اكتئاب ما بعد الولادة .. أين حق النساء في الدعم والعلاج النفسي؟

منذ عام تقريباً، توجهت منى (31 عاماً) في الصباح الباكر إلى المستشفى لإجراء عملية ولادة قيصرية في موعدٍ حدّده لها الطبيب.

كانت تتوقع بعض الألم، إلا أن ما عانته في الأيّام التي تلت الولادة، فاق جميع توقعاتها.

في الأيام الأولى شعرت بآلامٍ جسدية، أخبرتها نساء عائلتها بأنها طبيعية ولا داعي للقلق.

لكن في اليوم الخامس، بدأ الأرق الشديد يمنعها من النوم والطعام.

ثم تضاعفت آلامها مع التهاب جُرح الولادة، لينتهي بها المطاف في المستشفى من جديد.

وعن هذه التجربة، قالت منى لـ”شريكة ولكن”: “كان لدي مشاعر عنيفة ومضطربة، خوف شديد ممزوج بالقلق وانعدام الثقة بالنفس. نفور شديد من طفلتي، وفي الوقت نفسه شعور جارف بالذنب تجاهها. وهاجمتني الكوابيس خلال الساعات القليلة التي أضطر فيها للنوم”.

وأضافت: “كنت أعزّي نفسي بأنها مجرد حالة مؤقتة وستنقضي، لكن شدّة الأعراض زادت يوماً بعد يوم، فأصبحت تصيبني الهلاوس وأنا مستيقظة”.

منظمة الصحة العالمية: امرأة من كل 5 نساء تعاني من تدهور الحالة النفسية أثناء الحمل، وبعد الولادة.

رعاية ما بعد الولادة لتفادي الإصابة بالاكتئاب

في تلك الأثناء، اصطحبتها شقيقتها إلى طبيبة نفسية أكّدت إصابتها باكتئاب ما بعد الولادة.

فبدأت بعدها مباشرةً بالعلاج الدوائي والنفسي، الذي استمر نحو عام.

عادت من بعده إلى حياتها الطبيعية مجدداً، واختفت آلامها الجسدية. وشعرت بتحّسن علاقتها بابنتها الوليدة.

وأكدت منى أنها تفكّر الآن “في الإنجاب ثانيةً ولا أشعر بالخوف، تخطيت تجربتي الصعبة وتحدّيت المجتمع، الذي يعيب على النساء حقهن في العلاج النفسي، ولا يعترف بآلامهن بعد الولادة”.

وأوضحت: “لم أخفِ أنني زرت طبيبةً نفسيةً، وأكثر ما أتمناه هو أن لا تمرّ أي امرأة بما مررت به. وأن تحصل على الدعم النفسي الذي يُعتبر أحد حقوقها الأساسية”.

بينما كشفت منظمة الصحة العالمية، أن أكثر من 3 من كل 10 نساء وأطفال/طفلات لا يحصلن/ون على رعاية ما بعد الولادة في الأيام الأولى.

وهي بحسب المنظمة العالمية، “فترة حرجة قد تحدث فيها عواقب على الصحة البدنية والنفسية، تراوح بين الإصابات، والألم، والصدمات المتكررة”.

كما حذرت المنظمة من أن امرأة من كل 5 نساء ستعاني من تدهور حالتها النفسية أثناء الحمل وبعد الولادة.

وأكدت أن نحو 20% من النساء اللاتي يعانين من هذه المشكلات النفسية، قد تراودهن أفكار انتحارية، أو يؤذين أنفسهن.

لذلك، طالبت بإدماج “الصحة النفسية للنساء في فترة الحمل وبعد الولادة، من ضمن خدمات صحة الأم والطفل/الطفلة”.

اكتئاب ما بعد الولادة قد يتطور إلى ذهان ما بعد الولادة

في مقابلةٍ خاصة لـ”شريكة ولكن”، قالت الاختصاصية المصرية للعلاج والإرشاد النفسي سلمى محمود أحمد، إن “أمهات كثيرات يعانين من مشاعر الحزن والكآبة بعد الولادة، على الرغم من أن ولادة طفلٍ/ةٍ جديدٍ/ةٍ هو خبر سعيد”.

وأوضحت أن “الأعراض تبدأ خلال يومين أو 3 بعد الولادة، وتستمر لأسبوعين أو أكثر. ويعد هذا أمراً طبيعياً، وكثيراً ما تتلاشى مشاعر الحزن من تلقاء نفسها”.

لكنها أشارت إلى أن “بعض الحالات تعاني فيها الأم من اكتئاب طويل الأمد، وأكثر حدّةً، يُعرف باكتئاب ما بعد الولادة”.

وأضافت أن “نسبةً من الأمهات الجدد قد يصبن بما يسمى ذهان ما بعد الولادة”.

وهو اضطراب أكثر حدةً، يترافق مع أعراض ذهانية كالهلاوس، والضلالات، والرغبة في إيذاء النفس أو الطفل/ة.

ولفتت إلى أنه “في هذه الحالة، يجب التدخل طبياً لحماية الأم والطفل/ة معاً. وقد تبدأ الأعراض في الظهور في وقتٍ مبكر أثناء الحمل، أو بعد ذلك حتى عام بعد الولادة”.

وأكدت أن “علامات وأعراض اكتئاب ما بعد الولادة تختلف من امرأةٍ إلى أخرى. ويمكن أن تراوح شدتها من خفيفة إلى شديدة جداً”.

فهناك مثلاً أعراض الكآبة النفسية، التي قد تصاب بها المرأة نتيجةً للإرهاق وخلل الهرمونات.

مثل: تقلب المزاج، والقلق، والحزن، ونوبات البكاء، وضعف التركيز. وقد يترافق مع مشاكل تؤثر على الشهية والنوم.

وأضافت أن “هذه الأعراض قد تمتد من بضعة أيام حتى أسبوعين بعد الولادة، ثم تتلاشى من تلقاء نفسها”.

أما الأعراض الشديدة التي تتطلب تدخلاً علاجياً، فتستمر لفترةٍ أطول من ذلك بحسب سلمى.

وتكون هذه الأعراض أكثر حدةً، مثل التقلبات المزاجية الحادة، والبكاء المفرط، وصعوبة تقبل الطفل/ة وعدم الرغبة في رعايته/ا. والانسحاب وعدم القدرة على التواصل مع العائلة والأصدقاء.

يضاف إليها اضطراب الشهية إما بالزيادة أو النقصان، واضطراب النوم، والشعور بالتعب الشديد أو فقدان الطاقة، وفقدان القدرة على الاستمتاع بالأنشطة التي كانت ممتعة في السابق.

كما قد تنتاب الأم نوبات من التهيج الشديد والغضب، أوالشعور بالذنب أو اليأس.

أين حق النساء في الحصول على الدعم النفسي اللازم؟

التوعية بحق النساء في الدعم النفسي بعد الولادة، كان جزءاً من حملةٍ توعويةٍ حول “الصحة الإنجابية”، أطلقتها مبادرة “سوبر وومن” في مصر.

الهدف منها التأكيد على حاجة النساء للرعاية الصحية النفسية والجسدية، لحمايتهن من اكتئاب ما بعد الولادة.

وقالت مُؤسسة المبادرة، الناشطة النسوية المصرية آية منير لـ”شريكة ولكن”، إن “الحملة تضمنت أيضاً توعية بأشكال العنف النفسي التي تتعرض لها النساء أثناء وبعد الولادة. ومن بينها تجاهل آلامهن، وكأنهن لا يملكن الحق في المعاناة”!

آية منير
آية منير

 

وأضافت أنه “خلال الحملة، سمعنا شهادات كثيرة من نساء عانين من تجاهل آلامهن من قبل أزواجهن وأفراد أسرتهن، ما زاد من سوء حالتهن النفسية”.

وأوضحت أنه “في المقابل، كانت هناك حالات حصلت فيها النساء على دعم نفسي من دوائرهن، ما ساعدهن على التعافي، وتجاوز الآلام الجسدية والنفسية بشكلٍ أسرع، وتحسن علاقتهن بأطفالهن/طفلاتهن”.

كما أشارت إلى أن المجتمعات العربية يتنشر فيها اعتقاد بأن “النساء يدّعين الألم ويضخّمنه، وبالتالي، يتم التعامل مع معاناتهن باستنكار، وتصوير دور الأمومة على أنه مثالي وملائكي واعتبار أن ألمهن من هذا الدور أمر غريب”.

هكذا، بحسب آية، يُقال للنساء إن “الألم طبيعي، وجميع النساء يحملن ويلدن من دون شكوى، ويتم التركيز على حق الطفل/ة فقط. كأن الأم مجبرة على القيام بدورها، متحمّلةً الألم”.

وأكدت أنه “في سياق الحملة، قدمنا الكثير من حملات التوعية عن الصحة الإنجابية والجنسية للنساء، من بينها الحمل والولادة والختان، وأعراض ما بعد الولادة، والتعامل مع الأطفال والطفلات، ونظّمنا ورش ليحكين تجاربهن، ونجهز الآن لحملة عن العنف الجنسي الذي تتعرّض له النساء والفتيات، وأشكاله المختلفة”.

“الفحص النفسي ضرورة وحق لكل النساء بعد الولادة”

من جهتها، أكدت الاختصاصية المصرية للعلاج والإرشاد النفسي سلمى محمود أحمد، أن “اكتئاب ما بعد الولادة، إذا لم يتم علاجه، قد يستمر لعدة أشهر”.

وأشارت إلى أنه “قد يتطور إلى أعراض أكثر حدةً كالقلق الشديد ونوبات الهلع. وقد تراود الأم أفكاراً لإيذاء طفلها/طفلتها أو نفسها، وأفكار متكررة عن الموت أو الانتحار. وتلك تعد درجة مرتفعة جداً من الاضطراب، تتضمن أفكار أو سلوكيات مُهدّدة للحياة، وتتطلب علاجاً فورياً”.

لكل هذه الأسباب، شدّدت سلمى على أن “الفحص النفسي ضرورة وحق لكل النساء بعد الولادة. وهناك عدّة علامات إذا شعرت بها الأم عليها أن تطلب المساعدة على الفور من اختصاصي، ومن أسرتها من دون تردد أو خجل”.

ومن العلامات التي تحدثت عنها الاختصاصية النفسية: “عدم تلاشي أعراض الاكتئاب بعد أسبوعين من الولادة، وزيادة سوء الحالة، حتى لا يصبح بعدها صعباً على الأم رعاية طفلها/طفلتها، أو القيام بمهامها اليومية، أو تسبب لها أفكاراً لإيذاء نفسها أو إيذاء الطفل/ة”.

وتابعت: “أحياناً لا تدرك الأم كونها مصابة باكتئاب ما بعد الولادة، وتشعر بالذنب لأنها لا تستطيع القيام بدور الأمومة من دون أن تفهم السبب”.

وأكدت أنه “هنا تأتي أهمية دائرة الدعم من الأسرة والأصدقاء، وزيادة الوعي المجتمعي لتقبل الاضطراب النفسي للنساء بعد الولادة. ومساعدتهن على الحصول على الرعاية الطبية اللازمة من دون تأخير”.

كتابة: هدير الحضري

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد