بعد 12 عاماً من ثورات الربيع العربي .. أين مواقع النساء من الأقليات الجنسية والجندرية؟
منذ عام 2010 وبعد اندلاع الثورة التونسیة، ثم بدء سلسلة ثورات الربیع العربي، سقطت أنظمة وصعدت أخرى، سواء كانت من صفوف الثورة أو من بقایا النظام السابق.
أثناء ذلك التغییر السیاسي، مرّت دول المنطقة التي تأثرت بشكلٍ مباشرٍ بھذا الحراك السیاسي، بحالةٍ من التغیر المستمر في نظامھا السیاسي والاقتصادي، ھویتھا الأیدیولوجیة، الوعي الجمعي في سبیل العمل على تحقیق المطالب التي صاغتھا الثورة في ھتافاتھا.
وما جاء بعد ذلك من مطالب فئویة مع كل صدامٍ سیاسي و/أو مجتمعي، الذي شكّل على مدار 12 عاماً الخریطة السیاسیة الحالیة للمنطقة، وطوّر مفھوم السیاسة ما بین الخاص والعام.
لذلك، ھذا المقال ھو محاولة سرد للأحداث من منظور نسوي كویري. ویركّز على مواقع النساء من الأقلیات الجنسیة والجندریة، أثناء وبعد التغییر السیاسي الأضخم في التاریخ الحدیث للمنطقة.
أین كنّ؟ أین یجب أن یصبحن؟ وماذا تعني السیاسیة بالنسبة إليھن؟
حراك سيئ السمعة!
“عیش، حریة، عدالة أجتماعیة”.
3 ھتافات لخّصت مطالب ثورة الخامس والعشرین من ینایر 2011، التي كانت ثورةً لكل الشعب، شاركت فیھا جميع فئات المجتمع.
وكانت النساء من الأقلیات الجنسیة والجندریة منخرطات في العمل السیاسي سواء عبر الأحزاب، الحركات السیاسیة، ومؤسسات المجتمع المدني، آملاتٍ في مفھومٍ أوسع للسیاسة والحریة.
مفھوم تقاطعي، یسمح لقضایاھن في المجال الخاص أن تصبح مرئیةً ومسموعةً في المجال العام.
حتى مع تطوّر الأحداث وارتفاع شعبیة “الإخوان المسلمین”، ووصول تیار الإسلام السیاسي إلى الحكم عام 2012. ثم عزل جماعة “الإخوان المسلمین” وتولّي القوات المسلّحة للحكم، ثم إغلاق المجال العام.
سنوات شكّلت فیھا النساء من الأقلیات الجنسیة والجندریة صفوفاً إضافیة للحراك المدني، تعرّضن فیھا للاستھداف والملاحقة الأمنیة، والعنف المجتمعي والتحریض الإعلامي.
وعام 2017، تحدیداً بعد حفلٍ غنائي لفرقة “مشروع لیلى” اللبنانیة التي حمل فیھا عدد من أفراد مجتمع المیم.ع علم فخر المثلیین/ات جنسیاً، وعلى رأسھن/م الناشطة المصریة الراحلة سارة حجازي، التي تعرّضت للاعتقال والاتھامات الملفّقة والتعذیب، على خلفیة تعبیرھا عن ھویتھا كامرأة مثلیة الجنس، فبعد اعتقالها انقسم المشھد العام.
تضامنت العدید من المجموعات والأحزاب والمؤسسات الحقوقیة بشكلٍ واضحٍ مع سارة ومجتمع المیم.ع في مصر.
بینما اختار البعض الآخر أن یعلنّ/وا تضامنھن/م مع سارة باعتبار أن ما حدث ھو اعتقال على خلفیة حریة الرأي والتعبیر من دون ذكر أنها امرأة مثلیة الجنس تعرضت للاعتقال بسبب رفعھا لعلم فخر المثلیین/ات، على خلفیة قانون مكافحة الإرھاب وبجانبه قانون 10 لعام 1961، الذي یستھدف أفراد مجتمع المیم.ع بشكلٍ تعسفي منذ التسعینیات. في حین أن القانون المصري نفسه لا يجرّم المثلية الجنسية نصاً وتشریعاً.
احتجّ الجیل الأصغر في تلك المجموعات داخلیاً على الخطاب المستخدم. وأصدرن/وا -بشكلٍ مستقل- بیاناً أكثر تقاطعیةً وإنصافاً.
بینما اختار ما تبقى من المجموعات أن لا یشتبكن/وا مع الأحداث خوفاً من سوء السمعة التي قد یسببھا تضامنھن/م مع سارة، وبالتالي فقدان قاعدة جماھیریة محافظة، ھي الأھم سیاسیاً.
بعد مرور تلك الفترة أدركنا جمیعاً أن مفاھیم كالشخصي والسیاسي قد تختلف عن من ھم/ھن أقل تقاطعيةً حتى وإن استخدمت منذ السبعينيات مصطلحات كـ”السیاسي شخصي والشخصي سیاسي”.
وأدركنا أن ما یضع فروقاً بین السیاسي والشخصي ھي حسابات مجتمعیة وسیاسیة، ترى التضامن معنا أداةً لھدم السمعة!
أدركنا أن الحریة ھي التي تتناسب مع المفھوم المجتمعي، الدیني، القبلي، المركزي، والذكوري. وأن العدالة الاجتماعیة تقف في سلّم النوع الاجتماعي، بین مفھوم الرجل والمرأة في المجتمع المصري الغیري المحافظ.
ثورات الربيع العربي .. مركزیة التغییر
“انثایة مش مسبة، اللوطي مش مسبة!”.
أرى دائماً أن الثورة اللبنانیة هي أكثر ثورات المنطقة تقاطعیةً – مع وضع السیاق الزمني في عین الاعتبار- في حین كانت المطالب الشعبیة لبقية دول المنطقة ھي انتزاع حق المشاركة السیاسیة من ید النظام، والقضاء على الفقر والوساطة، كانت المطالب الشعبیة للثورة اللبنانیة ھي القضاء على الإقصاء المتعمد للفئات المھمّشة والأقلیات.
بل كانت ھناك تظاھرات نسائیة تقودھا الناشطة العابرة “نایا رجب” وھن یھتفن “علّي وعلّي الصوت، على الترانسفوبیا في بیروت!”.
ذلك الخطاب الثوري التقدمي، على الرغم من شمولیته – عملیاً – لم تتجاوز أصداءه ضواحي بیروت بل كان مركزیاً للغایة.
ففي حین تعتقل السلطات اللبنانیة بموجب المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني النساء من الأقلیات الجنسیة والجندریة، كانت النساء في الأقالیم والمناطق الریفیة یتعرضن إلى جانب الاعتقال، للفحوص الشرجية.
فعلى الرغم من أن نقابة الأطباء ووزارة العدل جرّمتا الفحوص الشرجیة عام 2012، بعد حملة أطلقھا نشطاء وناشطات لبنانیین/ات لمناھضة هذه الفحوص تحت شعار “فحوص العار”، إلا أن بعض قضاة التحقیق خارج بیروت، ما زالوا يطلبون من الأطباء، في القضایا التي یتھم فیھا أفراد مجتمع المیم.ع بممارسة “الجنس خارج إطار الطبیعة” بحسب المادة 534، إجراء الفحوص الشرجیة وبعض هؤلاء الأطباء یلبون النداء.
وفي حین انتزعت النساء من الأقلیات الجنسیة والجندریة مواقعھن داخل الحراك السیاسي التقدمي في بیروت، كانت النساء الكویریات في المناطق الریفیة والھامشیة محاصرات بین خطاب رجعي محافظ، وبین العادات الدینیة والقبلیة، بلا مواقع لانتزاعھا، وبلا فرص متساویة للتمكین.
تلك المركزیة التي ولدت على ید السیاسیین ورجال الأعمال ورجال الدین والمیلیشیات، الذین اتفقوا جمیعاً -مجازاً- على أن بیروت ھي منطقة حرة اجتماعیاً وحصریة في التغییر.
وبالقیاس على الحراك السیاسي المركزي داخل بیروت، لم یكن إلغاء مواد تجریم الحیاة الجنسیة للأقلیات الجنسیة والجندریة في قانون العقوبات اللبناني على قائمة أولویات الثورة.
بل أُلقیت بالكامل على عاتق أفراد مجتمع المیم.ع وحدھن/م. فكانت النساء من الأقلیات الجنسیة والجندریة في لبنان بجانب الفساد السیاسي والانھیار الاقتصادي والفتنة الطائفیة، یواجھن العنف المجتمعي ومركزیة العدالة والقانون دفعةً واحدة.
كنّ یبتن في المخافر، ویخضعن لفحوص جسدیة قسریة، ویواجھن سیاسات الإفقار المتعمّدة والعنف المجتمعي والجنسي، وھن یسمعن عن تغییرٍ جذري لسن جزءاً منه ولا قادرات على المشاركة فيه.
كل النساء؟ .. “النسویة ما تقتلش، العنف یقتل”
حتى بالنظر إلى تجربة تونس التي جَنت -إلى حدٍ ما- ثمار ثورتھا وعزلت “الإخوان المسلمین” وصعد نظام آخر أكثر انفتاحاً وبدأت تتغیر القوانین فیھا لصالح النساء، مقارنةً ببقية دول المنطقة. إذ حصلت النساء التونسیات على حق الزواج برجلٍ من أي خلفیة دینیة بفضل تقنین الزواج المدني، وحقھنّ في الحمایة من العنف- تشریعیاً- وفقاً للمادة 58 الخاصة بتجریم العنف ضد النساء، والتي تصل عقوبتھا إلى 20 عاماً من السجن.
وھذه مكتسبات ناضلت التونسیات لانتزاعھا سنوات، عملت خلالها المؤسسات النسویة على رفع الوعي المجتمعي لخلق مجال عام أكثر أماناً للنساء.
حتى وإن كانت تلك التغییرات على المستوى التشریعي، ولم تتحقق تنفیذیاً حتى الآن على أرض الواقع، إلا أنھن الآن یملكن دافعاً دستورياً لرفض العنف ومواجھته.
لكن وضع النساء من الأقلیات الجنسیة و/أو الجندریة في تونس لم یختلف كثیراً عن دول المنطقة الأخرى.
فالفصل 230 من قانون العقوبات التونسي یجرّم المثلیة الجنسیة رغم تعارض ذلك مع الدستور، إذ وفقاً للفصل 23 منه، ھو ملزم بحمایة الحیاة الجنسیة للمواطنین/ات.
وعلى سبیل المثال لا الحصر، اعتقلت السلطات التونسیة العام الماضي الناشطة “رانیا العمدوني” باتھامات زائفة، بعد أن ذھبت إلى قسم الشرطة لتقدیم شكوى ضد أفراد أمن تعدوا علیھا كونھا ناشطة في مجتمع المیم.ع.
وقُوبلت حینھا رانیا باتھامات “التعدي على موظف أثناء عمله، التسبب في الھرج والاضطراب”، كأحد أشكال الاعتقال التعسفي، في محاولةٍ لإسكاتھا عن كل القضایا التي تدافع عنھا، وكل ما تمثله ھویتھا التقاطعیة.
مرّت إجراءات محاكمة رانیا سریعاً. فحُكمت في عدة أیام فقط، وأدینت بالاتھامات الثلاث، وحُكم علیھا بالسجن لمدة 6 أشھر حتى أفرجت محكمة الاستئناف عنھا واستبدلت العقوبة بغرامة مالیة.
وبالتالي، لا يشمل قانون حمایة النساء من العنف في تطبیقه العنف ضد النساء من الأقلیات الجنسیة والجندریة، بسبب تنفيذ المادة 230 علیھن، وما يترتب عليها من اعتقالٍ تعسفي مبني على التعددیة الجنسیة والجندریة والعنف في مقرات الاحتجاز.
لذلك، فإن المطالب التي أنتجت قوانین حمایة العنف ضد النساء، وتجاھلت تماماً حیاة النساء من الأقلیات الجنسیة والجندریة لم تكن لجميع النساء، بل كانت حصریة على من ھن مغایرات المیل الجنسي ومتوافقات الھویة الجندریة.
ثورات الربيع العربي .. خطاب الأولويات خطاب إقصائي!
ليس ھذا المقال مادةً للتنظیر على نضالات الآخرین/الأخريات أو المزایدة. ولیس لإخباركِ/كَ أن لقضایانا أولویّةً عن ما تناضل/ين أنتَ/تِ لأجله.
على النقیض تماماً، خطاب الأولویات الذي رأى في البدایة أن لقضایا أولویّة على أخرى، والذي أقصانا لسنوات ھو ما جعلني أكتب الیوم، لأخبركَ/كِ أنني أخشى أن أتعرّض للاعتقال كوني عابرة جندریاً، فترى/ترين أنتَ/تِ اعتقالي غیر سیاسي.
وأن تخاف/ين في هذه الحالة أن تلوّث/ي سمعتكَ/كِ بدعمي وتستمر/ين بوصفي بـ”غیر السیاسیة”، وتختزل/ين معنى السیاسیة في العام، فتنسى/تنسين أن الشخصي سیاسي، وأن رفضي للعنف في منزلي ھو رفض لثقافة العنف التي صدّرھا المجتمع لمنزلي.
وأن احتجاجي على إقصاء المجتمع لي ھو احتجاج على ثقافة الإقصاء التي فرضتھا الدولة على المجتمع لإقصائي. ورفضي الیوم لإقصائكَ/كِ لي عن المشھد، ھو رفض لإقصاء الدولة لكَ/كِ.
ورفضي لخطاب الأولویّات الذي أنتجته الثورة، ھو رفض لخطاب أي نظام دیكتاتوري رأى أن قضایاكَ/كِ لیست أولویة، وأن الاحتجاج ما بین الخاص والعام ھو فعل سیاسي دائماً.
كتابة: ملك الكاشف