نساء غزة في إيطاليا.. صدمات الموت والغربة
تمكنت ثلاث نساء من قطاع غزة خلال صيف 2024 من الوصول إلى إيطاليا، بحثًا عن علاج لأطفالهن/طفلاتهن المصابين/ات بجروح بالغة.
وذلك إثر إبادة الاحتلال الإسرائيلي للغزيين/ات، بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تتشارك هؤلاء النساء، اللواتي وصلن مدن إيطالية مختلفة وحيدات، مصيرًا وهمومًا واحدة. إذ خلّفت الإبادة الوحشية صدمات نفسية بعد فقدانهن لعائلاتهن، واجتثاثهن من غزة بدافع العلاج في الخارج.
اعتقدنا أن الحرب ستنتهي عما قريب. لكنّ ما حدث أنني اليوم في إيطاليا.
ثلاث نساء وحرب واحدة
تعيش الأم صابرين بركة، 27 عامًا، المنحدرة من مدينة دير البلح في غزة مع طفلها يوسف (3 سنوات) في مدينة بارما. وصلت إيطاليا منذ شهرين، لإنقاذ قلب طفلها سيف الدين الذي ولد بداية عام 2024.
تتشارك عائلة شيماء، 29 عامًا، بيتًا واحدًا في مدينة بادوفا شمال إيطاليا مع عائلة آلاء الشرفا، 17 عامًا، ووالدتها.
هُجّرت شيماء من مدينة خانيونس مع طفلاتها الثلاث ساندي (عام واحد)، وزينة (3 سنوات)، ولانا (4 سنوات)، بينما هُجرت آلاء ووالدتها مؤمنة من غزة.
قابلت عائلة شيماء وعائلة آلاء صدفة في ساحة “براتو ديلا فالّي” في بادوفا، بمناسبة يوم المتطوعين/ات. كانت والدة آلاء الشرفا تدفعها بكرسي متحرك بعد أن أفقدتها إصابتها القدرة على المشي.
فرض الواقع الجديد على العائلات الثلاث عدم مرافقتهن من طرف أزواجهن. وجاء هذا المنع تحديدًا بعد حصار رفح وقصف المعبر مع مصر وإحكام سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.
وقد سبق وأن سمحت السلطتان، حماس ومصر، بوصول الغزيين/ات إلى مصر عندما، كان المعبر تحت إدارتهما.
ولكن بعد فرض جيش الاحتلال سيطرته على معبر رفح، منع الغزيين/ات من السفر قطعيًا، إلّا عبر معبر “كرم أبو سالم” لحالات العلاج الطارئة وبتنسيق أمني مع جهاز “الشاباك” الإسرائيلي.
يمنع “الشاباك” مرور الرجال خارج القطاع بحجة احتمال ضلوعهم في عملية “طوفان الأقصى”، ويُخضعهم للاعتقالات الجماعية والتعذيب أو القتل، في إطار العقاب الجماعي لسكان القطاع.
فقدت آلاء عائلتها كاملة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، والمؤلفة من الأب والأخوين والجد والجدة. كما أُصيبت بحروق من الدرجة الثالثة طالت قدميها كاملة، فضلاً عن إصابة والدتها بحروق مختلفة الدرجات. وقد استطاعتا النجاة بعد 16 ساعة تحت الأنقاض بفضل صراخ آلاء.
وبينما نزحت عائلة شيماء عدة مرات من خانيوس حتى رفح ثم العودة إلى أحد المخيمات في مواصي خانيوس، فقدت ابنتهما الوسطى زينة نصف وجهها في حروق من الدرجة الثالثة أيضًا.
View this post on Instagram
النزوح والعلاج في مشافي غزة
لجأت عائلتا شيماء وآلاء الشرفا في نهاية المطاف إلى المستشفيات بعد أن خسرتا بيوتهما بالكامل. تقول مؤمنة
الشرفا، والدة آلاء: “سوّي بيتنا المؤلف من أربعة شقق في الأرض. أولادي ما زالوا تحت الأنقاض. تمكنّا فقط من
دفن زوجي ووالدتي وأبي”. في حين تركت شيماء زوجها نازحًا في أحد المخيمات بمدينة خانيوس، بعد أن فقدا منزلهما في قصف مدفعي.
تلقت آلاء علاجًا طويلاً وأليمًا في مشفى المعمداني لحوالي 4 شهور قبل تحويلها للخارج لإكمال العلاج. خضعت
لخمس عمليات ترقيع جلد في قدميها. تصف والدتها صعوبة استلقاء ابنتها لمدة أربعة أشهر على ظهرها دون حركة.
في تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان شمال القطاع يشهد جرائم مكثفة وقصفًا مبرمجًا وعمليات نزوح كبيرة نحو
الجنوب.
فحوصرت آلاء ووالدتها داخل مشفى المعمداني في تشرين الثاني/نوفمبر، وبدأت المجاعة وارتفاع الأسعار في
الشمال. تقول مؤمنة الشرفا: “فقدت ابنتي آلاء وزنًا هائلًا. كان العلاج يتضارب مع شهية الطعام لديها. كلما أكلت شيئًا، تقيأته.
وفي أيام حصارنا، استيقظت تشتهي الطعام. تجوّلت في المشفى أبحث عمّن يقاسمني كسرة خبز، لكنّ لا أحد كان يجرؤ على مشاركة طعامه في ظل المجاعة”.
تركت شيماء خيمتها وأقامت مع عائلتها في المشفى الأوروبي. حيث تلقت ابنتها حوالي 30 جلسة ترقيع جلد للجانب الأيمن من وجهها ورأسها. وبينما تنام على السرير مع طفلاتها الثلاث، كان زوجها يفترش ممر المشفى مع آخرين.
تقول: “لا أصدق أن طنجرة الطعام الساخنة اندلقت فجأة فوق رأس زينة التي احتمت بي خوفًا من قصف قريب.
ركضت حافية إلى أقرب نقطة طبية في المخيم، ثم لاحقًا إلى المشفى الأوروبي. في اليوم التالي، وجدت جسمها ملفوفاً بالشاش الأبيض، لا تراني. بكيتُ بحرقة”.
بمساعدة الصليب الأحمر، خرجت شيماء مع طفلاتها نحو معبر “كرم أبو سالم”، ومن هناك توجهنّ وحدهنّ إلى مصر.
نسقت مؤسسة GAZA KINDER RELIFE خروج العائلتين نحو إيطاليا لاستكمال العلاج. تقول والدة آلاء: “بعد استكمال إجراءاتنا والحصول على التقارير الطبية اللازمة، توجهت مع آلاء نحو دوار النابلسي.
وبعد مضيّ أربع ساعات، سمحت لنا قوات الاحتلال بالمرور تحت ترهيب السلاح. التقيت بأقاربي على الناحية الأخرى، وفي سيارة وصلنا إلى معبر رفح”.
في حين تمكنت صابرين بركة عبر تحويلة طبية مباشرة وطارئة لطفلها سيف الدين من السفر إلى مصر بحثًا عن
علاج لشريان القلب الأورطي الذي بدأت أعراضه تظهر بعد أيام من ولادته. تقول: “بعد عشرة أيام من ولادة سيف
الدين، بدأت أعراض مثل الاختناق ورفض الحليب والبكاء المستمر تظهر عليه. لم يتأخر الطبيب في تحويلنا مباشرة
إلى مستشفيات مصر، ونصحنا بمرافقة الأم لطفلها تعجيلاً بإجراءات السفر”.
مضيفة: “كنّا نفكر بعلاج سيف الدين فقط، لم نفكر بمن يرافقه، واعتقدنا أن الحرب ستنتهي عما قريب. لكنّ ما حدث أنني اليوم في إيطاليا”.
المؤسسة التي تتولى شؤوننا لم توفر لنا حتى اللحظة أي دعم نفسي، رغم معرفتنا السابقة أن هذه الخدمات متوفرة
في مصر.. الحرمان من العلاج
وصلت الأمهات الثلاث وحيدات ومسؤولات عن أطفالهنّ إلى مصر، كلٌ على حدى. صابرين بركة وصلت إلى مشفى
المعهد القومي للقلب في الجيزة. بينما وصلت عائلة آلاء مجمع السويس الطبي، ثم إلى مشفى الصدر.
وفي رحلة عائلة شيماء البريّة، وصلت مشفى بير العبد في العريش، ثم تمّ نقلها إلى مشفى الشيخ زايد، لتتلقى
ابنتها زينة العلاج الخاص بالحروق. تقول شيماء: “توقف جهاز قصّ الجلد بعد يومين من وصلونا، واضطروا إلى نقلنا
إلى مشفى آخر وهو “أهل مصر” المختص بعلاج الحروق بالقاهرة”.
وفي سلسلة من الانتهاكات المصرية ضد العائلات الفلسطينية التي تتلقى العلاج في مصر، كانت إدارات
المشافي تمنع خروج المرضى/ات أو عائلاتهم/ن خارج أسوار المشافي، فضلًا عن حرمان العديد منهم/ن من حق العلاج.
تقول صابرين بركة: “مكثنا شهرًا دون تقديم العلاج لسيف الدين. ثم لاحظ الأطباء حالته الحرجة وقرروا له عملية
فشلت في النهاية وأصابته بنزيف حادّ أثّر على مخه وأصابته بتجلطات. بدأت رئته اليسرى في الضمور قبل أيامٍ من
سفرنا دون أن أعلم بذلك”. زار وفد إيطاليّ المعهد القومي للقلب، وقرروا تسفير العائلة لإيطاليا، بهدف توفير علاج خاص بحالة الطفل سيف الدين.
شهدت صابرين شخصيًا عدة وفيات لأطفال/طفلات فلسطينيين/ات مصابين/ات بقصور في القلب، بسبب انعدام
كفاءة العلاج في المستشفيات المصرية. وزادت معاناتها الشخصية لاضطرارها البحث عن متبرعي/ات الدم عبر
مجموعات “الأونلاين” لفصيلة دم (O-) النادرة من أجل إنقاذ سيف الدين.
تقول: “كانت ستة أشهر صعبة للغاية. أولًا، منعتنا المشفى من الخروج إلى خارج أسوارها. ثم بدأت أشارك غرفة
العلاج مع مرضى/ات ومرافقين/ات آخرين/أخريات. شعرت بأعراض الاكتئاب تظهر على طفلي الآخر يوسف، 4
سنوات. لم يعد يرغب بالطعام، ويريد دائمًا رؤية والده وجدّيه، ويسأل دومًا: «أين بيتنا؟ لما نحن هنا؟»”.
وصلت عائلة آلاء الشرفا مجمع السويس الطبي بمحافظة السويس، تقول: “بالصدفة، علم الطبيب المصري أن آلاء
ستتلقى العلاج في إيطاليا، فأوقف علاجها تمامًا ونقلنا إلى مستشفى الصدر. وهو عبارة عن مكان لسكن
الجرحى/ات الفلسطينيين/ات، وغير مؤهل ولا يتوفر به كوادر طبية”.
وتضيف: “تدمّرت نفسية آلاء. أربعة أشهر دون أي طبيب أو أية علاج، فضلاً عن منعنا من مغادرة المكان. وبعد رجاء مكثّف، ساعدنا أحد الأطباء بتقديم علاج طبيعي قبل أسبوع من سفرنا إلى إيطاليا”.
اجتمعت عائلتا شيماء وآلاء في الأسبوع الأخير لهما في القاهرة قبل أن تتمكنا من الوصول إلى إيطاليا.
الموت العابر إلى إيطاليا
نُقلت النساء الثلاث إلى إيطاليا، في خطوة من مؤسسات مدنية إيطالية ومن قِبل الحكومة الإيطالية التي تساهم بدورها في الحرب على قطاع غزة بسلاحها ومواقفها اليمينية المتطرفة بزعامة رئيسة الوزراء، جورجيا ميلوني.
تفاقم وضع الصغير سيف الدين أثناء سفره بالطائرة، تقول والدته صابرين: “شعرت أن تنفسه فجأة بدأ بالتراجع. وعندما هبطت الطائرة، طلب الفريق الطبي نقله مباشرة إلى مشفى بمدينة ميلانو.
ولخطورة وضعه، قرروا نقله إلى مشفى قريب في مدينة بارما. لكنّ إرادته لم تحتمل المزيد، وتوفيّ في سيارة الإسعاف”.
تضيف: “أوضح الفريق الطبي أن ضمور رئته أثّر سلبًا على عملية إنقاذه”. توفيّ سيف الدين في منتصف الليل.
وفي الأيام التالية وبدعم وتنظيم الجالية الفلسطينية، تمّ دفنه في المقبرة الإسلامية بمدينة بارما.
تعيش اليوم صابرين مع طفلها يوسف لاجئَي حرب في بيت مستأجر لهما، ويتكفل بمصاريفه ومصاريف معيشتهما بلدية بارما بمساعدة المؤسسات المدنية العاملة في مجال الهجرة واللجوء، وبمساعدة الجالية الفلسطينية أيضًا.
في حين أقامت عائلتيّ شيماء وآلاء في بيتٍ مؤقتٍ لمدة شهرين، قبل انتقالهما إلى بيت أكثر حميمية واستقرارًا.
زرت العائلتين في شارع “سان بللينو” في مكانهما المؤقت السابق. وهو عبارة عن مدرسة مهجورة تابعة لكنيسة.
