من “همّ البنات للممات” إلى “نعم أنت وكيلي”.. مبادرات حقوقية لإيقاف جريمة تزويج الطفلات
في “نعم أنت وكيلي” الأولى، لم أكن أميّز بعد، أنا الطفلة ذات الـ14 عاماً، أن هذه “الوكالة” هي اعترافٌ ضمنيّ بـ”عدم أهليتي” القانونية لتولّي “أحوالي الشخصية”. وأنني أتعرّض لانتهاك اسمه تزويج الطفلات.
كان لا بد من وسيطٍ “ذكر”. ليس لأنني طفلة فقط، وإنما لأنني فتاة شاء القدر أن تولد في مجتمعٍ أبوي يقونن ويشرّع جريمة تزويج الطفلات.
الأكثر خطورةً في تلك الوكالة، أنها كانت موافقة على الدخول في أهمّ وأقدم مؤسسة وأكثرها تعقيداً وتأثيراً على المجتمعات؛ “الأسرة”.
أصبحتُ أنا الطفلة، غير المؤهلة قانونياً للكثير من الحقوق المدنية، التي لا تملك شرعياً حق الولاية على شؤونها بعد وفاة والدها: “متزوجة” شرعياً، و”متأهّلة” قانونياً و”جاهزة” لتأسيس عائلة عرفياً.
على أيّ حال، رفضي المتكرّر للـ”عريس” لم يثنه عن التقدم لطلبي. كان يكفيه أن لا يبدي أحداً من أولياء الأمور -الذكور- رفضه.
حتى أنه لم يأبه لمصارحتي له بأنني أتعرض لضغطٍ معنوي للقبول. “ستحبينني في ما بعد”، قالها لي معرباً عن إصراره، رغم محاولات استفزازي المتكررة له بنفوري منه، علّه يخجل من نفسه، ويَعدل عن فكرة “طلب يدي”.
“همّ البنات للممات”. هكذا يفترضن/ون. لذا كانت ضريبةُ اليتم المبكر، البحث عن “ذكرٍ” يخففّ هذا “الهمّ” المتجسّد بـ”الولاية على الفتيات” عن والدتي الأرملة حديثاً.
أقصى ما كنت أستطيع فعله كطفلة لم يقوَ عودها بعد هو “تطفيش/طرد العريس” مواربةً.
قاصرة تتعرّض لابتزازٍ معنويٍ لتتحمّل مسؤوليةً لا تعرف عنها شيئاً. حينها، لم يكن أمامي سوى قشّة الاستفزاز لأتمسّك بها، وتضليل تمرّدي بالضغط على الطرف الآخر علّه ينسحب.
لم يفعل!
لم يقتنع بأنني شعرت كما لو أنني على مشارف اغتصاب لا زواج! وهكذا حصل.
إلى من تلجأ طفلة مُكرهة، ولو معنوياً، على الزواج؟ ثورتي الخضراء لم تكن بالنضج والإمكانيات الكافية بعد.
الهروب إلى بيت جارتنا لم يثمر عن شيء أكثر من التعاطف. حجم الوعي بخطورة التزويج المبكر، لدى محيطي العائلي والاجتماعي والتربوي والأكاديمي والديني، لم يكن حاضراً بالشكل الذي يدفعني إلى طلب المساعدة.
العجز الذي اعتراني حينها، في مواجهة الابتزاز العاطفي، فاق قدرتي اليافعة على التمرد.
زواجٌ عن سابق إكراه من رجلٍ يكبرني بنحو 20 عاماً. مرحلةٌ قصيرةٌ، أكثر ما أذكر منها طفولتي وجسدي المنتهكين.
على أي حال، وقع عقد الزواج، ووقعتْ معه براءتي. وعرفت حينها أنه في المجتمعات الأبوية، حين يغيب الولي “الجبري” يصبح الكلّ وليّاً على أمور الفتيات والنساء ووصيّاً عليهن.
أفرز لنا الجحيم الأبوي أولياء -قانونيين وعرفيّين- بالجملة. وما علينا إلا انتظار توقيع ذكر جديد على صك “ملكية” الولاية.
