اعتداء ذوي القربى الجنسي .. أشد مرارةٍ وأبقى!

هن المعرّف عنهن بـ”الناجيات” من اعتداء ذوي القربى الجنسي اللواتي لم يتخطين تبعات صدمة هذا التحرّش بعد، فكان ظلم الأقرباء أشد مرارةٍ وأعمق أثرٍ وأقسى وأبقى!

وجدتهن ينمنَ على حافة الأرق كي لا تستيقظ ذكرياتهن المريرة. ما إن طرقتُ نافذة “اعترافاتهن السرية”، حتى اخترقن جدار الصمت الذي أعياهن لسنواتٍ طويلة.

كمن ينتظر أي فرصةٍ تنتزع رصاصةً ملتهبة منغرسة في حلوقهن، ولو بسكينٍ متّقد. هن اللاتي كبتن ذعرهن منذ قضّت الخيانة مضاجعهن وأفقدتهن الأمن والثقة.

ناجيات مع وقف التنفيذ. ضحايا بكل ما للظلم والخوف والتعدي و”التستر” وتذنيب الضحية/الناجية وتبرئة المجرم من معنى! هن الهاربات مع ذاكرتهن الهشة، المتجنبات للحقيقة، اللاتي لم يشأن الاعتراف لأنفسهن بأن العائلة؛ مصدر الإلهام الأول ومنبت الأمن والطمأنينة، قد تكون أول من يغتصب الثقة ويعتدي على الأمان، فتصبح الجحيم المقنع.

أبٌ مغتصب .. أخ معتدي .. وضحية خائفة صامتة!

ليس من السهل على من يقعن ضحية تحرّشٍ جنسي الإفصاح عن الأمر. أما وأن يكون المعتدي هو أحد الأقرباء، فالأمر يصبح أكثر تعقيداً.

يغدو الإحراج رديفاً للخوف، وما بينهما فقدان الأمن والثقة، في من يُفترض أن يكون مصدر الأمان والاستقرار، تثبتت على جدرانه طلاسم الرعب والنقمة.

“أبٌ مغتصب، أخٌ معتدي، عم، خال، قريب، جميع هذه الحالات وأكثر عاينتها في عيادتي”، قالت الأخصائية في علم النفس العيادي حنان نصر في مقابلةٍ خاصة مع موقع “شريكة ولكن”.

واعتبرت أن “الخوف هو أحد أكثر الأسباب التي تدفع الضحية/الناجية للسكوت وإخفاء الأمر، إلى أن يتفاقم ويصبح أكثر خطورةً”. ولأن التطرّق للمواضيع الجنسية في مجتمعاتنا يعتبر من المحرّمات، تتردد الكثيرات في البوح. وهو ما أكدته د. نصر: “قلةٌ قليلة تلجأ إلى الإفصاح أو فضح المعتدي، وغالباً يتكلمن بعد انقضاء فترةٍ طويلة، إذ يأخد الأمر وقتاً لفهمه خصوصاً إذا كانت الضحية/الناجية في عمرٍ صغير”. 

“إذا فُقد الأمن فُقد كل شيء… صارحوا أبناءكم/ن”

يرتبط الأمر إلى حدٍ كبير بالنمط التربوي المتّبع، الذي يستقي الأطفال والطفلات من خلاله سلوكياتهن/م وردود أفعالهن/م. والخوف الذي سرعان ما يسيطر على كيان الضحية/الناجية، ليس مستغرباً ولا اعتباطياً، بحسب نصر.

في هذا السياق، لفتت إلى أن “الشعور بالتهديد يدفع الضحية باتجاه الصمت، وليس بالضرورة أن يكون لفظياً. فهناك تهديد وعنف رمزي، تكون الضحية عايشته قبل تعرّضها للتعنيف، ما أفقدها الشعور بالأمان. كالنظرات التأنيبيّة والتسلطيّة من قبل الأهل على سبيل المثال”.

وشددت على أنه “طالما الطفل/ة لم تحصل/يحصل على الأمان من الأهل، فلن يلجأ إليهم/ن عند شعوره بالخوف”.

كما أشارت إلى أن “الخوف هو ردّة فعل طبيعيّة للأذى الذي تعرّضت له الضحية/الناجية، وقد يجعلها تعجز عن تفسير الأمر وفهمه، خصوصاً أنها غير قادرة على منعه، ولا على مواجهة المعتدي الذي يكون في معظم الأحيان أكبر عمرياً وأقوى بنيوياً”.

وأكدت أن “كون المتحرش هو أحد الأقرباء وصاحب سلطة عائلية على الضحية، يفاقم حالة الخوف ليس من الإفصاح بحد ذاته، إنما من عدم تصديقهن أو من اللوم، أو من تهديدٍ أو أذى محتمل من المتحرّش”.

ولأن الأمن هو أحد الحاجات الأولية التي يجب تأمينها للطفلات/الأطفال ليعشن/يعيشون بسلامٍ واطمئنانٍ وبالتالي بسلوكٍ سوي، فإن فقدانه داخل مصدر الأمان المفترض، العائلة، يترتب عليه تبعات نفسيةٍ خطيرة، بحسب نصر.

وأضافت أن “ضحية اعتداء ذوي القربى تشعر بأنها غير محمية، وهذا الشعور قد يرافقها في تفاصيل حياتها، أحياناً بأن أحداً لن يحبّها. ويصبح القلق والتوتر جزءاً من حياتها، وقد يتفاقم الأمر ليصل نحو جلد الذات وعقدة الذنب والكآبة والانعزال والشعور الدائم بالمظلومية”.

وأوضحت أنه “إذا لم تتم متابعة الضحية منذ الصغر، قد تعاني من مضاعفات غير محمودة العواقب تظهر على السلوك، ويؤثر ذلك على بناء العلاقات سواء داخل البيت أو خارجه”.

من هذا المنطلق، شدّدت على ضرورة “المتابعة المعتدلة من قبل الأهل، من دون خنق الأبناء وإشعارهم/ن بالقلق والخوف المبالغ به، على أن يخلقوا لهم/ن نموذجاً سليماً، لأن الطفل/ة ينشأ/تنشأ في السنين الأولى على تقليد النماذج وليس على التلقين. ولنحمل الطفل/ة على المصارحة، يجب مصارحته/ا وتوعيته/ا ومخاطبة هواجسه/ا بشكلٍ يعزّز لديه/ا الأمن والثقة”.

بعد تحرش والدهن .. هذا ما حصل للأخوات الثلاث!

وحول أصعب الحالات التي زارتها في عيادتها، تأسف نصر لكون القصص ذات الصلة كثيرة. ولعل كل منها تحمل ألماً خاصاً.

إذ كشفت عن أنها في إحدى المرات عاينت 3 أخواتٍ مراهقات، كن يتعرّضن لتحرش الأب بشكلٍ مستمر، حتى قررن الهروب من المنزل. وللأسف لم تصبح حالتهن أفضل، إذ وقعن ضحية رجل كبير في السن أجبرهن على العمل في الجنس وحاولنا بجهدٍ إعادة تأهيلهن نفسياً، لكن الأمر كان صعباً جداً”.

الظاهرة الصامتة: أرقام خيالية وتبليغات شبه معدومة

على الرغم من استفحال هذه الآفة الخطيرة، إلا أن نظرةً سريعةً إلى الجدول الإحصائي لموقوفي مكتب مكافحة الاتجار بالأشخاص وحماية الآداب، تكشف حجم الخوف المترافق معها الذي يدفع بضحاياها لاجتراع سمّ الصمت وتفضيل عدم التبليغ، في ظل الوصمة الاجتماعية والتهديدات الأسرية والاضطرابات النفسية الملازمة للضحايا. الأمر الذي من شأنه أن يعمّق خطورتها ويصعّب آليات الحد من انتشارها ومعاقبة مرتكبيها.

بينما تمكّن استطلاع رأي، أجراه موقع “شريكة ولكن” أن يكشف خلال أيامٍ معدودة، عن 80 حالة اعتداء جنسي من أقرباء، من أصل 111 فتاة وامرأة شملهن الاستطلاع.

فصرّحت 16.2% (18 حالة) فقط عن الأمر لأحد أفراد العائلة أو الصديقات/الأصدقاء، في حين كانت الأرقام التي كشفتها قوى الأمن الداخلي حول اعتداء ذوي القربى بين عامي 2016 و2020 شبه معدومة. وبلغ أقصاها عام 2021، 5 تبليغات فقط. بينما بلّغت حالتان فقط في عامي 2019 و2020.

وكان مُلاحظاً أن معظم التبليغات (الخجولة) كانت من ذكور، ما يؤكد عدم شعور النساء والفتيات بالأمان في حال التبليغ.

سفاح القربى

استطلاع رأي شمل 111 امرأة وفتاة حول التعرض لاعتداء ذوي القربى الجنسي

 

ريتا: “ذل الصمت أهون من خطر البوح”

“يقولون إنني سأفضحهم، يفضلون تعرض صحتي ونفسيتي وحياتي للخطر، على ما يسمونه فضيحة أو جرصة”، قالت ريتا (اسم مستعار، 27 عاماً)، التي تتعرض للتهديد من قبل عائلتها لردعها عن التفكير بالتبليغ ضد أخيها المعتدي عليها جنسياً.

ريتا هي واحدةٌ من بين الكثيرات اللواتي يفضلن ذل الصمت، على خطر البوح وغياب آليات الحماية. تتكلّم عن الضغط الجسدي والمعنوي المضاعف الذي تتعرض له الناجيات، الذي يجبرهن على الصمت خوفاً من كلام الناس، “فلم أجرؤ حتى على التفكير بالأمر”، على حد تعبيرها.

وأوضحت في مقابلةٍ خاصة مع موقع “شريكة ولكن”، كيف أخضعتها عائلتها للصمت كاشفةً أن شقيقها المعتدي يعنّفها جسدياً أيضاً. وأضافت: “أنا أعيش مع معنفي في منزلٍ واحدٍ”.

وعن تبعات التبليغ والدور الذي تتبناه الجهات الرسمية في حال بلّغت، تساءلت “لنفترض أنني اشتكيت ضد تحرّشه بي، هل ستؤمن لي الدولة المكان الآمن؟ ومن سيجنّبني نظرات اللوم والعتب والتحقير التي أواجهها رغم أنني لم أشتكِ حتى!”.

مخاوف ريتا وتساؤلاتها انعكست أيضاً في تصريحاتٍ لـ7 حالاتٍ أخرى (ستُعرض في الجزء الثاني من هذا التحقيق). مع الإشارة إلى أن هذه الحالات تمثل فقط الناجيات اللواتي تجرأن على البوح، ضمن من استطعن الوصول إلى السؤال المطروح في المنشور. فما هو حجم فداحة الظاهرة الصامتة والأصوات المغيَّبة إذاً؟

واقعٌ يطرح العديد من التساؤلاتٍ، حول التبريرات الاجتماعية والنفسية والقانونية والأمنية وحتى الاقتصادية، التي تفسّر ضعف وشبه غياب التبليغات.

وعلى الرغم من أن التبليغ قد يشكّل خطوةً إيجابيةً للحد من الآفة، إلا أنه في ظل غياب آليات ردع المعتدي من قبل الجهات الرسمية وآليات حماية الضحايا على حدّ سواء، في دولةٍ تعاني النساء والفتيات فيها من تهميش سياسي وقانوني واقتصادي واجتماعي، يصبح هذا الأمر أشبه بقفزٍ فوق حقل ألغامٍ قد ينفجر بوجه الناجية في أي وقت.

انتظرن/وا شهادات حية، مع تسجيلاتٍ بصوت الناجيات من جريمة اعتداء ذوي القربى الجنسي، في الجزء الثاني من هذا التحقيق.

كتابة: مريم ياغي

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد