النزوح من جنوب لبنان.. تهديد إضافي لصحة النساء الجنسية
لم تترك الحرب الدائرة في جنوب لبنان خيارات واسعة أمام اللبنانيين/ات الذين/اللاتي يسكنون/يسكن القرى المتاخمة للحدود الفلسطينية سوى النزوح. اضطرتهم/ن الحرب إلى النزوح داخليًّا بأعداد كبيرة، وإلى مناطق مختلفة يمكنهم/ن الاحتماء بها من الاعتداءات المستمرة للعدو الإسرائيلي. حيث تكون الوجهة الرئيسية إلى أقضية صور والنبطية وصيدا.
تفتقر النازحات إلى المساحات الآمنة وخدمات الدعم، وتُجبرهن الظروف أحيانًا على الاختيار بين المواد الغذائية واحتياجاتهن النسائية والصحية.
النزوح وشبح الحرب المستمرة
وصل عدد النازحين/ات إلى أكثر من 87 ألف شخص، توزع جزءٌ منهم/ن على مراكز الإيواء. فيما انتقلت الغالبية للسكن في منازل أخرى يملكونها، أو للعيش مع أقارب ومعارف، أو لاستئجار شقق سكنية.
وفي وقتٍ ما يزال التوتر فيه قائمًا عند الحدود، تتفاقم حاجة النازحات إلى الدعم، لا سيما اللواتي التجأن إلى أماكن الإيواء المزدحمة. وتتقاطع ظروف نزوحهن مع عوامل أخرى، منها الأزمة الاقتصادية. وبالتالي، تزيد المخاطر المهددة لصحتهن الجنسية والإنجابية، وتقيّد جنسانياتهن.
تُشكل حماية “الصحة الجنسية والإنجابية” للنازحات ضمانًا لحصولهن على الرعاية الصحية الجنسية، والقدرة على التمتع بحياة جنسية وإنجابية آمنة. لكن ما يزال يتم النظر إليها على أنها ترف من قبل الكثيرين/ات، بمن فيهم/ن صنّاع القرار. حيث عادة يستجيبون للأزمات الإنسانية، ويتركون النساء والفتيات عرضةً للمزيد من المخاطر المجندرة.
في ضوء ما سبق، تبقى قصص النازحات هي الشاهدة الأولى على غياب الاهتمام اللازم بصحتهن الجنسية. كما تمثّل ضرورةً لتوفير احتياجاتهن المختلفة في هذا السياق، واعتبارها جزءًا لا يتجزّأ من خطط الاستجابة الانسانية في الحروب. وذلك نظرًا للمخاطر الصحية المضاعفة التي يمكن أن تتعرض لها النساء والفتيات. وهذا جراء الظروف المصاحبة للنزوح والعقبات التي يمكن أن تعترض سبيل حصولهن على حقوقهن الأساسية.
View this post on Instagram
أزمة النزوح ونقص منتجات العناية النسائية
عندما استعدت لمغادرة ديارها في قرية “بيت ليف” إلى مدرسة حسن فران في صور، لم تتصور سجى (34 عامًا)، أن يطول أمد نزوحها. تقول في حديثها إلى موقع “شريكة ولكن”: “في البداية، لم نواجه الكثير من المشاكل. كنا أكثر استعدادًا لتحمل الظروف أملًا بالعودة. لكننا اليوم بدأنا نُواجه مشاكل عديدة بسبب نقص النظافة والخدمات الصحية”.
منذ شهر، تُعاني سجى من احتباس بول، وتعتقد أن الاستخدام المشترك لدورات المياه غير المراعية للنظافة هو المسبب لهذه المشكلة. كما تلفت النظر إلى أن العديد من النساء في المدرسة يشتكين من الأمر نفسه خلال جلسات نسائية بينهن.
ويبرز جليًّا التعاطي المستخف مع الحاجات النسائية في مراكز الإيواء الجماعية. إذ كشفت سجى عن نقص منتجات الحيض: “مضى على آخر مساعدة في تأمين الفوط الصحية مدة لا تقل عن شهر. فيما نعجز عن تأمينها بأنفسنا. كيف سنتمكن من تأمين حاجاتنا وأزواجنا لا يعملون؟”. وتُضيف بصوت متحشرج: “الناس عم تتدين مصاري لتشتري كيس حفاضات”.
في حين تعتمد سجى على زوجها لتأمين حاجاتها، تجد نساء وشابات أخريات أنفسهن دون معيلٍ. من هؤلاء الأمهات المعيلات، واللواتي لم يسبق لهن الزواج، وكبيرات السن. فتجد النساء والفتيات أنفسهن معتمداتٍ على الزوج أو الأخ أو الأب أو المساعدات الإنسانية. وذلك لتوفير احتياجاتهن الأساسية والنسائية.
من جهة أخرى، تخجل العديد من النساء والفتيات خلال الظروف العادية من التعبير والمطالبة بالاحتياجات المتعلقة بأجسادهن، وخصوصًا الجنسية والإنجابية. وذلك لأنها عادةً ما تكون مُحاطة بهالة من العار والعيب، وتزداد وتيرة الخجل من التطرق إليها في أوقات الحرب. حيث تصبح إمكانية الوصول إلى المستلزمات النسائية محدودة، دون أن يتم الالتفات إليها وإعطاءها الأولوية.
تداعيات النزوح على صحة النساء الجنسية
تروي راما (17 عامًا) تجربتها بعد أن قضت نحو ثلاثة أشهر في مبنى المدرسة الوطنية في الحوش. “نخجل أحيانًا من المطالبة بالمستلزمات التي نحتاجها، أو حتى من البوح بمشاكلنا الصحية وعدم إمكانية الحصول على الرعاية”.
فضلًا عن عدم توفر الفوط النسائية، استخدمت راما قطعًا قماشية بالية خلال فترة حيضتها السابقة. ذكرت كذلك تغيرات في دورتها الشهرية، من حيث موعدها وغزارة دم الحيض. كما اشتكت من عدم القدرة على استشارة طبيب في الوقت الآني، نظرًا لانعدام الدخل المادّي للأسرة.
في هذا السياق، تُشير الطبيبة النسائية لاريسا سكاف إلى أن “ظروف النازحات قد تعيق إمكانية حصولهن على الرعاية الصحية اللازمة، في حين أنهن معرضات للإصابة بالالتهابات أو العدوى المنقولة جنسيًّا”. هذا “إمّا بسبب استخدام حمامات مشتركة، ما يزيد من خطر انتقال العدوى من شخصٍ إلى آخر/أخرى، أو بسبب استخدام سراويل داخلية ذات نوعية رديئة”. يأتي ذلك بالإضافة إلى “التوتر الذي يمكن أن يؤثر على انخفاض المناعة، وبالتالي زيادة نسبة الالتهابات”.
أما بالنسبة إلى مشاكل الحيض، فتوضح الطبيبة وجود عاملين أساسيين يؤثران على انتظامها وكمية الدم المتدفقة. “تتأثر الدورة الشهرية أولًا بالضغط النفسي الذي يمكن أن يسبب اضطرابًا في الهرمونات، ما يؤدي إلى قلة الإباضة. وبالتالي، قد يحدث نزيف أو تغير في الدورة الشهرية والحيض بالتبعية. وثانيًا، يمكن لنقص التغذية أن يُحدث فقر دم، ما يزيد من كمية الدم خلال الحيض”.
علاوةً على ما سبق، تؤكد أن هناك عوامل إضافية قد تؤثر على صحة النساء الجنسية والإنجابية. ذكرت منها عدم “توفر الفوط الصحية، أو استخدام فوط ذات جودة رديئة، أو عدم تغيير الفوط بطريقةٍ منتظمة. الأمر الذي يمكن أن يسفر عن الإصابة بالتهابات مهبلية، أو بمتلازمة الصدمة التسممية. حيث تبقى البكتيريا في المكان نفسه لفترة طويلة، ويمكن أن تؤدي إلى تسمم المرأة/الفتاة”.
