في فهم تجربة الأمومة.. قراءة في كتاب عن الأمومة وأشباحها

تحضر الأمومة في السرديات العامة بكثيرٍ من التبسيط، ما بين التنظير الأبوي، والديني الذي يصبغ عليها صبغة رومانسية.

سردياتٌ تنزع الإنسانية عن الأمهات، فتصوّرهن كمخلوقاتٍ تتمتع بقوىً خارقة، وتسخّر حياتها لخدمة أبنائها، على اعتبار أنها جُبلت على التضحية والإيثار.

ناهيك عن التنظير الطبي الذي يقارب الأمومة من زاويةٍ بيولوجية.

فتصبح النساء مجرد أجسادٍ حاملةٍ للأجنة، ومراحل، وضغط دم، وأملاح.

الأمومة كسردية نسوية

تضيع السردية الأهم، تلك التي تدقق في الأمومة ككلٍّ يمتزج فيه الجسد بالسلطة، والمشاعر، والتفاعل، والبناء الاجتماعي والسياسي.

تجربةٌ يجب أن تُرى بعين من تخوضها، وبتعقيد مراحلها وتأثيرها.

فكانت النسوية دائمة التركيز على النظر إلى الأمومة من زاوية تفكك السلطة الأبوية عن الجسد عبر فرض الهيمنة الإنجابية. بينما كان هناك تنظير أقل حولها كتجربة وخبرة وصراعات.

ولعل أهم الكتابات التي تناولت الأمومة بشكلٍ دقيق، هو ما قدمته إيمان مرسال في كتابها “كيف تلتئم.. عن الأمومة وأشباحها”.

مزجت الكاتبة في سردها ما بين النظرية والتجربة حول الأمومة.

كتجربةٍ تتسرب ما بين ثنايا التنظير والأوامر، إلى تجربةٍ حسّيةٍ وإنسانيةٍ يخضن الأمهات عبرها ما يسمينه الرعب والمرض النفسي وصراع الوجود بين ذوات مختلفةٍ رغم اتصالها.

ثيمة الأمومة والعنف

في أول فصلٍ من الكتاب تناولت إيمان مرسال ثيمة الأمومة والعنف التي تهدم من خلالها رمنسة الحمل كانسجام ٍ بين الأم والجنين.

وأضاءت حول منافاة هذه المرحلة للخطاب العام الذي غالباً ما يصور الحمل كتمازجٍ بين روحين، وفترة تعيش فيها النساء ذروة سعادتها.

فرغم الصعاب الواضحة طبياً، إلا أن البناء الثقافي الأبوي حرص على جعلها تجربةً رومانسية، يغلب عليها الحب اللامشروط والسعادة والرضى والتماهي بين ذاتين (المولود/الأم).

بينما حرصت مرسال على جعل هذا الفصل يستعرض الجانب القاسي والعاري للأمومة.

ذلك الذي يعرض الاضطراب والمشاعر المخفية التي لا يمكن قولها في العلن، مثل اليأس والكراهية والخوف وعدم القدرة على الصبر واختبار النفس.

تجربة غير مثالية

يتناول هذا الفصل أيضاً لا مثالية التجربة، وما يخرج عن المتن العام الذي يتسم بصرامةٍ أبويةِ ترفض أن ترى الأم دون أن تكون متماهية مع ما يُراد منها.

فصورة الأم المثالية المضحية والمستعدة لبذل كلّ جهدٍ في سبيل إنتاج رجال جاهزين لممارسة السلطة ونساء خاضعات لها أساسية للنظام الأبوي. ومن دونه يفقد هذا النظام ركيزةً أساسية.

لذلك يكون شعور الذنب رديف الأمومة، ومن تشكك في مثالية تجربتها الشخصية تقابل بإدانةٍ أخلاقيةٍ وإجتماعية.

لهذا غابت سرديات تجارب الأمهات دون تجميل.

وانتظرت النساء قروناً لتتكون الحركة النسوية، وتصيغ خطاباً معارضاً لكل ما اُنتج عنهن وعن أجسادهن. فتعالج تغييب أصواتهن وحقوقهن في تشكيل سردياتٍ حول حياتهن، وما يخضنه، وما يفرض عليهن، وما يرغبن به.

كسر حصار علاقة الأم بجسدها

ساعد العمل النسوي المتواصل في كسر الحصار الذي يفرض سلطةً وتنميطات وتعميمات في علاقة النساء بأجسادهن وبالعالم.

تأخذنا إيمان مرسال لتبرز عدم المثالية في هذه التجربة.

فوصفتها من ناحيةٍ بيولوجيةٍ، حين يكون الجنين مبرمج على الأنانية ويعتمد على الأم في كل شيء، حتى لو تطلب ذلك أن تتصرف ضد مصلحتها.

تنكر الأم ذاتها من أجله، وتتحمل أن يتغذى كائنٌ من جسدها وعظامها. فتورثه الأمراض، لكنه يلصقها أيضاً بأمراضٍ مزمنة.

ترى إيمان أن رغبة أي امرأة في الأمومة قد لا تخلو أيضاً من حب الذات. كأنانية الأم في أن يكون لها امتدادٌ وأثرٌ في الأرض.

وعطفاً على كلامها، يمكن أيضاً أن نرى أن الأمومة لا تخلو من رغبة الأم نفسها في التفاوض مع النظام الأبوي. فتحظى بشرعيةٍ معينة تنقلها لمنزلةٍ تستطيع من خلالها حيازة امتيازات معينة.

فمنزلة الأم هي أهم هرميات التفاوض في المنظومة الأبوية، وتُعطى من خلالها سلطةٌ رمزية تحظى بها الأم ما دامت منسجمة مع دورها.

الذنب في الأمومة

لا يختفي الصراع فور الولادة، بل يمتد إلى ما بعدها.

فيظهر على شكل ذنبٍ متواصلٍ، وهو الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهن.

من هنا قالت إيمان مرسال إن “المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوة والحب والعمل والصداقة، هو أيضاً نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين اخفاقاتها في الخبرة الشخصية”.

وتواصل في تعريف هذا الشعور الذي يعد السمة المرافقة للأمومة بأنه “شعورٌ جوهري، حتى أنه يصلح كتعريفٍ لممارسات الأم في حياتها اليومية: ابنك وزنه أقل من معدل وزن من هم في عمره، لابد أنك لا تطعميه ما يكفي. لقد استيقظ فزعاً من كابوس لأنه لا يشعر بالأمان. أنتِ لم تحضنيه أمام باب المدرسة لأنك كنتِ متأخرة عن عملك…”.

إعادة إنتاج الأمومة

وصفت إيمان مرسال الذنب في الأمومة بأنه الشر المطلق النابع من الصورة المثالية للأمومة. حيث لا نهايةً لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حبٍ وحمايةٍ واستثمار في الوقت والتعلي.

كما أنه ذاكرة ترافق التجربة السابقة للأمومة التي كانت فيها الأم ابنة، فتبدأ في إعادة إنتاج أمومة أمها دون أن تعي ذلك.

استطردت إيمان مرسال في نقطة إعادة إنتاج أمومة أمهاتنا.

فتقاطع التاريخ الشخصي مع الطبقة والجغرافيا في تحديد الذنب ومفاقمته. بالإضافة إلى مفاقمة التصورات والتنمطيات والصراعات التي تعيشها النساء في هذه المرحلة.

كما ناقشت مساهمة المؤسسات الطبية في بلورة الأمومة من خلال الطب، وكمية المعلومات التي تفرض على الحامل نوعاً من الرعب.

إلا أنها أضاءت أيضاً جدلية الاستعمار، وإفقار دول العالم الثالث، وسياسات الاستغلال والفساد وتدهور التنمية التي أدت إلى نقصٍ في الخدمات الطبية، بل وانعدامها.

ما ساهم في ارتفاع نسب وفيات الأمهات وحرمان شرائح واسعة منهن من المتابعة الطبية اللائقة.

إن الأمومة، حسب إيمان مرسال، ليست مجردة أو شيء ننظر إليه بعيداً عن من يصارعن فيه.

إنها مزيجٌ من الخلايا والهرمونات والمشاعر والقيم والقوانين والمؤسسات التي تتحكم في أجساد النساء، وتصبغ تجربتهن وتدفع بهن نحو الصراع والخوف والحب والأنانية والرعب وتشكيلة هائلة من القواعد والنواهي والرغبات والآمال والانسجام والانفصال بين ذوات مختلفة.

هذه التجربة تتطلب دراسةً نسوية أكثر، لتجد المساحة الكافية من الكتابة والتنظير والتمحيص، وسماع القصص والتجارب المختلفة رغم اتساقها.

وتساهم مراكمة السرد الشخصي للأمهات ضمن الخطاب النسوي في خلق العزاء والمواساة والمعارف والخبرات للعديد من النساء.

فلا يُتركن وحيدات بين فكّي الأبوية، ومؤسساتها، والمجتمعات التي تقتات على النماذج المثالية للأمومة.

مجتمعاتٌ، بلا شك، تتأسس على صحة النساء النفسية والجسدية، وسلامتهن، وحقوقهن.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد