من السجن إلى العنف الرقمي…كيف تقمع الدولة التونسية الناشطات
عرفت تونس في السنوات الأخيرة منعطفات تاريخية خصوصًا بعد مسار ثورة 2011، التي قادتها النساء والشباب. وساهمت في تغيير الكثير من الوقائع السياسية والاجتماعية في البلاد.
مع ذلك فإن انخراط النساء في الحياة السياسية أصبح يعرف تهديدات كبيرة من 2021، حيث تراجعت نسب المشاركة السياسية واستهدفت الناشطات بالسجن والابتزاز والتهديد.
في هذا الصدد نشرت جمعية تقاطع من أجل الحقوق والحريات، تقريراً يتابع المنعطفات التي مرت بها تونس منذ سنة 2021. والتي عرفت تقييداً للحريات والحقوق وحق التعبير.
منهجية التقرير
اعتمدت الجمعية في تقريرها على منهجية المقابلات، حيث أجرت مقابلات واتصالات هاتفية مع ضحايا الانتهاكات.
كما جمعت بيانات من منظمات المجتمع المدني والأحزاب، ومعلومات من وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
واستعان التقرير بتحليل بحوث وتقارير سابقة لمجموعة نسوية وحقوقية، تتضمن شاهدات من نسويات وحقوقيات تعرضن للقمع على يد النظام التونسي.
تتبع مسار الانتهاكات
تتبع التقرير المسار الزمني للانتهاكات منذ تموز/يوليو 2021. وهو الوقت الذي بدأ فيه النظام التونسي القائم، بتدشين حملة من الاعتقالات التي تمثلت في محاكمات عسكريّة، وإحالات لمدونين ومدونات وقرارات الإقامة الجبرية لعدد من الأشخاص دون الكشف عن الأسباب القانونية لذلك.
ومنذ 25/تموز يوليو 2021 وقعت متابعات أمنية وقضائية لعدة صحفيين/ات ومحامين/ات، وأعضاء بالبرلمان السابق ورموز سياسية ورئيس سابق، إذ لوحقوا/ن قضائيًا بسبب معارضتهن/م لهيمنة الرئيس على السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
وقد شملت هذه الحملات عدة شخصيات سياسية وإعلامية وحقوقية وعاملات/ين في قطاع المحاماة، بالإضافة إلى ملاحقة الناشطات المقيمات في الخارج مثل بشرى بالحاج والحكم عليها غيابيًا وتهديدها بالسجن عند عودتها.
شهدت تونس حسب التقرير في الأشهر الماضية موجة من الاعتقالات السياسية والملاحقة القضائية التي طالت صحفيات/ين، وناشطات/ين.
وهو ما وصفه التقرير بإعادة القضاء للمربع الذي كان فيه إبان الحكم الاستبدادي ماقبل 2011. كما مُورست اعتقالات بالجملة ضد الصحافيات/ين والناشطات/ين لايزال العديد منهن/م في السجن دون تهم واضحة، سوى دعم المهاجرات/ين ومعارضة النظام.
وتميزت سنة 2023 بموجة شديد العدائية للمهاجرات/ين القادمين/ات من البلدان الإفريقية إلى تونس.
النساء السياسات في تونس بين القمع ومحاولة الطمس
تعرضت النساء السياسات في تونس لجملة من الاستهدافات القمعية، التي طالت حياتهن السياسية وحاولت ثنيهن عن المشاركة الفعالة، بل وهددت مستقبلهن في المجال العام.
في هذا الصدد رصد تقرير جمعية تقاطع عدة نماذج لسياسيات تونسيات تعرضن لحملات قمع ممنهجة منهن:
القيادية بجبهة الخلاص الوطني شيماء عيسى، التي مثلت أمام الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية ببن عروس مطلع كانون الثاني 2023.
وطالتها تهم تتعلق “بتحريض العسكريين بأي وسيلة كانت على عدم إطاعة الأمر وإتيان أمر موحش ضد رئيس الدولة وترويج ونشر أخبار كاذبة عبر وسائل الإتصال الاجتماعي، بهدف الإضرار بالأمن العام”.
وقد قضت الناشطة السياسية شيماء عيسى 141 يومًا في السجن تعرضت فيها لمضايقات عديدة، وعنف لفظي ومعنوي أثر بشكل كبير على نفسيتها.
في ذات السياق القمعي تعرضت رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، للإيقاف في تشرين الأول 2023، بعد توجهها للقصر الرئاسي رفقة محامي الحزب وعدل منفذ لإيداع طعنٍ في قرارت الرئيس المتعلقة بالانتخابات المحلية.
ونشرت عبير مقاطع مصورة من هذا الاحتجاج، فإذا بها تواجه تهم تتعلق “بتغيير هئية الدولة وحمل السكان على مواجهة بعضهم البعض بالسلاح وإثارة القتل وسلب الأرض التونسية”.
وهكذا تقبع عبير موسي منذ الخامس من تشرين الأول في السجن لا لشيء سوى لممارستها لحقوقها الدستورية والمدنية.
وما تزال ممنوعة من مقابلة من مقابلة هيئة الدفاع الخاصة بها وتمنع عائلتها من زيارتها.
كما تعرضت إلى هجوم إلكتروني واسع تمثل في السب والشتم وكيل التهم الأخلاقية والسياسية.
من بين السياسيات اللواتي تعرضن للقمع أيضًا، الناشطة في حركة النهضة يمينة الزغلامي، التي تعرضت للعنف اللفظي والمعنوي بعد مشاركتها في المظاهرات التي انطلقت منذ طوفان الأقصى رفقة نشطاء/ات من الحزب. إذ تعرضت للاعتداء من طرف أحد المواطنين تمثل في العنف اللفظي والمعنوي، ولم تتحرك السلطات لإيقاف هذا العنف بذات الوقت تهاجم وتقمع كل من يعارض النظام.
الصحافيات والمحاميات تحت سياط القمع
في ذات السياق، رصد التقرير تعرض العديد من الصحافيات والمحاميات في تونس لحملات قمع وتشهير واسعة، بسبب نشاطهن الإعلامي والحقوقي وتغطيتهن للواقع السياسي في البلاد.
كما واجهن حملات تحريض وتشهير في وسائل التواصل الاجتماعي. وتم تقييد حرية عملهن، بل ومنعت العديد منهن من النشر والكتابة والظهور على وسائل الإعلام. كما تعرضت العديد من الصحافيات للتهديد والاعتداء والمنع من الوصول للمعلومات والابتزاز.
ومن بين الصحافيات اللواتي رصد التقرير تعرضهن لهذا العنف نجد:
أروى بركات صحفية ومدافعة عن حقوق الإنسان، وتعمل كمسؤولة اتصالات في المنظمة الدولية لحقوق الأقليات في تونس. ونشطت في توثيق الحركات الاجتماعية منذ 2011.
تم الاعتداء على أروى بركات من قبل عناصر للشرطة في 2021، ولما توجهت للشكوى بحقهم تم توجيه تهم الاعتداء على عون الأمن إليها، لتبدأ بعدها سلسلة من المحاكمات لفّقت فيها تهم لأروى وتجاهل العنف الذي تعرضت له.
كما تعرضت الصحفية في جريدة الصباح منية العرفاوي إلى جملة من الانتهاكات والملاحقات القضائية على خلفية نشاطها الصحفي.
وجهت لمنية سلسة من الاتهامات في عدة قضايا، منها نشرها لتحقيق صحفي حول فساد وزارة الشؤون الدينية فيما يتعلق بالحج. وكذا نشرها لمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي. ووجهت لها تهم صورية منها نشر أخبار كاذبة أو نشر إشاعات.
وقد نددت نقابة الصحفيين/ات والهيئات الحقوقية بهذا الاستهداف الذي كان له أثر كبير على الكثير من الصحافيات/ين والأصوات المعارضة.
طال الاعتقال أيضًا الصحفية التونسية شذى الحاج مبارك وأميرة محمد، وسنية الدهماني، وهن صحافيات وناشطات حقوقيات توبعن بسبب تغطيتهن الصحفية للقمع الحاصل في البلاد منذ تولي قيس سعيد للسلطة، وتأثير ذلك على الأقليات وعلى رأسها النساء والطبقات العمالية، والمهاجرات/ين.
نسويات وناشطات مدنيات تحت وطأة القمع
في سياق متصل واجهت نسويات وناشطات مدنيات في تونس موجة من الانتهاكات الخطيرة، لحقوقهن الأساسية. كما تعرضن لحملات التشهير والتحريض على العنف، بالإضافة إلى ملاحقتهن بالأحكام القضائية والاعتقالات التعسفية.
وقد تعرضت هؤلاء الناشطات والنسويات للاعتقالات التعسفية التي كانت تتسم بالعنف والانتقام من مواقفهن السياسية. ودعم هذه الحملات قطاع واسع من الفئات المناهضة للنسوية والكارهة للنساء، وحتى من الفئات العنصرية التي هاجمت هؤلاء الناشطات بسبب وقوفهن ضد سياسات النظام المعادية للمهاجرات/ين.
تناول التقرير قضية كل من، بشرى بالحاج حميدة، وأسرار بن جويره، ومريم بريبري، شيماء الجبالي، وغفران بنيوس، ودليلة مصدق، وسعدية مصباح…وغيرهن من الناشطات اللواتي طالتهن الحملات القمعية، تحديداً في الشهرين الماضيين.
العنف الجندري ضد النساء الناشطات في الفضاء الرقمي
رصد التقرير أيضًا تصاعداً في وتيرة العنف ضد النساء، الذي لم يقتصر على هياكل العنف التقليدية، بل أيضًا شمل العنف الرقمي. حيث تزايد هذا النوع من العنف في وسائل التواصل الاجتماعي، وتضمن أنواع العنف اللفظي والمعنوي والتحريض ضد الناشطات بخطاب أبوي.
وقد حلل التقرير بعض “التقارير والدراسات وما أفصحت عنه المعطيات الميدانية للشهادات والمقابلات، والتي تبين أن أغلب الضحايا الأكثر تضرراً من العنف الرقمي يمثلن الفئات التالية:
-الفتيات الناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي مثل (إنستقرام، تيك توك، فايسبوك، تويتر…) من التلميذات والطالبات من خلال استهداف التعبيرات الجسدية والجمالية وكل من تعرض صورها على الشبكة الرقمية.
-الصديقات الفعليات أو على الشبكة: الصديقات الحميمات سابقاً لبعض المعتدين أو صاحبات العلاقات الحميمية الحالية اللواتي يخترن القطيعة معهم ليصبحن موضوع تهديد بالعنف الجسدي والاغتصاب أو تهديد بالمحاصرة والرقابة اللصيقة.
-الناشطات السياسيات والمدنيات، صاحبات الرأي والمواقف السياسية سواء المعارضة للسلطة أو المناصرة لها.أو النقابيات أو النسويات اللاتي يصدرن مواقف على الشبكات الاجتماعية لا تستسيغها سلطات الإشراف وما إن تحرض عليها حتى تصبح هدفا مميزاً لكثير من أشكال العنف.
-الصحفيات اللواتي ينقلن أحداثًا أو يعبرن عن تعليقات صحفية قد تحسب على هذا الطرف أو ذاك. سواء تعلق الأمر بفترة الاستقطاب الثنائي التي تشكلت منذ 25 تموز/يوليو 2021. أو بما سبقها من استقطاب سياسي وأيديولوجي عرفته الساحة السياسية والمدنية منذ 2011 أمثال المرحومة نجيبة الحمروني، مايا القصوري، وأخيراً منية العرفاوي وأميرة محمد.
-المهاجرات من البلدان الإفريقية اللواتي تعرضن لمحتويات عنصرية أو لتبرير العنصرية ضد المهاجرات، بعد الخطابات العنصرية والتحريضية التي صدرت عن رئيس الجمهورية. والإجراءات العنصرية التي اتخذتها الدولة بالتهجير القسري للمهاجرين والمهاجرات، ونقلهن/م إلى الصحاري على الحدود الجزائرية والليبية في عز الحرّ” .
أشكال العنف الرقمي ضد الناشطات في تونس
صنف التقرير العنف الرقمي ضد النساء في تونس لأشكال مختلفة، وذلك يرجع لاتساع نطاق العنف واستدامة تأثيره.
وهذا ما يترك أثراً كارثيًا على الضحايا، حيث تصبح حيواتهن عرضة للخطر والفضح بسبب طريقة انسياب العنف والكراهية الأبوية. وهو ماعبرت عنه الشهادات والمقابلات التي أجراها فريق البحث، والتي كشفت عن آثار كارثية لطرق الاستهداف التي يعتمد عليها المعنفون والحشود على وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن بين الأصناف العنيفة للفضاء الرقمي التي رصدها التقرير، نجد انتشاراً مهولاً للعنف اللفظي، حيث يعمد المهاجمون على استخدام ألفاظ مهينة وتعابير جارحة. وكذا استخدام اللغة الأبوية التي تعير النساء بجنسانيتهن وأجسادهن وهويتهن الاجتماعية.
وحلل التقرير الخطاب الذكوري الذي يتم استخدامه ضد الناشطات، والذي يتعمد التذكير بالأدوار الجندرية للمرأة، وتحقير وجودها في الفضاء العام باعتبارها لا تنتمي إليه.
كما يستخدم العنف العنصري بشكل كبير على شبكات التواصل الاجتماعي، بما فيها التعابير العنصرية الفظيعة، ويتضاعف هذا النوع من العنف إذا كانت المستهدفة امرأة. فيكون الاستهداف ذو حدين جندري وعنصري.
انتهاك الحياة الخاصة
وثق التقرير أن العنف الرقمي الممارس ضد النساء وتحديداً ضد الناشطات والنسويات، يتسم باستخدام آليات أبوية مثل الفضح والتجسس وانتهاك الحياة الخاصة. يأتي ذلك بعدة أشكال منها نشر الصور والمقاطع الخاصة والحميمية للضحايا على شبكات التواصل الاجتماعي. وانتهاك حيواتهن الحميمية مثّل علاقاتهن العاطفية، والانتقام منهن.
وشمل التقرير عدة نماذج لناشطات وحقوقيات تعرضن لهذا العنف وأثر على صحتهن النفسية.
كما رصد التقرير أن لهذا النوع من العنف آثار سلبية على الصحة النفسية للضحايا، حيث بين أن العنف الأبوي بكل أشكاله يضع الكثير من النساء في تونس تحت وطأة الاضطرابات والصدمات النفسية، ويهدد أمنهن الاجتماعي.
في الختم فإن التقرير قد شمل العديد من الانتهاكات التي طالت الناشطات والنسويات والصحافيات، من قبل الدولة التونسية.
ويأتي هذا النوع ضمن سياق عام يتسم بمعاداة النساء والأقليات، ونشر النظام التونسي لخطاب الكراهية خصوصًا على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعرف نمواً في العنف القائم على النوع والعنف العنصري.