منذ ذلك الحين بدأت نقمتي على السلطة الأبوية. ومنذ تلك اللحظة أشهرت سيف التمرّد على أزلام هذه المنظومة وجواريها.
حملةٌ من رحم القضية وبقيادة صاحباتها.. “النساء الآن” تدعم مبادرة “لا تكبرونا، بعدنا صغار” لمنع تزويج الطفلات
من هذا الواقع المُشرِّع للاعتداءات السافرة على الطفولة، أطلقت حملة “لا تكبرونا، بعدنا صغار” صرختها في وجه ظاهرة تزويج الطفلات والأطفال في سهل البقاع الأوسط، في لبنان.
الحملة التي تدعمها منظمة “النساء الآن” من أجل التنمية، بالشراكة مع مؤسسة “أهل” للتنظيم المجتمعي، تقودها مجموعة من صاحبات وأصحاب القضية -بغالبية نسائية- من المتأثرات/ين بظاهرة التزويج المبكر.
وهي لا تقتصر على لبنانيين/ات فقط، بل تشمل ناشطات وناشطون من المجتمعات السورية والفلسطينية القاطنين في سهل البقاع.
تؤمن منظمة “النساء الآن” بأن لـ”صاحبات القضية دوراً ملهماً في قيادة حملات التغيير تجاه قضاياهنّ”. وما يميّز “لا تكبرونا”، بحسب مستشار التنظيم المجتمعي في المنظمة أنس تللو “أنها ليست تقليدية. فبدل خضوع النساء من أهل القضية مباشرةً لقيادة المنظمة، تم تهيئتهنّ ليضعن بأنفسهن استراتيجية لقيادة التغيير”.
فمن المهمّ جداً، وفق أنس أن “تؤمن المنظمات -خصوصاً النسوية– بقدرتهن على قيادة التغيير بدل احتكار هذه الوكالة”.
من ناحيتها، شرحت المنسقة العامة للحملة صفاء سلات الاستراتيجية التي تم وضعها بالاعتماد على أهل القضية. وتضمنت 4 مراحل. بالإضافة إلى التكتيكات المتبعة بناءً على آرائهم/ن.
تخلّلت المرحلة الأولى استبياناً لدراسة الظاهرة ومدى خطورتها على المجتمع، وتحديد الأطراف القادرين/ات على المساعدة بالحل.
بينما أشارت إلى أن “المرحلة الثانية تضمنت تكتيك الجلسات المنزلية، التزمت خلالها 1000 عائلة من أصل 2000 بتعليق شعار الحملة على جدران منازلهم/ن الخارجية كتأكيد علني وإظهار للمحيط رفضهم/ن تزويج الفتيات والفتيان تحت سن 18. وتضمنت حملة استماع، استهدفت 500 عائلة ناقشت معهم/ن الظاهرة وأسباب تفشيها”.
وأوضحت أن المرحلة الثالثة خرجت بـ”تكتكيك الآباء الشجعان. إذ حشدنا خلال المرحلة الأولى الرجال المناصرين لنا، وبلغ عددهم 140 رجلاً قاموا بترويج مبادئ الحملة في الدائرة المحيطة بهم”.
وخضعوا، في المرحلة الثالثة لـ”تدريب على مهارات التواصل، وساعدونا على تحقيق هدفنا بخفض نسبة تزويج الطفلات/الأطفال بمعدل 30% في البقاع الأوسط. فتم إيقاف 60 حالة خطوبة، وتأجيل 50 حالة لبعد سن الـ18، بين الجنسين. كما تعهدت 110 عائلة بعدم خطبة طفلاتهم/ن”، بحسب ما قالت صفاء.
واللافت بحسب المنسقة العامة للحملة أن “بعض الشبان الذين كانوا قد أجروا خطبتهم بالفعل على فتيات دون سن الـ18، وقعوا التزاماً بعدم الزواج قبل تجاوز الفتيات هذا السن”.
وأشارت إلى أنه “في حال لجوء فتاة تتعرض للضغط لتزويجها من قبل ذويها، نحيلها إلى قسم الحماية لدى منظمة النساء الآن، حيث يوجد فريق متخصص يتولى متابعتها”.
أما المرحلة الرابعة فشملت “حملة توقيع على وثيقة للتعهد بالالتزام بأهدافها. وحملة استماع ثانية لـ322 عائلة أخذنا بآراءهم/ن في آليات تطوير نشاطنا، لكي نبني على أساسها تكتيكات للمرحلة الخامسة”، بحسب ما أكدت صفاء.
في مواجهة الأزمات وتداعياتها.. هكذا وُحّدت الجهود والمبادرات لمناصرة الفتيات ومناهضة تزويجهن المبكر
أزماتٌ متكدّسة، اقتصادية وصحية واجتماعية وسياسية، خلقت ذرائع جديدة لهذه الممارسة، وفاقمت خطورتها.
في هذا الصدد، أشار أنس إلى أنه “في ظلّ عدم وجود مواجهة قانونية حقيقية، أوجدت الأزمات المتتالية موجةً جديدةً من الأسباب التي تدفع الناس إلى التخلص من مسؤولية أطفالهن/طفلاتهن عبر التزويج. ناهيك عن الخوف من الاعتداءات الجنسية في المناطق والمخيمات المكتظة، وعدم توفر مساحات آمنة للفتيات، خصوصاً في ظل التسرّب التعليمي بين أوساطهن وهاجس الأهل من أن ينخطرن في علاقات عاطفية”.
من ناحيتها، أشارت مديرة التأثير والمناصرة في منظمة “بلان إنترناشيونال” المعنية بحقوق الأطفال والطفلات، راشيل شليطا، إلى أن “آخر الدراسات التي أجرتها الجمعيات المناهضة لتزويج الطفلات كشفت أرقاماً مخيفة لتزايد الظاهرة، بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية التي زادت من الحاجات المعيشية لبعض العائلات اللبنانية واللاجئين/ات في لبنان”.
واقعٌ يستدعي “دق ناقوس الخطر”، بحسب راشيل، “إذ كلما زادت الاحتياجات المادية والمعيشية للعائلات التي لا تستطيع تأمينها، سيلجأ رب العائلة إلى حلولٍ سلبية، سواء عبر إيقاف أطفالهم/ن وطفلاتهم/ن عن المدرسة وإرسالهم/ن إلى العمل، أو اللجوء إلى حل التزويج المبكر لتخفيف الأعباء. ونعتبر أنه ما من حل للحد من هذه الظاهرة قبل وضع أطر قانونية تمنعها”.
من هنا، اتفق كل من راشيل وأنس على ضرورة “تكثيف الجهود للضغط على البرلمان لسن قانون لمنع التزويج قبل سن الـ18 عاماً من دون منح أي استثناء للقضاة، وهذا يعد من أولويات حملات المناصرة”.
وكشفت راشيل أن هذه الحملات “ستزيد بالتعاون مع شركاء/شريكات محليين/ات مثل التجمع النسائي الوطني الديموقراطي ومؤسسة عامل وغيرهما، للضغط على البرلمان الجديد. إذ تم رصد مبلغ لإعادة جمع الجمعيات الصديقة والمناصرين/ات، لتشكيل حملة ضغط كبيرة في الأشهر المقبلة، من ضمنها حملات على مواقع التواصل الاجتماعي وتحركات على الأرض”.
وحول آليات هذه الحملات للمساهمة في تطويق هذه الظاهرة، كخطوةٍ مبدئية في سبيل تجريمها، توجّهت الخدمات في “بلان إنترناشيونال” نحو “المنع أكثر من الاستجابة”.
في هذا السياق، أشارت راشيل إلى أن “الخدمات ركّزت على التوعية، وتعزيز المهارات الوالدية الإيجابية”.
وأضافت: “لدينا ما يسمى إدارة الحالة، نقوم بمساعدة بعض العائلات بشكلٍ مؤقت بحسب خطورة كلٍ منها، لتجاوز مرحلة الخطر وإيجاد الحلول البديلة. كما نتابع مع شركائنا/شريكاتنا المحليين/ات المتواجدين/ات على الأرض”.
