صفقة بيع “البدون” برعاية كويتية.. من الترحيل إلى الاتجار بالبشر

لا تُقاس جرائم الدولة بعدد ضحاياها فحسب، بل بطبيعة صمت المجتمع الذي يحيط بها. وفي الكويت، بات من المألوف أن تمارس السلطة سياسة الفصل العنصري، والتهجير القسري، والاستغلال الجنسي بحقّ البدون، والاتجار بالبشر دون أن يُحرّك أحدٌ ساكنًا.

في منطقتي تيماء والصليبية، حيث يتركّز الوجود البدوني، تُنفّذ الحكومة اليوم حملات ترحيل قسري لعائلات كاملة، تخلعنا من بيوتنا كأنّنا خردة بشرية. تُقوّض بيوت الصفيح المُرقّع على صمت المجتمع، وتُلقى العائلات في العراء في ذروة ارتفاع درجات الحرارة، بحجج أمنية وإدارية، ولا يوجد من يعترض. حتى أولئك الذين يستهجنون جرائم الكيان الصهيوني، ويُبذلون جهدًا قانونيًا ودينيًا وسياسيًا وإنسانيًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني وإيصال صوته، لم يحركوا/ن ساكنًا.

تهجيرنا قسريًا وتجويعنا ليس “تنظيفًا حضريًا” كما يبرّرون، بل تطهيرٌ عرقيٌّ تديره الدولة تحت جناح القوانين، ويباركه المجتمع. وما هو التطهير العرقي إن لم يكن اقتلاعنا من جذورنا، من هويتنا، من تاريخنا؟

ليس دائمًا كل ما ارتُكب بحقّنا كان ظلمًا صامتًا وناعمًا؛ فالسلطات الكويتية، منذ عام 2014، عاملتنا كحمولةٍ بالية تُنقل من مرفأٍ إلى آخر، وباعتنا لجزر القمر كمن يبيع سيارةً مستعملة. نعم، تاجرت بنا بشكلٍ صريح عدّة مرّات، دون خوف أو وجل، ومرّت جرائمها مرور الكرام أمام المجتمعَين المدني والدولي. نحن أرقامٌ وملفّاتٌ تُدار على موائد الوزراء، وتُعرض في ملفات الصفقات. نحن لا شيء، مقابل حفنةٍ من التسهيلات الاقتصادية أو مشاريع الإعمار.

في عام 2014، في قلب الخليج، حيث تعلو مآذن المساجد وترفرف أعلام السيادة، آُعلن عن الصفقة. إذ كشف المسؤول الكويتي اللواء مازن الجراح أن الكويت تفاوض جزر القمر كي “تتسلّم” البدون وتمنحهم/ن الجنسية القُمريّة، مقابل مشاريع إنشائية وتعليمية وصحية تتكفّل بها الكويت هناك.

بأيّ حق؟ وبأيّ شرف؟ وبأيّ ضمير تبيعوننا إلى مواقع جغرافية لا تعرفنا ولا نعرفها، نحن العرب؟

لكن قيل في المثل: “إذا لم تستحِ، فافعل ما شئت”.

2018: محاولة بيع ثانية

فضيحة مضاعفة

لم يتم الاكتفاء بالمهانة والمهزلة الأولى بالطبع، فطُرحت صفقةٌ جديدة في عام 2018. إذ صرّح وزير الداخلية آنذاك، خالد الجراح، بنيّة الدولة إصدار جوازات سفر سودانية للبدون، ليخرج وزير الداخلية السوداني، حامد الميرغني، سريعًا، نافيًا علمه بأيّ تفاوض، ومؤكّدًا أن هذا الملف لم يُفتح أصلًا.

إن مجرد التفكير في تسوية قضية بهذا الثقل الإنساني والسياسي، عبر ترحيل البدون إلى دولة أخرى للتخلّص من عبء المسؤولية القانونية والإنسانية، هو فعل يرقى إلى درجة التهجير القسري الممنهج، وهو صورة من صور الاتجار بالبشر.

النساء البدون: ضحايا الظلم المركّب

وما يزيد الجرح نزفًا أن البدونيات – الفئة الأضعف – يتعرّضن لانتهاكات مضاعفة، إذ لا حماية قانونية، ولا غطاء اجتماعي، ولا حتى أوراق تُثبت حقّهن في اللجوء إلى العدالة.

في أيار/ مايو 2023، اعتُقلت فتاةٌ قاصرةٌ بدونية بعد أن كانت ضحيةً لاستغلال جنسي أشرف عليه والدها ووالدتها.

وبدلًا من أن يُعاقَب الجناة الذين اغتصبوا هذه القاصرة، وجّهت النيابة العامة ضدها تهمة “التحريض على الفجور”، وتم وصمها ولومها، ولم يُعترف بها كضحية/ ناجية، بل كـ”مُحرّضة على الفجور”، مع مهاجمة عائلتها – المجرمة، والتي لا أُبرّر جرمها -. ولكن النيابة العامة تجاهلت بالمقابل سياسة التفقير والتجهيل الممنهج المُمَارس بحق البدون في الكويت، والتي أفرزت هذه النتائج وهذه الخيارات.

والأكثر ألمًا أن البعض من الشعب الكويتي بدا كأنه مستمتع بهذه الجريمة، وكأنّه كان ينتظرها منذ أعوام ليفرغ حقده وعنصريته بوجه البدون. فانتشرت تعليقات مهينة تعهّر البدونيات، بما يفي الوصم والتحقير والتحريض. وبطبيعة الحال، تم تغييب الضحية/ الناجية في سجون “بن صباح”، ولم تتم مساعدتها نفسيًّا، إذ حاولت منصة “حقوق المرأة البدون” من خلال محامياتٍ التواصل معها والدفاع عنها تطوّعًا، ولكن دون فائدة.

إن تجريم الضحية هو ذروة الانحطاط القانوني والاستبداد الأبوي. وحين تُجَرَّد القاصرة من العدالة مرتين؛ مرةً لكونها امرأة، ومرةً بصفتها بدونية؛ فإننا لا نواجه مؤسسة عدالة، بل مؤسسات قمعٍ أبوية لا توفر أي مظلة حماية.

وهكذا يصبح مصير غالبية البدونيات في الكويت معلّقًا بين الأرصفة الحارّة، حيث يضطررن لبيع ما يستطعن لعيش يومهنّ وتطاردهنّ البلدية وتزدريهنّ الأعين الأبوية، أو بين قاعات المحاكم وحلقات الدعارة القسرية، أو داخل بيوتٍ لا حماية فيها من العنف المجتمعي والذكوري والأمني، كما حدث مع ضحية الغدر والعنف الأبوي، عواطف الظفيري.

2024: تكرار الجريمة بأسماء جديدة

في عام 2024، أعاد وزير الداخلية الجديد، فهد اليوسف، الخطاب ذاته، لكن بلغةٍ منمّقة. قال إن قانونًا جديدًا سيُعرض خلال شهرين على مجلس الوزراء، يتضمّن تسهيل حصول البدون على “جنسيات بديلة”، وأن الدولة أوقفت صرف جوازات المادة 17 – الخاصة بالبدون –، باستثناء الحالات الطبية أو الدراسية.

الأمر ليس صحيحًا، بل هو مجرد كذبة سياسية. فالبدونية اليوم مُنتَزَعٌ حقّها في التنقّل، سواء كان للدراسة أو للعلاج.

وعلاوةً على ذلك، تسبّب النظام الكويتي بمقتل امرأتين بدونيتين. إحداهما مسنّة كانت بحاجة إلى علاجٍ خارج الكويت. وبعدما جمعت المال بمساعدة الناس، حاولت السفر، فجاءها الرد الفاقد للإنسانية: “حوّلنا الملف إلى وزارة الصحة، ونشوف تستحق تسافر أو لا”.

“أبي (أريد) البدون يكمل/تكمل دراسة ويتعلّم/ تتعلم… وهذا راح يسهّل عليه/ا الحصول على جنسية أخرى”!

رغم أنها كهلة، وكان احتمال بتر ساقها قائمًا، لم تطلب من الدولة المال، بل طالبت فقط بحقّها في الحياة والتنقّل.

أما الثانية، فهي بشاير الشمّري، التي ناشد شقيقها السلطات لاستخراج جواز سفر يمكّنها من العلاج في الخارج. لكنّ السلطة الكويتية – ممثّلةً بالجهاز المركزي – تعمّدت المماطلة في إصدار الجواز، حتى فاضت روحها.

في ظلّ هذا الاستهتار الفادح بأرواحنا، لم نعد نسمّي ذلك الجهاز باسمه الرسمي، بل نتهامس سرًّا بتسميته: “الجهازي النازي”.

وفي تصريحٍ آخر صادم، قال فهد اليوسف: “أبي (أريد) البدون يكمل/تكمل دراسة ويتعلّم/ تتعلم… وهذا راح يسهّل عليه/ا الحصول على جنسية أخرى”!

بربّكن/م، أهذه سياسة دولة؟ أم خطاب سوق نخاسة؟

والله، ما هذه بلسان دولة قانون وعدالة، بل بلسان تاجر عبيد يُجهّز البضاعة للشحن البحري!

وطنٌ للبيع… مجددًا

اليوم، وطنٌ للبيع مجددًا..

وكأن لسان الدولة يقول: “أيّ وطنٍ يقبل بكم/ن؟ خذوه… وانقلعوا!”

تُتداول أسماء دول مثل سانت كيتس ونيفيس، التي ما إن انتشرت الأنباء عن “بيعنا” إليها، حتى نشرت الصفحة الرسمية للصندوق الكويتي للتنمية خبرًا يؤكّد الشكوك، جاء فيه

“استقبل مدير عام الصندوق الكويتي للتنمية بالوكالة، السيد وليد شملان البحر، وزيرَ خارجية سانت كيتس ونيفيس، السيد دنيزل ليولين دوغلاس، والوفد المرافق له، وقد تبادل الطرفان سُبل التعاون المشترك وتعزيز العلاقات بين البلدين”.

وتداولت الأخبار أيضًا إمكانية “صفقات بيعٍ” أخرى لتركيا وسوريا، خصوصًا بعد انتشار صورة الرئيس السوري أحمد الشرع خلال زيارته إلى الكويت، برفقة محمد الشرف، ممثّل ما نُسمّيه نحن -المتاجر بنا- “الجهاز المركزي النازي”.

يبدو أننا سلعة مرغوبة، ولحومنا دسمة. نحن في مسلسلٍ مستمر من صفقات الطرد السياسي والاتجار بالبشر، لا تستهدف سوى محو وجودنا.

هكذا يُمحى وجودنا عمرانيًا اليوم، وهكذا تُهدم بيوتنا وتُهجّر عائلاتنا قسريًا.

‏الإقصاء كسياسة رسمية

ما تقوم به السلطات الكويتية الأبوية المستبدة ضدّنا هو إقصاءٌ ممنهجٌ من الهوية العربية البدوية والتاريخ الجمعي للمنطقة. لكن الأخطر من ذلك كله: الضحك الجماعي.

ذلك الضحك الذي يتردّد في المجالس والمواقع، حين يُتداول “خبر بيع البدون” كأنه طرفة، ويُروَّج له كـ”حل جذري”، فيما يُختزل وجودنا كله إلى “ملف يجب طيّه”. هذا المجتمع، الذي يسخر من معاناتنا بدلًا من الوقوف معنا، شريك في الجريمة، ومشمولٌ بشؤم الظلم أيضًا.

النظام الكويتي لم يكتفِ بتهميشنا، بل بات يمارس مشروع إبادةٍ صريحة: طرد، تجويع، تهجير، تشهير، تفقير، وتجهيل ممنهج. ومع كل ذلك، يظلّ الصمت هو الموقف السائد لدى المجتمعَين المدني والدولي.

صمتٌ لا يشبه الحياد فقط؛ بل هو التواطؤ الخالص، بصيغته الأبشع.

لا صوت يُسمَع حين تُهجَّر عائلة بدونية من تيماء أو الصليبية، ولا تغريدة تُكتَب حين تُسجَن فتاةٌ لأنها اغتُصبت وتمّ استغلالها جنسيًا.

ختامًا: التاريخ لن يرحم

التاديخ لن يرحم..

وسيأتي جيلٌ يلعن من يتاجر بنا. جيلٌ ينتصر لحقوقنا، ويكتب أسماءكم على جدران الخيانة.

هذه جرائم دولة، موثّقةٌ بالصمت، مُغلّفةٌ بالنكران، وممهورةٌ بتوقيع مجتمعٍ رضخ، وأدار ظهره لنا بمحض إرادته.

كتابة: حسناء الشمّرية

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد