تصاعد مقلق للعنف الأسري ضد النساء في لبنان.. هل يحميهن القانون؟

أقدم محسن موسى على قتل زوجته مديانا عباس عبر إطلاق النار عليها من بندقية صيد قبل أن ينتحر في البقاع الغربي، ليرتفع بذلك عدد جرائم قتل النساء في لبنان إلى 12 جريمة قتل علنية منذ بداية العام 2024 حتى هذا التاريخ. فيما تشهد البلاد تصاعدًا لوتيرة العنف القائم على النوع الاجتماعي، في انعكاسٍ واضحٍ لتجليات النظام الأبوي الذي ما يزال يبرر العنف ضد النساء، لا سيما العنف الأسري.

يطرح هذا الواقع جملة من الأسئلة حول الشغورات القانونية المتعلقة بجرائم العنف القائمة على النوع الاجتماعي، والعقبات أمام إقرار قانون شامل للعنف ضد النساء يُمكن أن يحدّ من الممارسات العنيفة، مساهمًا في تجسيد العدالة الاجتماعية والإصلاحات القانونية التي يمكن أن تُساعد في كسر القوالب النمطية الجندرية، ما يُعد بدوره شرطًا من شروط التصدي للعنف.

تصاعدٌ مطردٌ لجرائم العنف الأسري

في مؤشرٍ مقلق، بلغ عدد شكاوى العنف المبلّغ عنها عبر الخط الساخن لدى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي (1745) في الأشهر الخمسة الأولى من العام 2024 حوالي 318 شكوى، بحسب ما أوردت “الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية” عبر موقها.

وتكشف الشكاوى أن مصدر العنف في معظم الحالات هو أحد أفراد الأسرة الواحدة (الأب، الإخوة، الأم، الزوج)، إذ بلغ عددها 268 حالة تقريبًا.

كما سجّلت إحصائيات قوى الأمن الداخلي، خلال السنوات الأربعة الأخيرة، نسبًا مرتفعة جدًّا من التبليغات عن الاعتداءات الجسدية، بحسب الأرقام التي حصلت عليها “شريكة ولكن”.

وعلى الرغم من الارتفاع الخطير عدد التبليغات، وأغلبها الساحق من نساء وفتيات، إلا أنها لا تعدّ انعكاسًا حقيقيًّا لواقع التعنيف بحقهن. إذ تتردد الكثيرات عن التقديم بشكوى بسبب الخوف أو التهديد أو العجز عن الخروج من دائرة المعنف، أو تجنّبًا للوم أو الوصم، و/ أو لأسباب كثيرة أخرى.

وبحسب الأرقام التي حصلت عليها “شريكة ولكن” من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ورد 1487 تبليغ عن جريمة اعتداء جسدي خلال عام 2020، و1333 تبليغ عام 2021، و948 تبليغ عام 2022، و872 تبليغ عام 2023. وبالاطلاع على مصادر الاعتداء، تبيّن أن العدد الأكبر من المعنّفين هم من الرجال، وتحديدًا رجال العائلة. إذ جاءت أعلى نسب الشكاوى عن عنف الزوج، يليه عنف الوالد ثمّ الشقيق. (طالع/ي الرسم البياني أدناه)

 

في سياقٍ متّصل، كشفت إحصائيات قوى الأمن الداخلي عن استمرار الارتفاع بمستويات جرائم القتل التي تطال النساء والفتيات في لبنان.

ففيما بلغ عدد الجرائم 12 جريمة في النصف الأوّل من العام الجاري، رصدت المديرية العامة لقوى الأمن مقتل 28 امرأة في عام 2020، و24 امرأة في عام 2021، و26 امرأة في عام 2022، و29 امرأة في العام 2023. مع التأكيد أيضًا على عدم تمثيل هذه الأرقام للصورة الحقيقية، في ظل جرائم لا يتم رصدها، وجرائم لا يتم التداول بها في الإعلام، وأخرى يتم تصنيفها على أنها “حالات انتحار”.

 

أبعاد: 667 شكوى عنف منذ بداية العام

من جهتها، تلقّت جمعية “أبعاد” 667 اتصالاً على خط الطوارئ المخصص لتلقي شكاوى العنف منذ بداية العام الجاري.

في مقابلة مع “شريكة ولكن”، أشارت المنسقة التقنية لإدارة الحالات في الجمعية ليلى حمدان، إلى أنه “في ظل ارتفاع حالات العنف ضد النساء، وتعبّر النساء اللواتي يلجأن إلى الجمعية عن قلقهن الدائم وعدم شعورهن بالأمان والاستقرار”. ولفتت إلى أن “العوامل الثقافية والاجتماعية التي تبرر العنف تزيد من قلقهن”، موضّحةً كيف “تُواجَه بعض النساء اللواتي يلجأن إلى الأهل هربًا من العنف الزوجي بالرفض، ولا زلن يسمعن عبارة ’من بيت زوجك لمقبرتك’”.

وعن أنواع العنف الأساسية التي يتم التبليغ عنها، عدّدت حمدان لـ”شريكة ولكن” : “العنف الجسدي الذي يأتي على شكل اعتداء وإيذاء بدني ويمكن أن يؤدي إلى القتل، العنف النفسي وهو التهديد أو الإهانة أو التحكم النفسي، العنف الجنسي الذي يندرج تحته الاغتصاب والتحرش الجنسي والإكراه على ممارسة سلوكيات جنسية، العنف الاقتصادي وهو عبارة عن التحكم بالموارد المالية ومنع المرأة من العمل أو التحكم براتبها، والعنف الاجتماعي الذي يقوم بعزل النساء عن محيطهن وعائلاتهن اجتماعيًّا”.


كفى: نتلقى شهريًّا من 80 إلى 100 طلب دعم من نساء يتعرضن للعنف

من ناحيتها، أفادت منظمة “كفى” عن تلقي ما بين 80 و100 طلب دعم لنساء تعرضن لأنواع عنف مختلفة شهريًّا، بحسب ما كشفت مسؤولة العنف الأسري في المنظمة المحامية ليلى عواضة في حديثٍ لـ”شريكة ولكن”.

وفي حين اعتبرت أن “ارتفاع حالات التبليغ عن العنف يعكس ارتفاعًا في الوعي وتغيّرًا في شكل التفاعل مع سلوك العنف”، أكّدت أن “الأرقام لا تعكس واقع العنف ذلك أن التبليغ ليس خيارًا لكل النساء”.

ونوّهت إلى أن “صورة العنف ضد النساء نستطيع رؤيتها في القوانين اللبنانية، وفي الأحكام القضائية التي تبرر للقتلة ارتكابهم جرائم العنف ضد النساء بحجة الغضب. ناهيك عن تبرير ثقافة العنف مجتمعيًّا وتحميل المسؤولية للضحايا/ الناجيات”.

في الواقع، لا ينفصل العنف ضد النساء عن القيم الذكورية السائدة في المجتمع. تمنح هذه الأخيرة الرجال حق السيطرة على أجساد النساء، فتُساهم بتنامي الظواهر العنفية بحقهن وتعرضهن لخطر القتل، ذلك أن العنف يُشكل علامة من علامات السيطرة التي يمارسها الرجال للمحافظة على سلطتهم، متواطئين مع بنية اجتماعية كاملة تبرر القمع الممنهج ضد النساء.

من القانون رقم 293 إلى قانون “شامل”

فيما تُساهم السلطات في الكثير من الأحيان بإعادة إنتاج النظام الأبوي، تبرز القوانين كأحد العناصر الفعالة في مواجهة العنف القائم على النوع الاجتماعي. وفي لبنان، ما زالت المنظومة القانونية غير قادرة على التعامل مع جرائم العنف المصلتة على رقاب النساء بطريقةٍ جدّية ومسؤولة.

ففي العام 2014، وجد قانون العنف الأسري الرقم 293/2014 طريقه إلى الإقرار مُشتملاً على تدابير هامة لحماية المرأة رغم ما حمله من ثغرات. وفي العام 2020، تم إقرار بعض التعديلات على القانون، بناءً على اقتراحات كلّ من وزارة العدل ومنطمة “كفى” والهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية. كان أبرز تلك التعديلات تضمين العنف الممارس من الطليق في القانون، وشمول أمر الحماية أطفال الضحية البالغين من العمر 13 سنة وما دون بغض النظر عن السن القانوني للحضانة.

رأت المحامية ليلى عواضة أن “هذا القانون استطاع تحسين واقع النساء، وساعد على توفير الحماية لهن لما شمله من آليات فعالة وواضحة”، مبيّنةً أن “قرار الحماية هو الأكثر طلبًا عند النساء سواء كان مرافقًا لشكوى أو غير مرافق لها”. غير أن هذا القانون يشتمل على أوجه قصور عديدة، وفقاً لعواضة، “أهمها أنه ليس مخصصًا للنساء فقط، كما هو الحال بالنسبة لقانون تجريم التحرش، ما يُضعف لجوءهن للقانون من أجل تقديم شكوى. اما بالنسبة لقانون تجريم التحرش فالناجيات/ الضحايا مثلاً لا يمكنهن الإستفادة من قرار الحماية”.

انطلاقاً من هنا، تقدمت “كفى” باقتراح “القانون الشامل لمناهضة العنف ضد المرأة” بالتعاون مع النواب نجاة صليبا، بولا يعقوبيان، مارك ضو، حليمة قعقور، فراس حمدان، سينتيا زرازير، وميشال دويهي.


رغم أن “المشكلة الأساسية هي في تطبيق القوانين الموجودة والمراقبة والمحاسبة” بحسب تصريحٍ للنائبة نجاة عون لـ”شريكة ولكن”، إلا أن “أهمية هذا القانون تكمن في شموليته”.

إذ اعتبرت أنه “يلحظ كل أنواع العنف، ومنها العنف الجسدي والنفسي، ومن هنا تأتي أهمية الضغط من أجل مناقشته في اللجان المختلفة: لجنة المرأة، لجنة حقوق الإنسان، ولجنة العمل”.

تجدر الإشارة إلى أن اقتراح القانون مرمي حاليًّا في أدراج المجلس النيابي، وسط تجاهلٍ يبدو متعمدًا لواقع النساء المعرضات للعنف، وتهاونٍ في التعاطي مع القيود التي تمنعهن أحيانا من تقديم الشكوى.

عقبات أمام تشريع “القانون الشامل”

يبدو أن إقرار “القانون الشامل لمناهضة العنف” قد يشكل رادعًا قانونيًّا إضافيًّا أمام ممارسات العنف المتكررة ضد النساء، بخاصة أنه يُجرم كافة أشكال العنف، بما فيها الاغتصاب الزوجي الذي لا يعترف به القانون اللبناني كجريمة، ممثلاً أحد أوجه القصور التشريعية الصارخة في حماية المرأة من التعنيف. إلا أن مشروع القانون يُواجه اليوم العديد من العقبات التي تحول دون تشريعه.

في هذا الصدد، يُؤكد النائب مارك ضو أن “العقبة الأكبر اليوم أمام إقرار القانون هي الوضع السياسي وما يُعانيه لبنان من شغور رئاسي، إضافةً إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي”. كما أن “الكثير من المنتفعين يستفيدون من القوانين القائمة لضرب الحريات والحقوق والمحافظة على أبوية النظام والذكورية المكرسة في بعض القوانين”.

علاوة على ما سبق، أشار ضو إلى تصنيفات الأولويات وفق المنظومة الأبوية، معتبرًا أن “الحرب في الجنوب نقلت المسائل الحقوقية من الأولويات، لتتغلب عليها حالة الطوارئ الإنسانية”، وفق ما قال لـ”شريكة ولكن”.

من جهتها، وصفت النائبة بولا يعقوبيان مسألة التوقيت المتمثلة بسؤال “هلأ وقتها؟” بأنها “مُضحكة”. واعتبرت، في حوار مع “شريكة ولكن” أن “القانون لا يحتاج سوى دقائق لتشريعه، ولكن العنف الأسري ووضع النساء ككل ليس أولوية في هذا النظام البطريركي”. ووفق تعبيرها، فإن “التحدي الأكبر هو أن يتكوّن رأي عام داعم لا يعتبر المواضيع المتعلقة بالنساء ثانوية”.

ولفتت إلى أن “الكتل النيابية الكبيرة هي التي تُعرقل هذه القوانين، فهي تعتبر أن النساء في مكانةٍ جيدة، وقد أكرمتها الأديان وأعطتها حقوقها كاملة، لماذا نحتاج إلى تشديد القوانين إذًا؟”.

لا يتم لصق المفاهيم الأبوية بالقوانين وحدها إذًا، فالعنف يُشرَع حتى باسم الدين الذي يُستخدم أحيانا لمصادرة الحرية الشخصية للنساء، ومنح الأسرة سلطة “معاقبتهن”، وإعطاء المبررات لـ “الرجال القوامين” عند ارتكابهم الممارسات العدوانية في مسعى لإعفائهم من نيل العقوبات بذريعة الدين.

دور الشرطة البلدية للحد من العنف الأسري

بالعودة إلى قانون العنف الأسري رقم 293/2014، فقد نص على إصلاحات تمنح قطاع الشرطة البلدية حق التدخل للحد من العنف الأسري.

إلا أن البلديات تُفضل عدم التدخل في النزاعات الأُسرية، ما يثير الكثير من التساؤلات حول تقاس شرطة البلدية عن أداء دورها من ناحية، وعن الثغرات الواجب معالجتها لتفعيل دورها وتمكينها من صلاحياتها ومراقبة تنفيذها، في ظلّ سيطرة الثقافة الأبوية.

في هذا الإطار أظهرت نتائج المسح الذي أجرته “المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية” في العام 2018 أن 10% فقط من المجيبين على المسح قلن/قالوا إن قوات الشرطة البلدية تُعالج العنف الأسري. واعتبرت الدراسة أن عددًا ملحوظًا من قوات الشرطة البلدية غير متمكن من اختصاصه، ويتجنب المهام التي تتطلب منه استخدام القوة.

ورغم الغموض الذي يكتنف أدوار الشرطة المحلية نظرًا لتوزعها في عدة نصوص قانونية، إلا أن قانون البلديات ينص بوضوح على أن رئيس البلدية “له أن يطلب مؤازرة القوى الأمنية عند وقوع أي جرم أو احتمال حدوث ما قد يهدد السلامة العامة وأن يباشر التحقيقات اللازمة”.

طبقاً لحديث ممثل “المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية” في لبنان الدكتور أندريه سليمان لـ”شريكة ولكن”، يمكن للشرطة البلدية “التدخل في أي أمر من شأنه أن يخل بالسلامة العامة والأمن على صعيد البلدية. ولأن الشرطة البلدية هي الأقرب إلى مجتمعها المحلي، يمكنها أن تقوم برصد العنف وتبليغ قوى الأمن الداخلي، وتقع على عاتقها ضرورة التوعية بحقوق الأشخاص المعنفين”.

وفيما إذا كانت الشرطة البلدية تقوم بواجباتها، يقول الدكتور سليمان: “الكثير من المهام تقع على عاتق الشرطة البلدية، وبما أن عديد الشرطة ليس كافيًا والرواتب متدنية جدًّا، لن تتمكن من القيام بدورٍ فعال”.

ينسحب إذًا عدم تطبيق القوانين بحذافيرها على البلديات، وإن كانت عدم الرغبة في التدخل بالشؤون الأسرية سببًا واردًا، لكن الأمر مرده في الغالب إلى التطبيع الإجتماعي مع العنف المسلط على النساء، والرغبة بالمحافظة على مقومات الأسرة الأبوية التي تغذّي مظاهر العنف.

هل من إصلاحات قانونية إضافية؟

لا تتحمل القوانين المتعلقة بالعنف وحدها مسؤولية الحد من المخاطر التي تتعرض لها النساء في لبنان، فتوغل الثقافة الذكورية في المجتمع يتطلب وضع رؤية متكاملة لنبذ النظرة الدونية للمرأة.

في هذا السياق، يعتبر النائب مارك ضو أن “الكوتا الإنتخابية، عبر إعطاءها حقوق النساء السياسية، يمكن أن تلعب دورًا فعالًا في تغيير نظرة المجتمع إلى المرأة وتفاعله مع حقوقها”. ولفت إلى وجود “عدد من الاقتراحات المتعلقة بالضمان الاجتماعي والتعويضات العائلية التي يمكنها أن تُنصف بين النساء والرجال”. وعن القانون المدني للأحوال الشخصية المقترح، اعتبره أنه “من الممكن أن يكون أحد المخارج للحد من العنف ضد النساء“.

من جهتها، ترى المحامية في منظمة “كفى” ليلى عواضة أننا لن نتمكن من الحد من ظاهرة العنف ضد النساء وخاصة قتل النساء داخل الأسرة دون “التصدي لقوانين الأحوال الشخصية الطائفية التي تميز ضد النساء وتضعهن بموقع التبعية وتفرض عليهن الطاعة، بينما تعطي السلطة المطلقة للرجال داخل الأسر”.

يُثير ذلك ضرورة إعادة التوازن بعلاقات القوة غير المتكافئة داخل الأسرة التقليدية كونها ما زالت تضع الرجال في أعلى الهرم وتدفعهم بالتسلط على أجساد النساء والتحكم بمصائرهن. ويطرح ذلك أهمية كسر الأنماط والقوالب الأبوية انطلاقًا من الأسرة والمؤسسات التعليمية كنوع من أنواع التصدي للعنف ضد النساء.

 

كتابة: كلارا نبعة

“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني”.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد