عنف التوليد: ما بين رمسنة الإنجاب والتحيز الطبي ضد النساء
كمرادف اجتماعي للإنجاب، تشغل الأمومة الحيز الأكبر من تعاليم النظام الأبوي والتحضير للدور الجندري: “المرأة”. تبدو مسيجة بشكلٍ يصعب فيه اختراق جدار الرومانسية الموضوع حولها من التشاريع والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وذلك نظرًا لقيمتها في إعادة الإنتاج الاجتماعي.
لكن هذا التطويق الأبوي لم يمنع النساء من كشف العنف والانتهاك والتعب الكامن وراء دور الأمومة داخل الأنظمة الأبوية.
في هذا السياق، ظهرت العديد من الكتابات والتجارب النسوية حول العنف ضد النساء أثناء عملية الولادة. فمنذ ظهور الطب الحديث ومؤسساته، كشفت النسويات الستار عن الواقع السيء لهذا القطاع وممارسته العنيفة ضد النساء وأجسادهن.
بشكلٍ أكبر، عرفت هذه الدراسات في أميركا الجنوبية مثل المكسيك، وبعض دول إفريقيا مثل تنزانيا. حيث أظهرت هذه الدراسات خطورة العنف الذي تتعرض له النساء داخل المستشفيات أثناء الولادة من اعتداء جسدي ولفظي وتمييز. خصوصًا إذا كانت هؤلاء النسوة ينحدرن من أقليات عرقية وطبقات اقتصادية هشة.
إلا أن الاهتمام بدراسة هذه الظاهرة وما ينتج عنها من عنف وتمييز باللغة العربية ما زال قليلًا. مع ذلك، فإن الجلسات والنقاشات اليومية للنساء تكشف انتشار هذه العنف في الدول الناطقة بالعربية. بل وتطوره في قطاعات الطب العامة، ليصبح تجربة رديفة للولادة. وقد وثّقت عدد من الناشطات تجاربهن مع عنف الولادة على موقع التواصل تويتر عبر هاشتاق #عنف_التوليد. لتنكشف مجموعة من الانتهاكات والتجاوزات التي يندر لفت الأنظار لها في بلداننا.
مما يجعلنا نتساءل: إذا كان الإنجاب هو الدور الأسمى للنساء في الأنظمة الأبويّة، لماذا يعاقبن بسوء المعاملة أثناء الولادة؟
عنف التوليد جزء من تجربة الإنجاب
يعرف عنف التوليد أو العنف أثناء الولادة بأنه مجموع الممارسات والسلوكيات والأفكار التي تعرض النساء للتمييز والإهمال. علاوة على العنف الجسدي والنفسي أثناء عملية الولادة من الطواقم والمؤسسة الطبية.
وتنتج هذه الظاهرة تجربة مريرة بالنسبة للنساء المقبلات على الإنجاب. فسوء المعاملة يمنعهن من تلقي الرعاية الصحية والنفسية اللازمة.
والجدير بالذكر أن عنف التوليد لا يبدأ في يوم الولادة فقط، لكنه يمتد طيلة أشهر الحمل. ويتضمن إساءة المعاملة أثناء الفحوص والمراجعات الطبية. كما يدخل تحت مظلته الواسعة استخفاف الطواقم الطبية بالحالة النفسية والجسدية للحوامل، وعدم أخذ ألمهن بجدية.
كما أن العديد من النساء تشتكي من عدم وجود مساحة للاستماع لكل حالة على حدة. إلى جانب عدم فتح المجال لهن لطرح الأسئلة والتعبير عن مخاوفهن، وفهم هذه التجربة بشكلٍ إنساني. أي إضاءة جوانبها المعقدة، والاعتراف أنها ليست مجرد حالة بيولوجية. بل تختلف حسب المحددات النفسية والاجتماعية والاقتصادية لكل حامل.
وتعرف غرف الولادة أنواع أكبر من العنف. حيث تبدأ بالعنف اللفظي والإهمال، وحتى العنف الجسدي الذي قد يصل للضرب والصفع والاستهزاء بالألم. هذا بالإضافة إلى الوصم الجنسي، وانتهاك أجساد النساء بتنفيذ إجراءات طبيّة لم يوافقن عليها، أو وفقًا لطلب الزوج. لذا، تنتشر الانتهاكات الطبية الناتجة عن الفكر الذكوري. أبرزها ما يتم تسميته “غرزة الزوج” التي يقوم بها طبيبات/أطباء دون شرح أو توضيح لهدفها. حتى أصبحت جزءًا من عملية الولادة، وواقع مفروض على المُنجبات.
خلال الفترة الماضية، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع توثق تعرض النساء للاعتداء الجنسي أثناء الولادة، خاصةً تحت التخدير. هذه المقاطع صادمة، لكنها ليست غريبة على تجارب النساء أنفسهن مع المؤسسة الطبية. حيث ينتشر الاعتداء الجنسي من الأطباء الرجال، ونادرًا ما يأخذ حيزًا من النقاش. وذلك بسبب موازين القوى، والهالة المحيطة بالمؤسسة الطبية كقطاع يخدم وينقذ الأرواح.
لماذا تعاقب النساء على الإنجاب؟
تطرح قصص النساء مع عنف التوليد إشكالية لطالما ارتبطت بالنظام الأبوي. وهي أنه لا يمكن أن يوفر تجارب آمنة حتى تلك التي تتمحور حولها سلطته. فالأدوار الجندرية، رغم حرص هذا النظام على ترسيخ أهميتها للنساء ومكانتهن، إلا أنها ترتبط بعوامل وبنى فكرية عنيفة.
في هذا الصدد، من المفيد شرح التناقض بين تشجيع النساء على الأمومة، ودفعهن عبر المؤسسات الاجتماعية وإجبارهن على الإنجاب وتصويره كوجهة حتمية وتحقق ذاتي، وبين ما يتعرضن له من إساءة وعنف واستنزاف. في الحقيقة، ينبع هذا التناقض من معاداة النظام الأبوي للنساء. فكراهية النساء هي جزءٌ أصيلٌ من قيمه الراسخة.
هناك حاجة دائمة لمعاقبة النساء، وتهديد أمنهن ووسم تجاربهن بالتمييز. وهذا بالضبط ما يحدث مع فئات كبيرة من النساء أثناء الحمل والولادة.
معظمهن لا يستوعبن التعامل معهن بهذه الطريقة المهينة. بينما يقول لهن المجتمع والدولة والتشريعات الدينية والقانونية أن قيمتهن مرتبطة بالإنجاب كفعل بيولوجي، والرعاية كفعل اجتماعي.
ويعتبر العنف الأبوي داخل المؤسسة الطبية عثرة في تلقي الرعاية الصحية اللازمة أثناء الحمل والولادة بالنسبة لنساءٍ كثيراتٍ. لكنه أيضًا تصريح مباشر بأن النساء سيعاقبن سواءً كن منجبات وأمهات، أم لا.
المؤسسة الطبية والعنف الذكوري
يرتبط تاريخ المؤسسة الطبية بالنظام الأبوي بشكلٍ كبيرٍ. فالمناهج الطبية لا تزال متحيزة جنسيًا. إنها أشبه بماكينة تنتج أشخاصًا يحرصون على تحويل خرافات النظام الأبوي حول الجسد والجنسانية إلى حقائق لا يستطيع أحد التشكيك فيها تحت سلطة “التخصص العلمي”.
يتخرج طالبات/طلبة الطب محملات/ين بغسيل أبوي للأدمغة. حيث يفقدهن/م القدرة على التصرف بمهنية مع النساء. وإن تحققت هذه المهنية، تكون بشكلٍ فردي. بينما المشكلة الحقيقية هي مشكلة نظام يتحيز أولًا ضد النساء. وثانيًا، يتخذ شكل الخصخصة والطبقية في كثيرٍ من بلدان المنطقة، أي يربط المعاملة الجيدة بقدرة كل فرد على الدفع.
في هذا الواقع الخطير، تكون النساء في مواجهة مؤسسة تفرض عليهن تلقي الرعاية عبر القطاع الخاص الذي يطلب مبالغ خيالية. أو عليهن التعرض للعنف والإهمال في القطاع العام. تروي أغلب النساء عن تعمّد بعض الأطباء الإساءة إليهن، كطريقة ابتزاز من أجل المال أو العلاج في العيادات الخاصة. وهذا ما يترك نساء الطبقات المفقرة في مواجهة حتمية مع العنف وانعدام الرعاية والإساءة.
نضيف إلى ذلك، أن المؤسسات الطبية لم تتخلص بعد من الخرافات والتنمطيات الذكورية عن أجساد النساء والأجساد غير المعيارية. حيث تزخر المناهج الطبية بالأفكار المغلوطة عن الجوانب الجنسانية والإنجابية، أو ترفض مقاربتها من زاوية مهنية غير متحيزة جنسيًا. ويظهر ذلك في الممارسات الطبية، والأفكار الذكورية التي تمرر للنساء عن أجسادهن. كما يظهر في الميسوجينية الواضحة التي تطبّع تعامل الطواقم الطبية مع النساء بدونية وعدم اكتراث لشكاويهن وآلامهن.
الإنجاب كمعيار غيري للمنظومة الطبية
علمًا أن التطور الطبي في تسارع كل يوم. وقد وصلت الأبحاث الطبية إلى نتائج مذهلة في تحدي الأمراض، والرفع من قدرة البشر على النجاة. وكذلك في تحسين صحتهن/م ومقدرتهن/م على معايشة المرض وحتى التحكم فيه.
لكن هذا التطور لم ينعكس على علاقة الطب بالنساء أو الفئات الجندرية المختلفة. ويصعب فهم التمسك بالأفكار الذكورية المغلوطة والمسيئة والتغاضي عن الحاجة لإنشاء منظومة طبية تعترف بأن ما تم إنتاجه واعتماده عن النساء في الطب لا يزال متحيزًا جنسيًا. إلا في حال ربطه بتبعية المؤسسة الطبية للنظام الأبوي. لأن الإبقاء على وجود هذه الخرافات وتوارثها عبر أجيال من طالبات/طلبة الطب، ما هو إلا للتحكم في النساء والوصاية عليهن. وهو بدوره ما يرسّخ النظام السياسي نفسه الساعي للهيمنة على أجسام النساء “كأدوات إنجاب“.
وساعدت مواقع التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبير في تقديم صورة أفضل عما تدرسه الطالبات/الطلاب في المناهج الطبية. فقلما صادفتنا مقاطع طبية موجهة للنساء، دون أن تزخر بالوصم والخرافات عن أجسادهن وانجابيتهن وجنسانيتهن. حيث تنتشر المقاطع التي تعزز خرافة “غشاء البكارة”، أو تنشر معلومات مغلوطة عن الجنسانية والصحة الانجابية للنساء. أبرزها مقاطع تنشر أفكارًا نمطية عن الحيض، أو تحذر من الاجهاض بخطاب أبوي بحت. أما المقاطع التي تحذر من المثلية، فتتصدر محتوى كثيرٍ من الأطباء/الطبيبات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد نشر حساب “الحركة النسوية الأردنية” على تويتر صور لنموذج من المناهج الطبية في الأردن. إذ يحتوي على أفكار ذكورية، وتتضمن الشكوى من أسئلة النساء وآلامهن وأنهن يدعين الألم. وتظهر مستوى خطير من العنف والوصاية على النساء في أماكن الرعاية الصحية.
بالإضافة إلى هذا، فإن عنف التوليد مرتبط بالوصم الجنسي للنساء، مثل التعدي بكلمات ذات حمولة وصمية عندما تصرخ امرأة ما من الألم أثناء المخاض. ومن بين هذه الكلمات: “لماذا تصرخين الآن؟ ألم تفكري في هذا الألم وأنتِ تفتحين رجليك؟”. أو السخرية من ألمهن ورفض تقديم المسكنّات لهن، كما لو أنهن تحت العقاب. “لقد تحلمتِ الجنس، الآن تحملي العواقب”.
الطب مهنة للنجاة لا للعقاب
قصص الإساءة والإهمال وعدم أخذ آلام النساء بجدية، العنف والتعدي على الخصوصية والوصم الجنسي، تترك آثارًا سيئة على تجارب النساء مع المؤسسة الطبية والعاملات/ين فيها.
ومع اتجاه العديد من دول الجنوب إلى الارتهان لسياسات “البنك الدولي” الهادفة إلى خصخصة الخدمات الطبية، فإن هذه المؤسسات أصبحت تعرف أنواع متقاطعة من العنف، منها العنف الأبوي والعنف الطبقي.
لهذا تهتم الجهود النسوية بمناهضة العنف داخل المؤسسات الطبية. كما تدعو إلى المحاسبة والقطيعة مع المعارف الذكورية في الطب، وبناء علاقات إنسانية ومهنية بين المريضات/المرضى ومقدمات/ين الرعاية الصحية.
كما أنه من المهم إلزام القطاع الطبي، سواءً على مستوى الأطقم الطبية أو الإدارية أو التمريضية، ببروتوكولات تمنع نشر وممارسة الأفكار الذكورية وتمنع العنف داخل المستشفيات والقطاعات الطبية.
الطب مهنة تسعى للحفاظ على صحة الكائنات الحية ومساعدتها على النجاة والحماية/المعالجة من الأمراض وتحسين صحتها. ويجب ألا تبقى رهينة الأفكار الذكورية والممارسات الطبقية. كما يجب ألا تتحول المستشفيات إلى مكان مخيف ومليء بالعقاب وروائح الموت والعنف.