سارة حجازي .. الفراشة التي اقتربت من النار فتركت أثراً لا يزول
“الانتحار ليس شجاعةً كما يردد البعض، وليس جُبناً كما يردد الآخرون، كل ما في الأمر أنه عدم قدرة على التحمل، قلب ضعيف وروح تملّكها الحزن وجسد منهك ضعيف، وعقل لا يتوقف عن التفكير”.
جزء من تدوينة قصيرة قديمة لسارة حجازي على مدونتها “هيا بنا نهري”، منشورة في آب/أغسطس 2017.
غريبة كيف تتقاطع مسارات حياتنا في نقاطٍ ثابتة رغم اختلافاتنا المتعددة، فقط عندما نتفق على فكرة واحدة وهي “الحرية”.
أتسائلُ أحياناً في خوف، تُرى أي مسار آخر أسلكه ويتقاطع مع مَنْ وفي أي نقاط؟
حتى الآن، تقاطع مسار حياتي مع العديد من الأصدقاء والصديقات سواء الذين/اللواتي أعرفهن/م في الحياة الحقيقية، أو تَشاركنا الحلم والهزيمة، واقتسمناهما كشقّي رغيفٍ جاف مُلقى لجائع/ة للحرية يتأوه/تتأوه ألماً في زنزانته/ا وحيداً/ة.
سارة حجازي كانت إحداهن. لم أقابلها يوماً. لكننا تشاركنا على ساحة الفضاء، الكلمات والحديث الخاص مراراً، وكذلك الهجمات الإلكترونية الممنهجة. والعبث المستمر من ذوي الأفكار المتطرفة لعدم تفهمهم لكل ما هو مختلف.
كتبت أنا وسارة في المواقع الإلكترونية نفسها في بعض الفترات. منها موقع “بوابة يناير” الذي تم حجبه قبل أن يتم رفعه نهائياً من شبكة الإنترنت.
وتشاركنا في بعض المقالات الأخرى التي تدور في فلك الحريات. وأثناء فترة اعتقالها كتبت بضع مقالات تدعم الحريات الجنسية المختلفة. وتحترم اختيار الفرد الشخصي لميوله الجنسية.
كنت أحترم ثقافتها الشديدة وأحسدها على عقلها الذكي، وأشاهد روحها السمحة تخوض حروباً دموية قبيحة برداءٍ أبيض ويدان مرفوعتان عالياً. لا تحملان سوى قلمٍ أو قطعة قماشٍ ملونة بألوانٍ مبهجة. قطعة قماش تقول إن الاختلاف جميل. وإن أطياف الألوان المختلفة في المجتمع تجعله أكثر تميزاً.
قطعة قماش اسمها “علم الرينبو”، كانت بداية النهاية لسارة، لكن على المدى الطويل، ستصنع حكايتها فرقاً.
سارة التي كنت دائماً أخاف عليها من قلبها اللّين المكشوف، أحكي عنها اليوم بصيغة “كانت”، وأعلم أنني لن أتمكن من معرفة رأيها، الذي كنت أثمّنه في كتابتي.
لكنني أعلم أن حكايتها على قصرها، ثريّةً تستحق الكتابة والبقاء.
إيكاروس… هل كان عليه أن يحلق عالياً إلى هذا الحد؟
تقول الأسطورة الإغريقية عن “إيكاروس” إن والده حذره من الاقتراب من الشمس حتى لا يسقط على الأرض.
كانا يحاولان الهرب من حكمٍ قاسٍ. صنعا معاً أجنحةً من الشمع ليُحلقا بعيداً عن سجنهما. إلا أن إيكاروس حين رأى ضياء الشمس، لم يستطع سوى التحليق نحوها. فانصهر جناحاه وسقط قتيل نورها وبراحها.
كذلك فعلت سارة حجازي، وحلقت بجناحين من الحب نحو الحرية طالبةً نورها، فطالتها نيران الجهل والتشكّك والخوف من كل ما هو جديد، والأنماط والمفاهيم المتطرفة.
فجر 14 أيار/مايو 2020 قتلت سارة نفسها شنقاً في منفاها بحمام شقتها في كندا. كانت المحاولة الثانية للتخلص من معاناتها. فعام 2017 حاولت التخلص من حياتها وفشلت.
تركت سارة خلفها آلاف الكلمات المهمة، سواء على مدونتها الشخصية، أو في مقالاتها المنشورة، التي تدل على عقلية نابغة، وقلب واسع، وثقافة واطلاع على مستوى عالي.
لكن ختام كلماتها كان رسالةً بخط يدها وإمضائها كتبت فيها:
“إلى أخوتي .. حاولت النجاة وفشلت .. سامحوني. إلى أصدقائي.. التجربة قاسية وأنا أضعف من أن أقاومها .. سامحوني، إلى العالم، كُنتَ قاسياً إلى حدٍ عظيم .. ولكنني أسامح”.
المنفى .. أن تترك قلبك وروحك لتنجو بجسدك
“كان المستقبل غير عن ذكريات هزيمة وتجاعيد” .. من كلمات أغنية لفريق مشروع ليلى باسم “إيكاروس”.
هذا المقال عنك يا سارة. تذكرتك حين سُئلت وأنا معصوبة العينين ومقيدة اليدين بأصفادٍ حديدية ضيقة تحفر جرحاً في جلدي كلما حاولت تحريك كفيّ ناسيةً أنني مقيدة مرات. وأنا أحاول أن أرد على سؤالٍ مستفز لأنني اعتقدت أنه بديهي أكثر مما يجب!
كان يسأل بفضول وغضب حقيقي: “لماذا لم أسافر إلى الخارج، بعد أن جاءني استدعاء وأفراد أمن إلى منزلي، لماذا لم أهرب؟”. كنتِ في بالي دوماً كلما حدثني أحد عن الهجرة. ولا زلتِ.
كيف يُطلب مِنا الرحيل ويعتقدون أننا في مأمنٍ عن الموت؟ هل يمضي الشخص وقتاً أمام أسدٍ جائع ويعتقد أنه في أمان؟
وهل نمضي نحو الأسد إلا لنهرب من قطيع ضباع؟
أن يقتلنا أسد، اختيار أفضل من أن يُمزقنا الضباع؟
في آذار/مارس عام 2017 سافرت سارة إلى كندا طالبةً الهجرة. بعد محاولاتٍ للعلاج في مصر نفسياً لفترةٍ قصيرة. سافرت بشكلٍ مباشر إلى كندا في محاولة ثانية للنجاة.
لم تختر المنفى لكنها أُجبِرَت عليه. أما خيارها الأول فكان تمسّكها بحريتها وإيمانها بأن السلام قد يخلق براحاً في زحام الموت. وأن الغناء قد يعلو على صوت الرصاص.
أما السجن، فهو الخيار الثاني لمن تمسّك بوطنه ورأيه. فألقي القبض على سارة في الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 2017 من منزلها. وعرضت على نيابة أمن الدولة، بعد قضاء ليلة واحدة في مقر الأمن الوطني.
وجّهت لها النيابة تهمة “الانضمام إلى جماعة أُسّست على خلاف أحكام القانون والدستور هدفها الإضرار بالسلم الاجتماعي. والترويج لأفكار هذه الجماعة من خلال طرق العلانية، والتحريض على الفسق والفجور في المجتمع”.
احتُجِزَت ليومٍ واحدٍ في قسم السيدة زينب، ثم رُحِّلت إلى سجن القناطر للنساء، وقضت نصف الفترة تقريباً في عنابر جماعية، ونصفها بين الانفرادي والعزل.
ثلاثة أشهر هي الفترة التي قضتها سارة في السجن. لكن هذه الأيام التي لم تتخطّ الـ100، استطاعت أن تُنهي حياتها بشكلٍ أو بآخر.
“أي حد مختلف عن الآتي ذكره: ذكر، مسلم، سني، مغاير الجنس، مؤيد للنظام، غني، هو في عداد المضطهدين والمنبوذين”.
من كلمات سارة حجازي في ندوة تحت عنوان “ما هو القادم في الثورة السودانية”؟
في مقال نشرته مدى مصر في 24 أيلول/سبتمبر 2018، تحدثت سارة عن تجربة اعتقالها. وذكرت بعض أنواع التعذيب سواء النفسي أو الجسدي الذي مرت به خلال التجربة. منذ لحظة اختطافها من منزلها أمام أفراد أسرتها وحتى المشهد الأخير، حين إخلاء سبيلها.
تغطية العينين، تقييد اليدين في الكرسي، التعذيب بالكهرباء، السب والتهديد بأفعال جنسية، الأسئلة الخاصة بالحياة الشخصية والميول الجنسية، وانتهاءً بالسجنِ في زنزانة انفرادية لمدة طويلة، والذي يعد أحد أنواع التعذيب وفقاً للتعريفات الحقوقية والدولية.
في ليلتي الأولى في زنزانتي الانفرادية في سجن القناطر للنساء، كنت جائعة أشعر بالعطش الشديد والألم في كل أنحاء جسدي من برد كانون الثاني/يناير القارس، ونزيف مستمر وأنا شبه عارية.
وحين زاد بي الإعياء، أخذ عقلي يحكي لي الكثير من الحكايات والذكريات. كنتِ إحداهن يا سارة.
وتساءلت: “تُرى في أي زنزانة من تلك الزنازين الانفرادية الثلاث قُتلتِ؟ فأنا منذ عرفت بخبر رحيلك وأنا أفكر أنه آن الأوان أن يلملم الموت شمل النذر اليسير الذي تبقى منكِ نابضاً، بعد أن فقدتِ جزءاً كبيراً من حياتك في السجن وخصوصاً في الانفرادي؟”.
هل تقاطعت بنا السُبل يا سارة في تلك المساحة الضيقة نفسها مرةً أخرى؟
حفل “مشروع ليلى”
في 22 أيلول/سبتمبر 2017، حضرت سارة حفلاً لفرقة “مشروع ليلى”. وهي فرقة موسيقى روك لبنانية. فأثارت كلمات بعض أغاني الفرقة الجدل بسبب طرحها لقضايا سياسية وقضايا مرتبطة بالتوجه الجنسي.
خلال الحفل، رفعت سارة وبعض أصدقائها وصديقاتها علم قوس قزح أو “علم الرينبو”، دعماً لحامد سنو مؤسس الفرقة، الذي أعلن عن توجهه وميوله الجنسية المثلية في أحد البرامج الفضائية.
وأعلنت النقابة الموسيقية المصرية بعد الحفل، منع “مشروع ليلى” من إقامة حفلات في مصر.
وعلّق وكيل النقابة حينذاك رضا رجب أن “النقابة قررت وقف الحفلات المقبلة لتلك الفرقة”، مؤكداً: “لسنا جهة قمع، لكن مثل تلك الحفلات لن تقام في مصر مرةً أخرى”.
سارة حجازي … الإنسانة التي حاولت
سارة حجازي هي أخت لاثنين من الإخوة وأخت واحدة. حصلت عام 2010 على درجة البكالوريوس في نظم المعلومات، ثم أكملت دراستها في الجامعة الأميركية في القاهرة، مركز التعليم المستمر عام 2016، من خلال التعلّم عن بعد.
كانت من أسرة من الطبقة المتوسطة، من إحدى قرى مصر. بعد وفاة والدها، كانت هي الأكثر اهتماماً بوالدتها، خصوصاً بعد إصابتها بمرض السرطان.
كما كانت تهتم برعاية أخواتها ومرتبطة عاطفياً بأسرتها. وتتفهم تخوفهن/م من اختلافها، الذي عرفوه بالطريقة الأسوأ، بعد اعتقالها، عن طريق القضية ووسائل الإعلام.
حاولت سارة أن تخلق لنفسها مساحةً آمنة تستطيع فيها الحياة في مصر بعد خروجها من السجن.
إلا أن الضغط المستمر من المجتمع، والجبهات المتعددة للحرب التي دخلت فيها بقلمٍ رشيق وقوي وجريء، دفعت أصدقائها وصديقاتها ومحبيها لإقناعها بالسفر ولو لفترة.
لكن شاءت الأقدار أن تموت والدتها وهي في شهرها الأول من غُربتها القسرية في مدينتها وحيدة. وكانت تلك الفاجعة صخرةً ساقت سارة إلى القاع مرةً أخرى.
أثر الفراشة لا يزول
ما هو الصعب في أن نترك الآخرين والأخريات يمارسن/ون ما يعتقدن/ون فيه؟
كيف اعتقدنا أننا مسؤولون/ات عن تصرف الآخرين والأخريات في أنفسهن/م؟
تُرى كم فراشة ستحترق حتى نفهم أن المحبة وتقبّل الآخرين والأخريات هو الطريق الوحيد للعيش معاً على اختلافاتنا؟ وأن ألوان الطيف لا تستثني أحداً، بل تَقبل الجميع، وتعلن أن ألواننا المختلفة تمتزج بلا حاجة للاختلاط، وتندمج بلا ضرورة للانقياد. وتستمر كل على حِدة، جميلة ومميزة من دون حاجةٍ للتطابق!
لا مانع إذا لم تستطع/ين أن تحب/ي شخصاً أو حتى إن لم تستطع/ين أن تمنع/ي شعورك بالنفور تجاه شخص أو قضية ما. لكن لا تُترجم/ي هذا الشعور إلى عنف، إلى دفع الشخص نحو الموت دفعاً، ولا تحاربه/ا بالدم والتهديد والسجن. هذا فقط كل ما هو مطلوب!
أتساءل يا سارة دائماً: “هل كان سيصنع أي فارق لو كنتُ حرةً ليلة وصولك لهذا القرار المفجع. الليلة التي تملّك فيها الحزن من ابتسامتك، وأحال ضي عينيك إلى صمتٍ ينشر ضوضاءه للأبد؟”
وأتساءل في أنانية دائماً أيضاً: “كم كان سيصنع فارقاً لو كنتِ ما زلت موجودة حين خرجت من سجني. وهذا الصديق المشترك الذي قال لي إنه يظن أن سجني زاد من حزنك رغم المسافة بيننا، وتشاركنا فقط الكلمات. هل كان يمكنكِ أن تقولي لي إن هذا ليس صحيحاً؟”.
تُرى بأي الطرقات تتقاطع مساراتنا مرة أخرى في تلك الحياة؟ على أي حال، لروحك السلام والمحبة التي لطالما ناديتِ بهما.
“الانتحار هي جريمة قتل قام بها أُناس لن يدانوا في يومٍ ما! مجتمع كامل شارك في الجريمة. وذلك الحزن العميق كان يجب أن يُترجم إلى فعل .. وذلك الفعل هو الأنسب. وسلاماً لمن أحببتهن/م وأحبوني”.
من كلمات سارة حجازي، منشورة على مدونتها بتاريخ آب/أغسطس 2017.
كتابة: شيماء سامي