ووضعت منظمات عدة على مستوى المنطقة خطتها واستراتيجيتها، كلٌّ وفق رؤيتها، في سبيل الحد من تفشي هذه الآفة.
فتبنت مجموعة من المنظمات قضية مناهضة تزويج الطفلات وأطلقت مبادرات في سبيل الضغط على الجهات المؤثرة للحد منها، وخلق بيئة رافضة لاستمرارها.
ووفقاً لرؤية “النساء الآن” حول خطط الوقاية من الظاهرة، أوضح أنس أنه “منذ عام 2014 عملت المنظمة في مخيمات البقاع على 4 برامج أساسية؛ هي التمكين المعرفي والمهني، الحماية، المشاركة، والمناصرة”.
وأوضح أن برنامج التمكين حاول شغل الفتيات الخارجات من التعليم بمهن ومعارف ومهارات تعليمية بهدف تطوير مهاراتهن الحياتية، وصنع فرص عمل، لتجنّب دفعهن من قبل أهلهن للزواج.
بينما تخلّل برنامج الحماية، بحسب قوله، “جلسات دعم نفسي فردية وجماعية للنساء وللفتيات. وتوعية حول الصحة الجنسية والإنجابية والصحة العامة. وجلسات توعية حول خطورة التزويج المبكر”.
وسعى برنامج المشاركة نحو تعزيز مشاركة الفتيات في الحياة العامة، وتعزيز فرص وصولهن وقيادتهن للفضاء العام.
في حين دعمت المنظمة، عام 2019، من خلال برنامج المناصرة حملة “لا تكبرونا بعدنا صغار” لمناهضة تزويج القاصرات/ين في البقاع.
وأكّد أنس أن ما دفعهم/ن لدعم الحملة “إظهار الكثير من الأمهات معرفتهن بالمخاطر الصحية والاجتماعية والنفسية لهذه الآفة. في حين شدّدن على ضرورة أن يتوجه العمل نحو الرجال/ الآباء، لأنهم أصحاب القرار في المجتمعات الأبوية”.
واعتبر أن “أي تغيير في هذا السياق، يُبنى على 3 أسس؛ القوانين، السياسات، والحركات الاجتماعية”.
في سياقٍ متصل، وجّهت منظمة إنقاذ الطفل في لبنان مشروعها لمناهضة تزويج الطفلات/ الأطفال، إلى نحو 3 مستويات، بحسب ما أكدت مديرة الحملات والمناصرة في المنظمة شيرين مكارم.
يركز المستوى الأول، وهو المستوى الفردي، على تقديم رعاية للطفل/ة من خلال إدارة الحالة مع ضمان أن تكون الأدوات عملية ومتلائمة مع حماية الأطفال/ الطفلات وتتناول طرق مكافحة زواجهن/م و/أو تقديم خدمات إداة حالة مناسبة للفتاة القاصر التي تم تزويجها.
أما المستوى الثاني، فيتوجّه، بحسب شيرين نحو الوالدين ومقدمي/ات الرعاية. فتحرص اللجنة العليا على دعم النمو الصحي للأطفال/ات ولعب دور مهم في تحديد مخاطر مسببات التزويج والتخفيف من حدتها.
بينما يكون المستوى الثالث، المجتمع. فتستهدف اللجنة العليا أصحاب/صاحبات المصلحة وأعضاء/عضوات المجتمع الرئيسيين/ات، بما في ذلك الشخصيات الدينية، من خلال أنشطة التوعية التي تركز على حقوق الأطفال/ الطفلات، وقضايا حمايتهن/م، والأثر السلبي لتزويجهن/م أو عمالتهم/ن.
من هذا المنطلق، شددت شيرين على أن “قسم الوقاية يركز على استراتيجيات التوعية لضمان 3نقاط. أولاً التركيز على العمل مع الأطفال/الطفلات المعرضين/ات للخطر والضعفاء/الضعيفات. ثانياً نقاط الدخول المجتمعية للوصول إلى الفتيات والفتيان، وثالثاً خطوات التوعية وأفضل طرق تطبيقها”.
اليونيسف: 1 من بين كل 5 فتيات سوريات في لبنان تم تزويجن قبل بلوغهن 18 عاماً!
مع تزايد الأزمات اللبنانية المدمرة، بدءاً من الأزمة السياسية، مروراً بأزمة تفجير المرفأ، وبعدها جائحة كورونا، وما ترافق معها من تداعيات اقتصادية ومالية واجتماعية وبيئية خطيرة، ارتفع عدد الأطفال/ات الذين/اللواتي يعانون/ين من سوء المعاملة والعنف والاستغلال بشكلٍ هائل.
حقيقة أكدتها منظمة اليونيسف العالمية، خصوصاً مع فقدان العملة المحلية قيمتها بشكلٍ هائل، ما تسبب بتضخمٍ كارثيٍ وبطالةٍ كبيرة.
فأدت الأزمة إلى سقوط أكثر من 80% من السكان في براثن الفقر، ما دفعهم/ن إلى البحث عن آليات بديلة للبقاء على قيد الحياة من دون أساسيات العيش، بحسب المنظمة.
وأشارت في تقريرٍ لها إلى أنه “مع اشتداد اليأس والفقر، تزيد مساعي الأسر لاعتماد آليات التأقلم الخطرة”. ولفتت إلى أنه “وفق إحصائيات عام 2021، يعاني 1.8 مليون طفل/ة في لبنان من الفقر متعدد الأبعاد، وهم/ن يعيشون/ن في أسر يرجّح أن تلجأ إلى آليات خطرة لتنقذ نفسها من الخطر المدقع وتتمكن من تغطية نفقاتها، إما من خلال عمالة الأطفال/ات أو التزويج المبكر، ظناً منها أنها تؤمن بذلك لبناتها البديل المادي -من خلال المهر- والأمان”.
واعتبرت أن “تزويج القاصرات/ين لا يقل خطورة عن عمالتهم/ن”. بينما أكدت أن “1 من بين كل 5 فتيات سوريات في لبنان، في مقابل 4% من الفتيات اللبنانيات، تتراوح أعمارهن بين 15 و19 عاماً، متزوجات. و33% من الفتيات السوريات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و18 عاماً قلن إن تزويجهن المبكر منعهن من الذهاب إلى المدرسة، مقارنةً بنسبة 0.1% من الذكور”.
إشكاليةٌ خطيرة لا يمكن حصر فرضيات حلّها بالبدائل القانونية. فعلى الرغم من أولوية وأهمية القانون ومفاعيله على هذه القضية، إلّا أن “سنّه ليس كافياً لحلّ الأزمة في ظلّ التخوّف من عدم تطبيقه”، بحسب مسؤولة مكتب حماية الطفل في اليونسف فرح حمود.
نحو تفكير استراتيجي لمعالجة جذور آفة تزويج الطفلات
في مقابلة مع “شريكة ولكن” قالت فرح إن “كل المؤشرات تدل على أن المراهقات لسن بأحسن حال في لبنان، في ظل الأزمات المتعاقبة التي تؤثر على فئات معينة أكثر من أخرى، ولها تأثير خاص على الأطفال/ات”.
وأوضحت أن “حجم الأثر على قطاع التعليم كان ولا يزال لا يبشر بالخير. ما ينذر بالخطر الواقع على المراهقات، اللواتي يستحوذن على نسبة أكثر من عوامل الخطر، ليس فقط على الصعيد التعليمي، بل أيضاً على صعيد فقر الدورة الشهرية والوصول المحدود إلى المستلزمات الصحية”.
وهذه الأرقام المرصودة تكشف ازدياداً خطيراً في الظاهرة، بينما يخشى خبراء/خبيرات أن تكون الأرقام أعلى بكثير.
فتغيير الواقع، بحسب فرح “يتطلب عملاً متكاملاً لحلّ مسببات الظاهرة والعوامل المساعدة على رواجها. بدءاً من السياسات والقوانين، مروراً بوصول الخدمات النوعية إلى المراهقات، خصوصاً في المناطق البعيدة والأطراف، وتغيير السلوك والقيم الاجتماعية المشجِّعة على التزويج المبكر، وليس انتهاءً بإدارة الحالة”.
