فاتن أمل حربي .. مأزق استبدال الخطاب النسوي بالخطاب الديني
بدأتُ مشاهدة مسلسل فاتن أمل حربي بحماسٍ كغيري من المصريات.
وكان حماسي مدفوعاً بأعمالٍ درامية ونسائية أخرى بطولة نيللي كريم في سنواتٍ سابقة. أتذكّر منها خصوصاً: ذات، وسجن النسا.
ازداد حماسي مع عرض الحلقة الأولى، التي كشفتْ عن الحبكة الدرامية: البطلة تقود معركة مع قانون الأحوال الشخصية بمجرد إتمام طلاقها.
لكن منذ الحلقة الثانية وحتى العاشرة، قلّ حماسي للغاية. وتحوّلتْ مشاعري تدريجياً من الامتنان لتسليط الأضواء على فداحة هذه القوانين في مصر، وتأثيرها السلبي على النساء، إلى غضبٍ نسوي تجاه الكاتب وتجاه صنّاع وصانعات العمل.
فاتن أمل حربي .. كتابة سيئة وضحلة
سيناريو المسلسل وكتابته وإخراجه وكذلك التمثيل جعلوني أُدرك من الحلقة الثانية أن هذا المسلسل الذي يدّعي صُنّاعه أنه عمل نسائي يهدف لإنصاف النساء، ما هو إلا استمرار لاستغلال قضاياهن لأهداف ليس من ضمنها النساء أنفسهن.
هذا المسلسل ليس عن النساء، وليس موجّهاً للنساء، ولا يتمركز حول قضاياهنّ. إنما هو استخدام واضح وصريح لقضية الأحوال الشخصية لتمرير أفكار الكاتب المصري إبراهيم عيسى عن أهمية تجديد الخطاب الديني.
الحوار مُباشر بفجاجة مُزعجة ومُقحَم على الشخصيات. فنجِد الشخصيات تتحدث بلسان الكاتب، وترى أزمتها الرئيسية في الخطاب الديني الذي يعتبر النساء أقل من الرجال.
وعلى الرغم من أن هذا صحيح، إلا أن استخدام جُمل مثل: “ناقصات عقل ودين”، أو “للذكر مثل حظ الأنثيين”، أو “الرجال قوامون على النساء”، أو “شهادة المرأة بنصف شهادة الرجُل”، جعلتْ هذه “الصحّة” محوراً للحبكَة الدرامية بدلاً من قانون الأحوال الشخصية نفسه.
ونجد شخصيّات الأبطال/البطلات لا تتمتّع بأي أبعاد دراميّة وإنسانية أخرى؛ غارقة في النمطية والكليشيهات لخدمة نفس الغرض: تجديد الخطاب الديني.
لا شك أن الكاتب إبراهيم عيسى لديه تلك الرغبة في تجديد الخطاب الديني منذ سنوات. بعد أن فشل تقريباً في الحديث عن الفساد السياسيّ، أو لم يصبح المجال مفتوحاً أمام النقد السياسي في ظل النظام الحالي. ولديه كل الحقُ في اعتناق أو الدفاع عن أفكاره وتوجهاته وحماية نفسه.
لكن ما يحدث في المسلسل، هو استغلال للنساء لتمرير هذه الأُفكار. إذن، هذا العمل الدرامي ليس عن النساء بل عن إبراهيم عيسى نفسه. وإقحام معركة عادلة مثل معركة المصريات مع قوانين الأحوال الشخصية، لا يتعدّى كونه أداة لتحقيق ذلك.
استغلال قضايا النساء سياسياً
في الواقع، هذا ليس جديداً. فطيلة الوقت يستخدم الرجال قضايا النساء في معاركهم السياسية والاجتماعية من كلي التيارين: الإسلامي والتنويري. فتكون بذلك قضايا النساء وأجسامهنّ ساحة اقتتال بين مجموعتين من الرجال.
أتذكّر في طفولتي استخدام التيارات الإسلامية لشعارات سياسية تستغل النساء أثناء الانتخابات أو ارتفاع الأسعار. فمثلًا، الشعار الشهير: “ينتهي الغلاء إذا تحجّبت النساء”، كان طريقة بعض التيارات الإسلامية للربط بين أجسام النساء والتدهور الاقتصادي. لكن لذلك تاريخ يسبق طفولتي بعقود.
فالحجاب نفسه عندما انتشرَ في مصر، كان وسيلة التيارات الإسلاميّة لفرض السيطرة الاجتماعية عوضاً عن الإقصاء السياسي منذ السبعينيات. وتحول بعدها إلى رمزيّة دينية وهويّة إسلامية مرادفة للاحترام. بعض الباحثين/ات في العلوم السياسية والمهتمين/ات بدراسات الشرق الأوسط، يؤكدن/ون أن لذلك الأمر أبعاد اقتصاديّة.
فيقول الباحث الأكاديمي بول عمّار إن انتشار الحجاب، كان وسيلة التيارات الإسلامية ليس فقط لإثبات الوجود الاجتماعي السياسي، بل لأهداف تجارية شملت استيراد وبيع ملابس المُحجبات.
وفي أبعاده الاقتصادية ورمزياته السياسية، لم يخلُ الحجاب من الدافع الأبوي للتحكم في أجسام النساء. فوَقعن فريسةً للتيارات الإسلاميّة في غياب تام للدولة بسبب صفقاتها السياسية مع التيارات الإسلامية.
وبمرور الوقت، أصبح الحجاب هو العادي. فتم التمييز ضد النساء غير المُحجبات وغير المُسلمات حتى اليوم. ولتجنّب العُنف المُصاحب للتمييز، التزمت غالبية النساء بالحجاب.
وهنا أعود بالزمن إلى العام 2015، مع إطلاق دعوة: “مليونيّة خلع الحجاب في ميدان التحرير”، التي أطلقها الكاتب الصحافي فريد الشوباشي تحت زعم “هزيمة الإسلام السياسي”.
ينتمي الشوباشي إلى تيار التنوير الذي يرى الحجاب رمزاً للهوية الإسلامية مقابل الهوية المصرية التي لم تكُن النساء فيها مُحجبات، كما يعتقد.
ولهزيمة الإسلام السياسي، خصوصاً في مناخ ما بعد إسقاط جماعة الإخوان المسلمين وطردهم من الحكم، اعتقدَ الشوباشي أن ملايين النساء سيشاركن في “المليونية”.
كانت الدعوة هزلية مُضحكة وسطحية. ليس لأن النساء يعانين عنفاً وتمييزاً لو خلعت الحجاب فحسب، بل لأن التيار التنويري نفسه يرى النساء من نفس زاوية رؤية التيار الإسلامي لهنّ: أدوات لصناعة الهويّة.
يُمكن للأعمال الدراميّة أن تُعبر عن فكرة صناعة الهويّة من خلال أجسام النساء، كما حدث بسلاسة ممتعة في مسلسل “بنت اسمها ذات”، وهو من بطولة نيللي كريم عن رواية “ذات” للكاتب المصري صنع الله إبراهيم وسيناريو مريم نعوم.
ويُمكن أن يُعبّر عنها بطريقة سطحيّة، كما في مسلسل “لأعلى سعر”، أيضاً من بطولة نيللي كريم، وللسيناريست المصري مدحت العدل.
أزمة نسائية أم أزمة دينية؟
عودة مرة أخرى إلى فاتن أمل حربي، واستغلال إبراهيم عيسى لقضايا النساء بهدف إبراز أهمية تجديد الخطاب الديني.
هل تكمُن أزمة فاتن في الخطاب الديني أو في مَن سمح لهذا الخطاب بالتواجد في الأصل؟
هل أزمتها في قانون الأحوال الشخصيّة، أو في فلسفة القانون التي تسحب من النساء الولاية على أطفالهن/طفلاتهن فقط لأنهن نساء؟ وهل سحب ولاية النساء مرجعه ديني فقط؟
كل هذه الأسئلة المشروعة تأخذنا في رحلةٍ لطيفةٍ مع الاستسهال واللف حول الحقائق من دون المساس بها. أزمة فاتن وكل فاتن هي أزمة سياسية في جوهرها، واجتماعية في ظاهرها. ولا يعني ذلك أنها ليست دينية.
عام 2021 انتشرت مسودة لقانون أحوال شخصية جديد قيل إنها طُرحت على البرلمان المصري من قبل الأزهر الشريف. وبينما لاقت المسودة غضباً عارماً بين النساء لأنها تسحب ولاية المرأة على نفسها وأطفالها وطفلاتها وتتجاهل حقوق غير المُسلمات، نفى برلمانيون طرح المسودة للنقاش.
وسواء كانت تلك المسودة مطروحة من الأزهر أو لا، يبقى الأزهر مُتمسكاً باستحقاق الموافقة على قوانين الأحوال الشخصية وفقاً للشريعة الإسلامية، كما صرّح الإمام الطيّب عام 2019. وأكد حينها أن أي قانون يمس الأحوال الشخصية مرجعه الأخير هو الأزهر الشريف بحكم الدستور.
هذا التصريح يضع إبراهيم عيسى ومسلسل فاتن أمل حربي في مأزق. لأن تصريحات الإمام الطيّب تستند إلى المادة الثانية من الدستور المصري، التي تعتبر الشريعة الإسلامية مصدراً وحيداً للتشريع.
في الحلقات الـ10 التي شاهدتها، لم تتم الإشارة إلى هذه التفصيلة الهامة، التي ستكون عائقاً أمام أي محاولة لسن قانون أحوال شخصية مدني.
فصِدام المسلسل مع الخطاب الديني والشيوخ، يعتبر أن الخطابات الدينية المُعادية للنساء، هي السبب الوحيد لمعاناتهن مع هذه القوانين، وتتجاهل أن هذه الخطابات لا تسن قوانين الأحوال الشخصية، ولا تتمسك باستحقاق الموافقة كما يفعل الأزهر.
إذن، الأزمة ليست في تمسُك الأزهر باستحقاق الموافقة فقط، بل في وجود المادة الثانية من الدستور. لكن عيسى وعائلة العدل، أخذوا من الأمور قشورها.
فتوجهوا باللوم إلى الشيوخ والخطاب الديني المُحِط من النساء، من دون أن يمسّوا القضية ببُعدها السياسي: وهو الإبقاء على المادة الثانية من الدستور باختلاف الأنظمة السياسية، واختلاف الخطابات الدينية، والدور السياسي للأزهر كمؤسسة دينية رسمية.
أراد عيسى والعدل للإنتاج أن يقدموا لنا عملاً درامياً بنكهة نسائية، تُجنبهما المواجهة مع النظام الحالي حول الدستور، وحول تمسّك الأزهر باستحقاق الموافقة. حتى لو قدّموا تبايناً في اتجاهات شيوخ الأزهر كما ظهر من خلال شخصية الشيخ يحيى، يبقى الأزهر كمؤسسة دينية لها دور سياسي تشريعي.
مركزة الخطاب الديني وتجاهل الخطاب النسوي
ما تُعانيه النساء في مصر والبلاد العربية مع قوانين الأحوال الشخصية، هو نتيجة مُباشرة لمركزة الدين في السياسة والاجتماع.
وأعني أنه لولا هذه المركزية حول الدين، واعتباره مصدراً صالحاً للتشريع مهما اختلفت السياقات والأزمنة، لكانت أوضاع النساء القانونيّة أفضل مما هي عليه، حتى لو استمرت معاركنا.
ما يفعله مسلسل فاتن أمل حربي هو إعادة وضع المعتقدات الدينية وخطاباتها في المركز. بعد عقودٍ قضتها النسويات يحاربن على أرضياتٍ مدنية، مُحاولاتٍ بكل الطرق تنحية الدين عن التشريع، واعتبار أسس المواطنة هي الأساس الأول للتشريع.
هذا الغباء في التعاطي مع أمر بغاية الحساسية مثل قانون الأحوال الشخصية، جعل من معارك النساء مع القوانين غير العادلة، معارك دينية مُتجرّدة تماماً من سياسيتها. وكأن قضاياهن معزولةً عن الواقع السياسي.
كما صوّر رفض النساء للتشريعات الدينية على أنه رفض للدين في عمومه. فأحدثَ خلطاً وتشوّشاً تجنّبته النسويات بذكاء في حملاتهن ومطالبتهن بتغيير قوانين الأحوال الشخصية.
تلك رِدَة حقيقية في التعاطي مع صراعات النساء الاجتماعية السياسية. يُعيد المسلسل وضع الدين في المركز ولا يُنحيّه لمكانه كمعتقد شخصي ومعيار شخصي كما تفعل النسويات.
وستبقى هذه المعضلة هي الأولى عندما يكتب الرجال عن قضايا النساء. فيتم تقديمها بصورةٍ تخدم دوافعهم من دون النظر إلى تأثير هذا التقديم على النساء.
لم يتجاوز إبراهيم عيسى الدين. بل يُبقي عليه كمصدر. هو فقط يحاول جاهداً أن يستبدل الخطاب الديني المُتشدد والمتطرف والمُنحاز ضد النساء، بخطاب ديني “جديد” لا يختلف في أبويته عن الخطاب المُتشدد.
هذا التعاطي يُرجعنا سنوات للخلف، ويُصوّر معاناة ملايين النساء مع القوانين على أنها معاناة مع الفقه والتأويلات الدينية. فيكون بذلك مصدر حقوق النساء هو الدين وليس القانون المدني والإدارة السياسية. ويتم محو الخطاب النسويّ المدني لصالح خطاب ديني أبوي.
وأقول إنه خطاب أبوي لأنه يستغل النساء، ولو ظهرت على الشاشة مليون امرأة مُعنّفة.
هل سيُغيّر المسلسل قوانين الأحوال الشخصية؟
هناك ميلٌ إلى تغيير قوانين الأحوال الشخصية في الأعوام الأخيرة. لكن بعد غضب النساء من المسودة التي انتشرت عام 2021 ورفضهن الصريح لسحب الولاية، شعرت الإدارة السياسيّة المصريّة بالإحراج، واضطرّت إلى تأجيل تغيير القانون إلى وقتٍ لاحق، حتى لا يبدو هذا التأجيل استجابةً من الدولة لمطالب النساء والمنظمات النسوية.
وقد يكون مألوفاً لبعضكن/م أن دولة ما بعد 2013 تُقدم نفسها كمصدر وحيد وأخير للتغيير الاجتماعي والسياسي من منطلق حمائي أبوي.
ولكي تخرج من ورطة الإحراج الذي سببه رفض النساء لمسودة القانون، كان لابد من وجود “لقطة” تستعيد بها الدولة زمام التغيير، وتسحبه من كل ما هو ليس موالياً للنظام الحالي.
ولتحقيق ذلك، تم العمل على المسلسل، لتظهر الدولة مرة أخرى على الساحة وتُعلن تغيير القانون. وتُبنى السردية الرسمية على أن الدولة قررت تغيير القانون بعدما تم تسليط الضوء على عواره في عمل درامي. ويتم تنحية كل الجهود التي قامت بها النسويات لتغيير قوانين الأحوال الشخصية. ويُصبح الخطاب النسوي الوحيد هو خطاب الدولة ومَن والاها، ولا عزاء للنساء.
أما عن أزمة إبراهيم عيسى مع الأزهر، فأنا واثقة أن الإدارة السياسيّة ستجد – أو وجدت بالفعل – طريقة للوساطة، ليبقى عيسى ضد التشدد وليس ضد الأزهر، ويظل الأزهر في دوره السياسي كمؤسسة دينية رسمية.
لذلك، فأنا أتوقّع خروج تعديلات على قوانين الأحوال الشخصية المصرية أو طرح مسودات جديدة على البرلمان، لم تُشارك بها القوى المدنية والنسويّة في الشهور المقبلة.
أذكّر نفسي وأذكركنّ أن مصدر القمع، لن يكون أبداً مصدراً للحريّة. وأي مسودة مطروحة أو سيتم طرحها، لو لم تُشارك بها القوى النسوية المستقلة عن الدولة، ما هي إلا فُتاتٍ يُلقى للنساء.
فُتاتٌ ابتلعَ الخطاب النسوي المستقل عن الدولة، وهضمه. وقدّم الدولة في دور المُنقذ بدلاً من دور المُشارك المُستجيب لمطالب النساء.
حين تتعالى الدولة عن الاستجابة لمطالب النساء وتحتاج إلى “لقطة” الإنقاذ تلك، تحتقرنا مرتين: مرة لأننا مواطنات، ومرّة لأننا نساء.
كتابة: غدير أحمد