المتروكات لوأد الزلازل .. شهادات نساء في المناطق السورية المنكوبة
في إحدى المناطق السورية المنكوبة لجأت حياة (اسم مستعار – 30 عاماً) مع طفليها الصغيرين.
رضيع بالكاد تجاوز عامه الأول، وطفلة ذات سنواتٍ أربع، هربت بهما من عمارتهن/م، التي تهدمت فوق رؤوس كثيرين/كثيرات من سكانها.
في الركن داخل الدكان، يوجد سرير طبي تستلقي عليه هبة (اسم مستعار – 26 عاماً).
وهي شابة مُقعدة ومصابة بالربو وبمشاكل في القلب، وباتت في رعاية حياة الآن، بعد أن تركها أهلها لمصيرها ليلة الزلزال.
كانت هبة تتصل بأرقام من تطوعن/وا لتقديم المساعدات، طالبةً حليباً للطفل الرضيع ابن المرأة التي ترعاها بعد أن تركها أهلها، وحفاضات من قياسٍ صغير له، ومن قياسٍ كبير لها.
هل النجاة من الزلازل والبقاء على قيد الحياة هي نجاة فعلاً؟
في مقابلة لـ”شريكة ولكن”، قالت هبة إنها “ليست المرة الأولى التي يتركونني فيها وحيدةً تحت الخطر، على أمل أن أموت فيتخلّصون من همّي”.
وأضافت: “لا أعرف لماذا لم أمت حتى اللحظة، فأنجو بموتي؟ من قال إن البقاء على قيد الحياة هو نجاة فعلاً؟”.
لا تغالب هبة دموعها، بل على العكس، تعبّر عن سعادتها وسط كل هذا الخراب.
والسبب أنها استطاعت أخيراً البكاء من جديد! بعد سنواتٍ طويلة، جفّت خلالها مقلتاها، جراء اعتياد الألم والقهر والذل والإهمال.
في تلك الليلة، سمع الجيران بكاء هبة، بعد أن هرب أهلها للنجاة بأنفسهن/م، ولم يستطعن/وا حملها معهن/م، في لحظات رعبٍ خطفت العقول والقلوب.
لذلك، تطوع شابان من الجيران، وخاطرا بحياتيهما من غير انتظار وأنزالاها مع سريرها، رغم توسلاتها لهما ليتركانها كي “تموت وترتاح”.
أصيبت هبة بالشلل منذ الطفولة، نتيجة إهمال أهلها لها، حين ارتفعت حرارتها يوماً بشدّة أثناء حمّى أصابتها.
فاعتقدن/وا بأن الأمر عرضي، و”الحرارة خطيرة على الفتيان فقط، أما الفتيات فهنّ بـ7 أرواح، لن تؤذيهن حرارة عابرة!”، قالت هبة.
وأشارت إلى أنها لم تكن “موضع ترحيب في العائلة أصلاً، إذ وُلدت بعد نصف دزينةٍ من الفتيات في انتظار ولادة الفتى”.
جاء بعدها 3 فتيان، ومع كل ولادة لذكرٍ في عائلتها، كان إهمالهن/م لها يزداد.
فتُرِكت لتعاني من الحمى عدة أيام، حتى كادت أن تموت، لكن روحها العنيدة رفضت أن تغادر جسدها.
“ألستُ تجسيداً لغضب الرب كما يناديني والداي وإخوتي الذين اعتادوا التنمر عليّ، والقول إن رائحتي ستقتل عزرائيل قبل أن يوصلني إلى جهنم؟”، تساءلت هبة في حديثها إلى منصتنا.
ماذا حصل لحظة الزلزال؟
لم تستطع هبة الخروج من ذهولها لحظة الزلزال مطلع الفجر.
لم تتمكن من النوم; فهي بحاجة إلى تغيير حفاضاتها، ولا قدرة لها على فعل شيء.
والدتها العجوز نامت من شدة تعبها من دون أن تساعدها، ووالدها وأخوتها الذكور يأبون الاقتراب منها، حتى لو غرقت في القذارة.
فهي “نقمة، لا يعرفون كيف يتخلصون منها”، استذكرت ذلك، وأضافت: “لم أمت بالحمّى، ولا حين بقيت أياماً من دون طعام. ولم أمت طوال مرضي، ورغم كل الدعاء عليّ للخلاص مني. حتى حين وقع الزلزال وتركني أهلي، لم أمت”.
ثم همست شاردة: “نحلم رغماً عنا، ولو كنا غارقين في القذارة. كنت أحلم بأن أشفى يوماً ما، وأحب شاباً وسيماً. وأثناء الزلزال، في انتظار موتي، دخل عليي شابان جميلان ظننتهما ملاكا الموت، وآخر ما كنت أريده أن يحملاني بسريري الملوّث بقذارتي”.
تمسح حياة دموع هبة التي بالكاد تعرفها، وتساعدها على تنظيف نفسها.
تخبران ندى، واحدة من المتطوعات الشجاعات التي لبت نداء الاتصال، قصة هبة.
حياة نفسها هجرها زوجها منذ أشهر، ولا تعرف لماذا. ببساطة، خرج ولم يعد!
سألت عنه من دون جدوى، وبقيت ترعى طفليها في غرفةٍ متهالكة باتت ركاماً.
ولم تكن أحسن حالاً من الدكان المهجور، الذي فتحه أحد سكّان الحي ليأويهن/م فيه، وتتقاسمه مع هبة، التي لم يعرف الجيران أين يذهبن/ون بها، بعد اختفاء عائلتها، وعدم سؤالهن/م عنها.
تطوّعت حياة للعناية بها، على الرغم من حاجتها هي وأطفالها إلى من يعتني بهن/م.
نظرت إلى هبة، ووضعت في حضنها طفلها الصغير الضاحك رغم البؤس، وقالت لها: “إنه يحبك”.
وفي حديث لـ”شريكة ولكن”، قالت ندى إن “الكارثة هزّت المكان كله، لكن قهر النساء ووجعهن، هو استمرار لأوجاعٍ تاريخية لم تنتهِ منذ ولادتهنّ حتى الآن”.
“الله دخيل اسمه غاضب عالنسوان”
في أحد مراكز الإيواء التي افتُتحت على عجل، انزوت امرأة سبعينية تندب وحيدها المختفي منذ سنوات، وسط الضجيج.
إذ يعجّ المكان بالنساء والأطفال والطفلات، بانتظار وصول الطعام والمساعدات، فهن/م بحاجة إلى كل شيء.
وبعد أن دمّر الزلزال منزلها، ستكفّ المرأة السبعينية عن الجلوس وانتظار ابنها المُغَيّب أمام الباب، لأنه لم يعد لديها منزلاً تنتظره فيه.
تسأل العجوز إحدى متطوعات المركز عن كيفية حصولها على أدوية السكّر والضغط.
ثم ختمت كلامها بالقول: “يا خالتي شو عيشتي أنا إذا كلّها مصايب .. الله دخيل اسمه غاضب عالنسوان”.
لعلّ عبارة السيدة العجوز تكثّف حال “النسوان”، في مجتمعٍ قائم على العنف والتمييز الجندري ضدهنّ، منذ الولادة حتى الموت.
مجتمع يجعل من حياتهن سلسلةً من التقريع وتحميل اللوم، وجَلدِهنّ بمعايير “العيب والعار” حتى من أجسادهن.
إهمال احتياجات النساء .. خصوصاً فترة الحيض
في البداية، لم تَلحظ المعونات احتياجات النساء والفتيات، من فوطٍ صحية وبقية المستلزمات النسائية، وخجلت كثيرات من البوح بهذه الحاجة.
لكن دماء الحيض التي لم تستطع الملابس الرثة إخفاءها، فضحت الحاجة، وأعلنت عنها بوضوح، بعد أن كان الهمس سيد الموقف.
ولحسن الحظ، بدأ الأمر يبدو “طبيعياً”، ويتم ذكر هذه الاحتياجات بوضوح.
لكنها، في المقابل، بالكاد تُلبّى، فعدد المتطوعات والمتطوعين قليل مقارنةً بالاحتياجات الهائلة للمتضررين/ات.
أما المساعدات التي تم الإفراج عنها من قبضة المسيطرين فأقل بكثير من عدد المتطوعين/ات، بينما تُعرض المساعدات الأكبر في الأسواق السوداء للبيع من دون أدنى خجل.
قبل أن يضرب الزلزال المنطقة، دمّرت زلازل من نوع آخر سوريا.
فمنذ انفجار بركان الدم، لم يتوقف الأسى يوماً. يقهر الفقراء/الفقيرات، والأبرياء/البريئات الذين/اللواتي لم يرتضين/وا التحول إلى ذئاب بشرية.
في حين يشمت كل فريق بـ”الأعداء” من الفرق الأخرى، رغم أنهم جميعاً غارقون منذ سنوات في مستنقع البؤس نفسه.
يُشهرون أصابعهم بالتهم والتخوين في وجه أمثالهم، بينما يجلس أصحاب المصالح في قصورهم وفنادقهم، يقبضون ثمن آلام مناصريهن/م، تحت رعاية دولية لمهرجان العهر السياسي هذا.
حجم الكارثة يكبر، والكاميرات لا تكفّ عن رصد الدمار والأنين والدموع، وفي الخفاء آلاف القصص التي لا يبوح بها أحد، حتى لا يتزعزع الإيمان، أو يشمت بنا الأعداء!
كتابة: علياء أحمد