات البيئيين، وإخفاء الممارسات غير الأخلاقية وغير المستدامة عبر تقديم معلومات مضلّلة حول سياساتها الصديقة للبيئة.
ويقع ضغط تغيير عادات الاستهلاك لإنقاذ البيئة في معظم الأحيان على كاهل وجسد النساء. ففي حين أن الشركات والمعامل والطائرات المملوكة بغالبيتها من الرجال هي من أكبر ملوثات العالم، تتحمّل النساء عبء الحفاظ على البيئة. فينبغي عليهن مثلاً استبدال منتجات الدورة الشهرية ومستحضرات العناية بالبشرة التي اعتادوا على استعمالها بأخرى تُسوّق نفسها على أنها آمنة للبيئة وغيرها الكثير من الأمثلة.
تغيير عادات الاستهلاك أساسي، لكنه من غير المقبول الاعتقاد بأن النظام الحالي نفسه الذي تسبّب في أزمة المناخ يمكنه أن يجد الحلول المستدامة. فتشير الرأسمالية الخضراء إلى التعايش بين نموذج النمو الاقتصادي اللامتناهي والموارد المحدودة لكوكبنا. ويتم إيهامنا بأن الشركات توجّه الاستثمارات المالية إلى مشاريع الاستدامة والطاقة المستدامة من أجل الحفاظ على البيئة.
باختصار، لن يكون هناك حلّ طالما يتم التعامل مع الاستدامة كسلعة وينظر إليها على أنها ثانوية للنمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج والاستهلاك. فضلًا عن ذلك، ستتفاقم الأزمة البيئية العالمية ما لم يتم إشراك النساء والطبقات المتضررة بشكلٍ مباشر من تداعيات المناخ في صنع القرار.
نحو صفقة عالمية خضراء نسوية
“الصفقة الجديدة الخضراء” أو ما يعرف بالـ”Green New Deal” هي تشريع مقترح في الولايات المتحدة الأميركية يهدف إلى معالجة التغيرات المناخية إلى جانب تحقيق أهداف اجتماعية أخرى مثل خلق فرص عمل والحد من عدم المساواة الاقتصادية. إلا أنها لم تتطرّق إلى المسؤوليات التاريخية غير المتكافئة لمختلف البلدان والطبقات والأجناس.
وهكذا وجدت “الصفقة الجديدة الخضراء العالمية النسوية وغير الاستعمارية” لتطالب بتعويضات عن أضرار انبعاثات الكربون التاريخية، والخسائر التي لحقت بالبيئة والمجتمعات على مدى قرون من الدول العظمى المسؤولة عن هذه الكوارث.
تدرك النسويات ضرورة فهم الروابط بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية والعمل مع البلدان الأخرى للتخفيف من تغير المناخ وتعزيز السياسة الخارجية النسوية التي تخدم الناس ومجتمعاتهم/ن. كما يرفضن الاستجابات الخاطئة والضارة لتغير المناخ التي تفشل في معالجة الأسباب الجذرية، ويعتمدن التقاطعية في معالجة المشاكل نظراً لتأثر كل مجموعة من الفئات المختلفة بشكلٍ مغاير بناءً على الاستغلال المنهجي. فلا بد من التحول من خصخصة وتسليع الموارد إلى نماذج متجددة ومستدامة وتعاونية وجماعية.
باختصار، تقود النساء الخطوط الأمامية من أجل تحقيق العدالة المناخية. فعلى الرغم من أن حل أزمة المناخ يتطلب تحولاً اجتماعياً جذرياً وثورة إيكولوجية، فإننا بالتضامن ونشر الممارسات المستدامة ومعالجة التفاوتات الجندرية والطبقية يمكننا أن نصنع فرقاً. فمن المستحيل انتظار تغيير النظام لمعالجة المشاكل البيئية، الطبيعة لن ترحمنا.
ومن دون مساواة بين الجنسين يبقى المستقبل المستدام والعادل صعب المنال.
كتابة: أليس كفوري