وهذا التفكير الاستراتيجي يحتاج إلى تظافر جهود الجمعيات المحلية، للعمل على تفكيك وحلّ جذور الأزمة، عبر دمج البرامج المتنوعة المختلفة لتحقيق أقصى استفادة.
عن “فرصتي” و”قدوة”
وبما أن المراهقات هن الفئة الأكثر تأثّراً بالأزمة اعتبرت فرح أن “تمتّعهن بحياة سعيدة وصحية، وامتلاكهنّ للصوت والكلمة، من خلال منحهنّ احتياجاتهن اللازمة، وإمدادهنّ بالمساعدات المادية بهدف تعزيز الحماية لهنّ، والتأكد من وصولهن إلى التعليم والخدمات الصحية، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، وتهيئة بيئة خالية من العنف، وتقديم الخدمات القانونية، كلها أمور أساسية لتقوية فتيات هذه الفئة العمرية وتمكينهن”.
لذلك، وضعت اليونيسف برنامج “فرصتي”، لإعداد استراتيجيات صديقة للمراهقات، وبالتالي خلق أرضية جاهزة لرفض السلولكيات أو القناعات المضرة بحقهن أو المُنتقِصة منهن.
هذا ما ركنت إليه المنظمة في سياستها لمواجهة العديد من الأزمات الاجتماعية، ليس حصراً في مناهضة تزويج القاصرات/ين، وإنما في ملفات أخرى ذات صلة مثل مناهضة العنف ضد الطفلات/ والأطفال والنساء، وظاهرة عمالة الطفلات/ الأطفال.
وأشارت فرح إلى أن “المنظمة تمكنت، من خلال العمل مع جمعيات، كشركاء/شريكات محلييين/ات، ومؤسستين دوليتين، لكل منها مساحتها الآمنة، وبرامجها الخاصة الموجهة للمراهقات، من الوصول إلى 30 ألف فتاة وسيدة، 30% منهنّ مراهقات، حصلن على سلّة متكاملة من الخدمات النوعية والمباشرة”.
كما تمكّنت المنظمة، من خلال استراتيجية “قدوة”، التي أُطلقت لتعزيز تغيير السلوك الاجتماعي، من تأخير تزويج الأطفال/الطفلات أو إلغائها نهائياً.
في هذا السياق، أوضحت فرح أنه “بحسب منظمة كفى، شريكتنا المحلية، تم توقيف 26 حالة زواج كانت على وشك الوقوع في منطقة البقاع”.
ولفتت إلى أن “المنظمات النسوية في البقاع استطاعت التأثير على تزويج طفلات في سوريا أيضاً”، عبر ما أسمته “شبكة مرجعية، تعكس تأثيراً على السلوك المجتمعي، أشبه بالعدوى التي من شأنها تغيير النظرة إلى التزويج المبكر”.
ولا ينفي الوقوف عند مسببات الأزمة الرئيسية، من الفقر، التسرّب المدرسي، النزاعات والحروب، والموروثات الاجتماعية والعرفية والدينية، وغيرها، ضرورة “العمل على مستوى السياسات. من خلال فريق التوجيه والإرشاد. فتتعاون المنظمة مع وزارة التربية لرصد تعرّض الفتيات للعنف بعدسةٍ جندرية، لضمان خلو المؤسسات التعليمية من العنف بحق المراهقات، بالإضافة إلى إحالتهن إلى الجهة المعنية في حال تعرضهن للعنف، أو في حال تزويجهن، أو تركهن للدراسة.
وفي هذا السياق، لفتت فرح إلى أن “المنظمة استطاعت خلال عام 2022 تطوير نظام الإحالة في 10 مدارس، من خلال تكليف مرشدين تربويين من وزارة التربية. ومن المقرر تطويره في 20 مدرسة في العام المقبل”.
تعددية قانونية يجمعها تشريع تزويج الطفلات.. تجاوزات “قانونية” لمصالح “طائفية”
يبقى التعويل على مبادراتٍ تناهض هذه الظاهرة قاصرٌ في ظلّ افتقاد قانون مدني ينظم الأحوال الشخصية للمواطنات/ين.
وفي لبنان، الأنظمة القانونية كما السياسية، أسيرة للمحاصصات الطائفية. وقوانين الأحوال الشخصية الطائفية هي إحدى أبرز معالمها، وأكثرها دلالةً على تسيّد الحقوق الطائفية على المدنية، وضياع المنطق الإنساني في غياهب منطق “التوازنات والمصالح”.
فلطالما كان تزويج الطفلات/ الأطفال مدعوماً بقوانين طائفية تسمح بتزويجهن. ظاهر السماح هو التوافق الشرعي والتطابق مع المصلحة الدينية، إلا أنه من غير المستبعد أن يكون باطنه خدمة المصالح السياسية من بوابة طائفية.
وكمعظم الأحكام المرتبطة بالأحوال الشخصية، تحدّد كل طائفة السنّ الأدنى للزواج الخاص بها، وفق قوانينها الطائفية الخاصة.
إلا أن المشترك بينها، أن غالبية الطوائف ترفق قاعدتها باستثناءاتٍ تشرّع للتزويج المبكر بمسوّغٍ شرعي وقانوني معاً.
هذه الأرضية القانونية التعددية، التي تقودها السلطة المذهبية، والمسيطرة على الأحوال الشخصية، تبرز موقفاً ملتبساً ومتعارضاً مع المادة 505 من قانون العقوبات.
ففي حين تتيح جميع قوانين الأحوال الشخصية زواج القاصرين/ات، تعاقب هذه المادة “العلاقات الرضائية مع قاصر/ة أتمّ/ت الـ15 من عمره/ا ولم يتمّ/ تتمّ الـ18، بالسجن من شهرين إلى سنتين”.
في إطارٍ ذي صلة، أكد أنس تللو أن “الخطورة لا تقف عند حدّ منح الاستثناءات لعقد زواج عند الـ15 لدى المحاكم الشرعية التي يخضع لأحكامها معظم القاطنين/ات في المخيمات والمناطق التي شملتها الحملة. إذ يُسمح للقُضاة في حال توفر الشروط العقلية والنفسية والبدنية لدى الطفل/ة، إجراء الزواج بموجب نصٍّ قانونيٍ نافذ. ما يعني أن تزويجهن/م يحوز على الموافقة الشرعية والقانونية، وهو أمر منافٍ لحقوق الأطفال، والطفلات على وجه الخصوص”.
الاستثناء فادحٌ وخطر، لما يتضمّنه من انتهاك لحقوق الإنسان. إلا أن الأسوأ من ذلك، بحسب أنس، أن “رجال دين عرفيين يسهّلون عقد زيجات عرفية لمن هنّ/م دون الـ15 عاماً لمصالح مادية، من دون أي ملاحقة حقيقية، مع أن هذا الأمر مخالف للقانون”. وشدد على ضرورة “ملاحقتهم وسجنهم”.
وما يزيد من فداحته أنه بذريعة “الشريعة”، تضطر المحاكم الشرعية إلى إثبات الزواج، حتى لا يصنّف على أنه زنا، خصوصاً في حال حدوث حمل.
وفي حال حاوت المنظمة الضغط على المحاكم الشرعية لملاحقة هؤلاء المشايخ، تصطدم بواقع مساهمتها في إضفاء الشرعية لهذا الانتهاك بحق القاصرين والقاصرات.
في هذا السياق، أوضحت صفاء سلات أنه “أثناء محاولة الحملة اتباع تكتيك لملاحقة المشايخ العرفيين، رجعنا إلى المحكمتين الشرعيتين الداعمتين لنا في منطقتي شتورا وبر الياس، التي يخضع لأحكامها غالبية الجمهور المستهدف بحملتنا”.
ولفتت إلى أنه “اتضح صعوبة ملاحقتهم من قبلها وبالتالي صعوبة إيقاف الزيجات العرفية”.
وأكدت على أهمية “الضغط على مصادر صناعة القرار، التي تتمثل بدار الإفتاء العليا في سبيل تغيير هذا الواقع”.
من جهتها، أكدت راشيل شليطا على ضرورة “إجراء جلسات مناصرة محلية مع القادة الدينيين. وأن أي تغيير بهذا الحجم لن يتحقق إلا بشراكة وتعاون كل الجمعيات المماثلة ذات الهدف السامي المشترك، للعمل على الأرض مع الأهل ومع الطفلات، ومع رجال الدين عبر جلسات توعية ومحاورات لكسب تأييدهم”.
واعتبرت أنه “إذا كسبنا تأييدهم، سيزيد حجم التأثير. فإذا وضعنا قانون، ورجال الدين لم يطبقوه، ستتفاقم المشكلة”.
وأضافت: “طالما أننا ليس لدينا قانون موحد مدني يحمي الطفلات، فنحن مضطرون/ات لتوحيد جهودنا مع رجال الدين وكسب تأدييهم، ليكونوا حلفاءنا على الأرض، ويمنعوا تزويج القاصرات”.
من طفلة “مؤهّلة” إلى امرأة “قاصرة”
هل تعلم/ين ماذا يعني تزويج الطفلات؟!
أنا حين سلمتُ “وِكالتي” في طفولتي إلى رجال عائلتي، وبعدهم إلى رجل الدين لإجراء عقد الزواج، لم أكن أعلم معنى الزواج حتى!
فبينما أكاد أجزم نظرتهم القاصرة إليّ كسيدة حرة بالغة اليوم، وأنا في الـ34 من عمري، يؤسفني كيف أن غالبيتهم لم يرفضوا اعتباري مؤهلة للزواج وأنا في الـ14 من العمر!
يجتمع “رجال” أسرتي من وقتٍ لآخر لمناقشة قراراتي التي يقلقهم خروجها عن بيت طاعتهم. لكن لم يجتمعوا يوماً ليبتوا بشأن ميراثي الذي لم أتلقَ سنتاً واحداً منه بعد وفاة والدي.
فأنا كسيدة “قاصرة” في نظرهم عن فهم مصلحتي المعنوية والمادية، التي يقدّرها ذكرٌ ما في العائلة، حتى لو كان لا يفقه الألف من الياء.
بينما أضحك في سرّي وفي العلن على هشاشة سلطتهم التي يبنونها فوق حرياتنا نحن النساء. فنردمها بلحظة تمرّدٍ نتخذها على حين ثورة!
كثيرٌ من الانتهاكات متاحة، ما لم تُثبَت معارضتها للأبوية! حتى لو كان الأمر تركي أتخبّط بين يدي رجلٍ “متمرّس”، تصدمه” براءتي، ونفوري الجنسي”.
في حين أكثر ما يتوقع سماعه من المحيط الذي يروّض الفتيات على الطاعة للجنس الآخر: “تحمّلها قليلاً، ستتعلم مع الوقت، لا زالت صغيرة”.
كنتُ كذلك فعلاً! واحدةٌ بين صغيراتٍ كثيراتٍ اعتبر أولياء أمورهن أنهن جاهزات للزواج. وبسبب هذا التقليد المبارك دينياً، والمدعوم قانونياً، عُلّقت أحلام بعض الفتيات وأمنهنّ وحرياتهن وحيواتهنّ على فستان “الفرح”، لأجلٍ غير مسمى.
لكنني نجوت متأخرة… نجوت من بيت طاعة الزوج “البيدوفيدلي”، والأبوية المشرعنة لها!
ربما لو كانت هذه الخدمات التي تقدمها الجمعيات، والتي تحدثنا عنها متوفرة حينذاك، لكنت نجوت في وقت مبكر. إلا أنها متوفرة اليوم لتعطي أملاً في إنقاذ فتيات كثيرات من جريمة التزويج المبكر، ومساعدة الفتيات وعائلاتهن في التصدي لهذه الآفة.
كتابة: مريم ياغي