باحة بمقاعد صفيّة، وحمام واحد، وغرفتان بأسرّة ومطبخ بثلاجة صغيرة، وباب دون مفتاح. إذ كان بمثابة مكان إقامة مؤقت لا يتوفر على سبل العيش البسيطة.
عاشت شيماء ومؤمنة الشرفا وضعًا صادمًا مع طبيعة المكان، واللغة، والطعام، والخدمات. وشعرتا أنهما تصارعان واقعًا جديدًا تبحثان فيه عن مجرد “استقرار”، وبيتٍ يوفّر لهما أجواءً من السكينة والحميمية المفقودة بفقدان منازلهما في غزة.
زاد الواقع الجديد من محنة مؤمنة الشرفا المصابة بإمساك مزمن منذ وجودها في غزة، كعرض من أعراض صدمة الكرب والنزوح الجماعي والطعام غير الصحي واستخدام الحمامات غير الفردي والصحي. وقد ترتب على انتظارها فترة شهرين في إقامتها المؤقتة تأزمًا لحالتها العضوية والنفسية.
View this post on Instagram
الدعم النفسي.. العلاج المفقود
يفتقر لجوء العائلتين إلى إيطاليا، وحتى عائلة صابرين بركة، إلى برنامج أو خطة للدعم النفسي ومعالجة الصدمات. وهي برامج تأهيلية يفترض أن توفّرها المؤسسات المدنية الإيطالية للاجئين/ات من مناطق الحروب.
تقول مؤمنة الشرفا والدة آلاء: “نحصل على كافة الخدمات من تسهيل أوراق اللجوء أو احتياجاتنا اليومية. لكنّ المؤسسة التي تتولى شؤوننا لم توفر لنا حتى اللحظة أي دعم نفسي، رغم معرفتنا السابقة أن هذه الخدمات متوفرة”.
فيما توضح صابرين بركة أن الجالية الفلسطينية تحاول مساندتها نفسيًا، تقول: “هناك أشخاص مستعدون/ات للحديث والبوح معي في أي وقت. بعض الأصدقاء/الصديقات والمعارف حولي ونجتمع يوميًا”.
أما شيماء التي فقدت والدتها بسبب مرض السرطان خلال الحرب على قطاع غزة، فتقول: “انزعجت وبكيت عندما أخبرني الطبيب فجأة ودون مراعاة أن زينة فقدت مسام جلدها، وأن شعر رأسها من الجهة اليمنى قد لا يعود”.
تحتاج الأمهات إلى رعاية نفسية كبيرة، ولا تولي المؤسسات المدنية أهمية للأمر، مكتفية بتسهيل إجراءات العلاج التجميلي والطبيعي لحروق شيماء وزينة في مستشفيات مدينة بادوفا.
وبينما تخفي الأمهات حاجتهنّ الشديدة لتجاوز الصدمات لانشغالهنّ بالعلاج المكثف، يُبدين أملًا واحدًا. وهو أن تختفي حروق أطفالهن وطفلاتهن.
تقول والدة آلاء: “أتخوف من عدم عودة آلاء إلى شكلها الطبيعي. إنها ما تزال طفلة”. وتنتظر شيماء خطة زمنية أطول لعلاج ابنتها زينة. إذ قرر الأطباء عملية زراعة شعر لها بعد عام، إضافةً إلى عملية زراعة الأدمة، لتحسين شكل الرقع وعملية تحرير جلد”.
في الجلسات الأخيرة للعلاج، صممّ الأطباء شرائح سليكون لتخفيف نتوءات الحروق والندبات، بينما تواصل الأمهات العلاج منزليًا باستخدام الكريمات المخففة لآثار الحروق. رغم ذلك، ورغم الانتقال إلى منزل عائلي، تشعر والدتيّ آلاء وزينة بعدم الاستقرار والخوف من ألا تختفي الحروق نهائيًا، فضلًا عن قلقهن المستمر على عائلاتهن داخل غزة.
تقول والدة آلاء: “نحاول أن نتأقلم. أشعر أن آلاء تحسّنت نفسيتها قليلًا بعد تسجيلها في المدرسة وانخراطها مع الطلبة/الطالبات، رغم انعدام معرفتها باللغة الإيطالية”. مردفة أمنياتها بأن “تنتهي الحرب في غزة”.
في حين تنتظر شيماء انتهاء الحرب حتى يجتمع شملها مع زوجها الذي منعته سياسات الاحتلال من مغادرة غزة ومرافقة عائلته في رحلتها في عالمٍ جديدٍ ومجهولٍ.
كتابة: وصال الشيخ- إيطاليا