View this post on Instagram
بعد النزوح.. هل من مساعدات كافية؟
فيما يشكل النزوح تهديدًا إضافيًّا لصحة النساء الجنسية، تظهر بوضوح الحاجة إلى الدعم، خصوصًا أن مدخرات بعض النازحين/ات استُنزفت بالفعل. وقد اهتمت بعض المبادرات والمنظمات بتقديم المساعدات إلى النساء، لكنها بقيت محدودة بالنسبة إلى حاجات النساء. ولم تغطِ كافة الاحتياجات، بل ظلت بمعظمها مقتصرة على تقديم الفوط النسائية.
في حديثها إلى “شريكة ولكن”، تكشف مؤسسة جمعية Wing Woman Lebanon ميلي بامبرتون، وهي منظمة غير حكومية تم إنشاؤها لدعم سبل عيش النساء، عن إرسالها لـ “1180 عبوة من الفوط الصحية، و80 عبوة حفاضات إلى الجنوب من خلال شركاء من منظمات غير حكومية”. وذلك بفضل التبرعات التي تتلقاها الجمعية من الناس.
وشددت بامبرتون على “أهمية تأمين احتياجات الدورة الشهرية للنساء خلال الحرب. ذلك أن المشكلة بالنسبة للنساء، على وجه التحديد، هي أن احتياجاتهن غالبًا ما تكون مهمشة في قائمة أولويات الأسرة. يزيد الأمر من أهمية الاعتراف بأنهن أيضًا أكثر عرضة للخطر”.
من جهتها، تشير صاحبة المبادرة الفردية Jeyetik، ميريام سكاف، إلى أنها “من خلال التبرعات استطاعت تأمين الفوط الصحية لعدد محدود من النساء. فيما تسعى للقيام بخطوات جديدة قريبًا، من خلال التعاون مع مبادرات أخرى، لافتةً إلى النقص في التمويل”.
باحتكاكها بنساء وفتيات يُعانين نقصًا في المستلزمات الصحية، ترى ميريام أنّ الحرب، بما فيها “الحرب الاقتصادية” كما أسمتها، أثرت عليهن سلبًا. “قالت لي إحدى الفتيات أنها اعتادت استخدام علبة فوط صحية قبل الأزمة. لكنها وجدت نفسها مجبرة بعد الأزمة على تقاسم علبة واحدة مع أخواتها. الأمر مُحزن بالفعل”.
وتساءلت: “لماذا علينا أن نعيش هذا الهم في التعاطي مع الدورة الشهرية؟”، مؤكدة أهمية “إدراك أن الحصول على الفوط الصحية حق أساسي، تمامًا كحق الوصول إلى الغذاء والماء والملجأ”.
في أوقات الأزمات تصبح القدرة على الوصول إلى وسائل منع الحمل، أو إمكانية اختيار الوسيلة الأفضل، أكثر صعوبةً. وهو تحدٍّ إضافي أمام النازحات.
خدمات الصحة الجنسية والإنجابية في أعقاب النزوح
أما بالنسبة إلى الخدمات الأخرى كفحوصات الصحة الجنسية، الاستشارات الطبية، خدمات متابعة الحمل، خدمات الولادة والإجهاض، وسائل منع الحمل وغيرها، فلم يتم تأمينها إلا بشكلٍ محدودٍ جدًّا من قبل بعض الجمعيات الخيرية والمنظمات. يطرح ذلك تداعيات على النساء بمن فيهن الحوامل، اللواتي “يمكن أن يتعرضن لمخاطر أكبر في بعض الظروف”، وفقاً للطبيبة النسائية.
تشرح الطبيبة أن “إصابة النساء الحوامل بالالتهابات مثلًا قد تزيد خطر الولادة المبكرة. ويمكن أن ينتج عن عدم قدرتهن للمتابعة عند طبيب مشاكل ليس باستطاعتنا أن نعالجها في بعض الحالات”. لذا، “تجبر النساء على التعايش معها ومعاناة مضاعفاتها الصحية. هذا بالإضافة إلى أن تدني التغذية، وعدم خضوعهن لمتابعة طبية مستمرة قد يفضي إلى مشاكل صحية. من هذه: فقر الدم، سكري الحمل، ضغط الحمل، تسمم الحمل، أو حتى عدم نمو الجنين بشكل سليم”.
تفتقر النازحات إلى المساحات الآمنة وخدمات الدعم، وتُجبرهن الظروف أحيانًا على الاختيار بين المواد الغذائية واحتياجاتهن النسائية والصحية. كما لو أنها كماليات ليس إلّا.
من هنا، يحثنا النقص في اللوازم النسائية وخدمات الرعاية الجنسية للنازحات، على التفكير بالمسألة من منظور جندري. لو طُبقت المساواة الجندرية في مراكز صنع القرار، هل كانت النساء لتقبل بواقعٍ يُصادر أبسط حقوقهن في السلم والحرب؟ هل كانت احتياجاتهن لتبقى خارج خطط الاستجابة للأزمات؟ وما هو شكل الالتزام الأخلاقي الذي يجب أن يتبناه المجتمع، كي تحظى احتياجات النساء بالاهتمام؟
الحياة الجنسية للنازحات.. معدومة؟
عادةً ما يتم تجاهل الحياة الجنسية للنساء، واعتبار الحديث عنها “عيب”، بينما يتفاخر الرجال بتجاربهم في العلن. حتى في الظروف التي تزيد من تحديات الممارسة الجنسية الصحية، غالبًا ما يتم تجنّب الغوص في الأسباب والقيود. وكذلك تواجه النساء عوائق أمام طلب الخدمات اللازمة، وسط تزايد المخاوف المتعلقة بصحتهن.
بالنسبة إلى ميسون (29 عامًا)، وهي نازحة من قرية الضهيرة، فإن “عدم الخصوصية في مدرسة النازحين/ات” يلعب دورًا بارزًا في عدم قدرتها على عيش حياة جنسية مماثلة لما قبل النزوح.
“ننام أنا وزوجي وأطفالي وأمي وأختي في الغرفة نفسها”. تحكي ميسون بخجل عن عدم شعورها غالبًا بالرغبة الجنسية منذ أن نزحت. “شعور الخوف يغلب أي شعور. أخاف أن أعود إلى القرية فلا أجد بيتي. الناس تقضي عمرًا في بناء منزل، ليختفي فجأةً بلمح البصر”.
وفقاً للطبيبة لاريسا سكاف، فإن “العلاقة الجنسية تبدأ في الدماغ”. لذلك، فإن “الضغط النفسي يؤثر كثيرًا على تدني أو انعدام هذه الرغبة”. كما أن العلاقة الجنسية “تحتاج إلى الحميمية كي تكون كافية، خصوصًا بالنسبة للنساء اللواتي يحتجن لوقتٍ أكثر ومداعبة وجهوزية فكرية”.
وكل هذا لا يمكن أن يتوفر دون وجود خصوصية وراحة نفسية. كما أن “التوتر يمكن أن يؤدي إلى اختلال في الهرمونات، ويمكن أن يسبب بدوره جفافًا في المهبل والتهابات مهبلية. وبالتالي، يُثير عدم الرضى بين الشريكات/الشركاء، ويترتب عليه آلام أثناء العلاقة الجنسية”.
بالإضافة إلى ذلك، تظهر عدم القدرة على الوصول إلى وسائل منع الحمل، أو إمكانية اختيار الوسيلة الأفضل. وهو تحدٍّ إضافي أمام النازحات، ويمكن أن يخفف من الرغبة في إقامة علاقة جنسية. كما يمكن أن يزيد من احتمالية حدوث حملٍ غير مخطط له وولادات مبكرة أو إجهاض، بحسب الطبيبة.