عام من الحرب في السودان.. عندما تنطق الأرقام ألمًا
انقضى عام من الحرب على السودان، تصارع فيه الجيش السوداني مع مليشيا الدعم السريع على السلطة، دون مبالاة بمصير الشعب المتضرر الأكبر من صراعهم.
يتحول الزمن في الحروب لآلة ثقيلة تعيد مشاهد الموت والدماء والدمار والخسارة أمام الناس وتعيد صدماتهن/م. حيث عرفت البلاد خسائر هائلة على المستويات الاجتماعية والأمنية والاقتصادية. لكن خسائر الأرواح وما كان يعتبر مكاناً للعيش بالنسبة لملايين السودانيين/ات كان له الأثر الأكبر في هذه المأساة.
ولعلّ الأثقل هو رصد الخسائر، التي لحقت آثارها بالأرواح والنسيج الاجتماعي والبنى الاقتصادية والسياسية في السودان، وكان لهذه الخسائر أثر على بنيات أساسية مادية كالجسور والسدود وشبكات نقل الكهرباء والمياه والوقود والاتصالات والمنشآت الصحية والتعليمية والمباني العامة والقطاعات الإنتاجية والصناعية والأسواق، إضافة إلى دمار منازل وممتلكات المواطنين، وانتشار الأمراض المعدية وتدمير تام للموارد والبيئة.
آلاف الخسارات والملايين تركت للتشريد
منذ 2019 والشعب السوداني يفقد عشرات الأشخاص يومياً نتيجة لقمع الجيش السوداني، للتظاهرات الشعبية التي انطلقت من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والتغيير السياسي.
ومنذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المدنية الانتقالية في تشرين الأول/أكتوبر 2021، بدأت مرحلة جديدة لم يكن الصراع فيها هذه المرة بين طرف مدني وآخر عسكري، بل بين المؤسسة العسكرية والمليشيا التي صنعتها لقمع اقليم دارفور وارتكاب أسوأ الانتهاكات في تاريخ السودان.
بدأت الحرب وبدأ معاها العنف الذي كان ولا يزال ضحيته الأكبر الشعب السوداني، حيث قُتل ما يزيد على 14,000 شخص، وجرح الآلاف بين الخرطوم ودارفور.
لكن القتل هنا له آثار مختلفة حسب الموقع الجغرافي والاثني، حيث أخذ النزاع الدائر في السودان بعداً عرقيًا في ولايات اقليم دارفور، التي عرفت حسب الأمم المتحدة مجازر أدت لمقتل ما يقرب من 10 آلاف شخص.
وخلفت الحرب خسائر فادحة أدت إلى تدمير معظم المدن والقرى وانتاج أكبر موجة نزوح مأساوية في العالم. حيث شُرد أكثر من عشرة ملايين شخص من منازلهن/ن، وحُرم 19 مليون طفل/طفلة من الدراسة، ودمرت المستشفيات ليصبح أكثر من 15 مليون شخص محرمون من الخدمات الصحية الأساسية.
View this post on Instagram
بينما كان لهذه الحرب أثر بالغ الخطورة على الوضع الإنساني والغذائي، حيث وضعت 15 مليون شخص تحت خطر الجوع، ويعاني إثر ذلك 5 ملايين شخص من نقص حاد في الغذاء، معظمهن/م أطفال/طفلات في مخيمات اللجوء في دارفور، وهو ما أدى لوفاة 1200 طفل/طفلة في دارفور منذ أيار/مايو الماضي، نتيجةً لسوء التغذية.
الاغتصاب سلاح حرب ضد النساء والفتيات
كان للاعتداء الجنسي أثناء الحرب الخطر الأكبر على سلامة النساء والفتيات في السودان، حيث استخدم بشكل مكثف من مليشيا الدعم السريع منذ بداية النزاع، وأخذ طابع الانتقام في العديد من المناطق خاصة في دارفور.
وقد كشفت منظمات محلية بأن العنف القائم على النوع الاجتماعي قد وضع 6 ملايين امرأة وفتاة تحت خطر العنف الأبوي، بينما تعيش 4 ملايين امرأة وفتاة تحت خطر العنف والاعتداء الجنسي.
وقالت شبكة صيحة في بيان صدر في 4 نيسان/ أبريل بعد قرابة العام من الحرب بأن “الارتكاب الممنهج لجرائم العنف الجنسي أصبح استراتيجية للحرب والتنكيل بالمدنيين/ات والمجتمعات المحلية؛ وهو ليس بالأمر الجديد فقد تم استخدامه بانتظام في السودان لأكثر من ٢٠ عامًا في قرى وحواضر دارفور، وفي الخرطوم وجنوب كردفان، وقوبل من قبل الفاعليين السياسيين بالصمت مما فاقم من عمق الأزمة”.
وأوضح البيان أنه “منذ 15 إبريل تصاعد استخدام جريمة العنف الجنسي كأداة واستراتيجية من قبل الدعم السريع لقهر المدنيين/ات والسيطرة عليهن/م مع تمدد دوائر الحرب في دارفور والخرطوم ومناطق كردفان الكبرى، ولاحقًا وبشكل واسع في قرى الجزيرة ومدنها”.
View this post on Instagram
وفي رصدها للجرائم الجنسية التي راحت ضحيتها النساء والفتيات في السودان، جراء الحرب، فقد سجلت شبكة صيحة 244 حالة لجرائم العنف الجنسي منذ اندلاع الحرب في السودان.
ولفتت المديرة الإقليمية لشبكة صيحة هالة الكارب، الانتباه إلى أن هذه الأعداد المتصلة بالعنف الجنسي هي مجرد قمة الجبل.
وأوضحت أن “ميليشيات الدعم السريع اغتصبت وتعدت على الآلاف من النساء والفتيات، فضلاً عن الاعتداء الجنسي من قبل الجيوش المتعددة في ظل العسكرة والإرهاب الذي يعيشه السودانيون/ات وخاصة النساء”.
وأشارت إلى أن “المئتي حالة التي جرى توثيقها لم تتضمن الانتهاكات التي وقعت ولاية الجزيرة التي يصعب الوصول إليها بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت”.
وأردفت أن “المئتي حالة الموثقة لحالات العنف الجنسي، لا تشمل ولايتي شمال وغرب دارفور باستثناء اللائي وصلن إلى مناطق خارج سيطرة الدعم السريع.
ولفتت أن هذه الإحصاءات لا تغطي حالات الاغتصاب التي وقعت في مدينتي الجنينة ونيالا”.
الحمل الناتج عن الاغتصاب
ووفقًا لتقرير شبكة صحية أيضًا، فإن هذه الانتهاكات والاعتداءات الجنسية قد خلفت حالات حمل غير مرغوب فيه، وتعتبر “حالات الحمل الإجباري والغير مرغوب به منتوجًا متوقعًا للاغتصاب الممنهج والذي ظل يحدث في السودان خلال العام الماضي”.
وقامت الشبكة برصد وتوثيق ومتابعة ١٤ حالة حمل غير مرغوب فيه نتيجة للاغتصاب الجماعي”.
وهي في تقديرها “نسبة ضئيلة من الأرقام الحقيقية؛ نظرًا لصعوبة الحصول على المعلومات لتعثر شبكات الاتصال وخطورة الطرق السفرية والتدهور المريع في الأوضاع الأمنية”.
من جانبها أكدت عضو هيئة محامو الطوارئ رحاب مبارك أن عدداً من ضحايا الاعتداءات الجنسية قد لجأن إليهن/م من أجل الحصول على بروتوكولات طبية للإجهاض.
حيث وثقت إجهاض (20) ناجية/ضحية بشكل قانوني بعد اغتصابهن من قبل قوات الدعم السريع.
وأعلنت عضو الهيئة، عن طلب (370) ضحية/ناجية للبروتوكول السريري لمعالجة الاغتصاب.
أنماط محددة للجرائم الجنسية
وفي تتبعها لهذه الجرائم التي وضعت حيوات النساء والفتيات في السودان تحت خطر أكبر أثناء الحرب، فقد لاحظت شبكة صيحة في بيان صادر في 1 أيار/مايو، عددًا من الأنماط التي تتبعها مليشيا الدعم السريع في ارتكابهم لهذه الجرائم والتي حددتها كما يلي:
النمط الأول: نمط مرتبط بمنهج الغنائم، وهو نمط شائع نسبة لأن هذه المليشيا يحتوي تكوينها الأساسيّ على مجموعة من النهابة، هدفهم ودوافعهم الأساسية لاقتحام القرى والمدن هو نهب الممتلكات العامة والخاصة، وطرد السكان من منازلهن/م ومن أراضيهن/م لاحتلالها. ذهنية الغنيمة والتي هيّ محرّك أساسي لهذه المليشيا تدفعهم لاختطاف النساء والفتيات، حيث تمّ رصد وتوثيق حالات لبيع الفتيات كجزء من غنائم الحرب.
النمط الثاني: نمط مرتبط باختطاف الضحايا وإخفائهن واغتصابهن، وفي بعض الأحيان يقومون بإعادتهنّ لأسرهنّ مقابل فدية مالية، أو يقومون بالاحتفاظ بهنّ لاستخدامهنّ في أعمال مرتبطة بالسخرة الجنسية، والقيام بالأعمال المنزلية لأفراد المليشيا.
لنمط الثالث: بعد قيامهم باقتحام رقعة جغرافية معينة ونهب كل ما يمكن نهبه واحتلالهم للمنازل والأعيان المدنية ثم يصبح وجودهم أمرًا واقعًا وجزءًا من حياة السكان يقومون باستهداف منازل بعينها واغتصاب الفتيات والنساء؛ بغرض الانتقام أو الإذلال، أو كوسيلة لفرض السلطة.
الاختطاف والاستعباد الجنسي
وفقًا للمجموعة السودانية لضحايا الاختفاء القسري، فإنه ومنذ نيسان/ أبريل 2023، قد تعرض ما لا يقل عن 717 شخصًا للاختفاء القسري، من بينهن/م 51 امرأة وفتاة.
كما أشارت إلى تصاعد الاختطافات والعبودية الجنسية، حيث بات “الاستعباد الجنسي والاختطاف القسري والاسترقاق من أدوات الحرب ومحفزات التجنيد بالسودان”.
وفي تقرير للأمم المتحدة حول الموضوع فإن قوات الدعم السريع والمليشيات التابعة لها، قد اختطفت أكثر من 160 امرأة وفتاة اُحتجزن وسط ظروف أشبه بالعبودية خلال عام 2023.
وقدم الأمين العام للأمم المتحدة، يوم 23 نيسان أبريل الماضي، تقريره السنوي الـ 15 حول العنف المتصل بالنزاع إلى مجلس الأمن الدولي والذي يغطي الفترة من يناير إلى ديسمبر 2023.
وقال التقرير، أن “الأمم المتحدة تلقت معلومات موثوقة عن اختطاف أكثر من 160 فتاة وامرأة محتجزات، بما في ذلك تقارير عن اغتصاب نساء وفتيات واحتجازهن في ظروف أشبه بالعبودية”.
وأشارت الأمم المتحدة إلى أن “هناك تقارير تفيد بأن النساء والفتيات اللاتي اختطفن في ولاية الخرطوم نُقلن إلى مناطق أخرى خاصة دارفور وهن مقيدات بالسلاسل في الجزء الخلفي للشاحنات، تورطت قوات الدعم السريع أو المليشيات التابعة لها في جميع الحالات تقريبًا”.
وكانت شبكة صيحة قد أطلقت حملة من أجل عودة وسلامة النساء المفقودات في السودان، مبدية قلقها من تصاعد حالات الاختفاء القسري في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، ووجود أسواق قائمة لبيع النساء من الخرطوم في دارفور.
ولفتت الشبكة في تقرير بعنوان «تسعة أشهر من الرعب» إلى “التأثير المروع للاختفاء القسري على النساء والفتيات، وعائلاتهنّ ومجتمعاتهنّ التي تعيش حالة من الأسى والرعب. كما تتفاقم المخاوف بسبب احتمال تعرّض النساء والفتيات للعنف والاستغلال الجنسيّ أثناء احتجازهنّ”.
وأكدت “رصدها لحالات مؤكدة لاستعباد النساء والفتيات وإجبارهنّ على الطبخ وأداء المهام المنزليّة لجنود قوّات الدعم السريع في الخرطوم، كما ظهرت تقارير مماثلة مؤخرًا في ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة”.
ونبهت الشبكة إلى أن العدد المبلّغ عنه للنساء والفتيات المفقودات قد لا يعكس بشكلٍ كامل حجم هذه الأزمة، بسبب الخوف من الوصمة الذكورية وعدم وجود آليات للتبليغ إلى جانب الخوف من الانتقام الذي قد يساهم في خوف العائلات من التبليغ عن حالة اختفاء أو فقدان النساء والفتيات.
كما لفتت الشبكة الإنتباه إلى أنه بجانب “تزايد عدد النساء والفتيات المفقودات، هناك عدّة حالات لاختطاف الفتيات القصّر من قبل قوات الدعم السريع أمام عائلاتهنّ. وأشارت (صيحة) إلى اختطاف شقيقتين تبلغان من العمر 15 و13 عامًا، تمّ اقتيادهما تحت تهديد السلاح من أمام والدتهما من منطقة الكلاكلة جنوب العاصمة الخرطوم من قِبل قوات الدعم السريع”.
وأشارت إلى “أن الفتيات المختطفات عادة ما يتم نقلهن إلى جهات غير معروفة، ما يتسبب في صدمة وحزن عميق لأسرهنّ، إذ يعانون من الخوف عليهنّ بدون أدنى وسيلة لمعرفة مكانهنّ ومصيرهنّ”.
ورصدت الشبكة حوادث “اختطاف لطفلات واحتجازهنّ لبضعة أيام قبل إعادتهنّ إلى عائلاتهنّ في مركبات تتبع لقوات الدعم السريع. كما يتم منح العائلات بضائع من «المسروقات» كذلك عند إعادة الفتيات إلى أسرهنّ، وهو في الغالب للتغطية على جرائمهم بحقّ الفتيات. في بعض الحالات يتم إجبار العائلات على الانتقال لمنازل خالية في مناطق مختلفة من قبل قوات الدعم السريع، وهو على الأغلب لتفادي تتبع الحالات”.
تخطى عام من الحرب حاول فيه الشعب السوداني أن لا تكون آلامه مجرد أرقام وصور يتناولها الناس دون تحرك فعلي، عام أثبت حاول فيه هذا الشعب النجاة بكل الطرق.