في اليوم العالمي لضحايا/ ضحيّات الإخفاء القسري.. نستذكّر “معتقلات المنازل”

يعتبر اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري 30 آب/ أغسطس، فرصة لتسليط الأضواء على معاناة معتقلات المنازل.

إذ تستخدم المجموعات النسوية والحقوقية هذه المناسبة للتذكير بقضايا الأشخاص اللواتي/الذين وقعن/وا ضحايا الاحتجاز القسري في ظروفٍ قهريةٍ وأماكن غير معلومة.

انبثق تخليد هذا اليوم من الجهود التي قامت بها جمعيات في أميركا الجنوبية. أبرزها “فيدرالية أميركا الجنوبية لرابطة عائلات المختفيين/ات قسرًا”، عام 1981، للتذكير بضحايا الاختفاء القسري تحت حكم الديكتاتوريات.

ما يزال الإخفاء والاحتجاز القسري وسيلة في يد الأنظمة القمعية، لإنهاء النضال ضد الظلم وانعدام العدالة، ونشر الخوف والسيطرة.

عقاب النساء، مثل آلامهن، لا يؤخذ بجدية، بل ليس موضع اهتمام أو اعتراض، أو حتى تساؤل.

تاريخ الإخفاء القسري واستخدامه في العبودية والأبوية

يعود تاريخ استخدام الإخفاء القسري لقرون غابرة من التاريخ. إذ ظل وسيلة لقهر وإخراس واستغلال البشر، ولم يكن استخدامه حكرًا على الأنظمة السياسية، ولم يكن ضحاياه من المعارضة فقط. 

بنظرةٍ متفحّصة للتاريخ، نجد أن أكبر عميلة اختطاف وإخفاء قسري تمت عبر الزمن كانت بحق الشعوب الإفريقية. فهذه الشعوب تعرضت للاختطاف، ثم الاستعباد، لتبدأ واحدة من أسوأ الحقب التاريخية، محمّلة بآثارٍ عابرة للأجيال. حيث عاش ملايين منهن/م في أماكن بعيدة كليًا عن بلادهن/م، وتم عزلهن/م عن العائلات والمجتمعات التي ينتمين/ون إليها. ما ترتّب عليه فقدان لغاتهن/م وثقافتهن/م. ثم ولِدَت أجيال أخرى في استعبادٍ مخيف، يمحي ويطمس الإرث الثقافي والإنساني.

يُعد استعباد الشعوب الإفريقية في أميركا الشمالية أحد أبرز النماذج على تأثير الإخفاء القسري على البشر والجرائم التي ترتكب في حقهن/م جسديًا ونفسيًا وجنسيًا. فالاختطاف والإخفاء يعد حجرًا على الحرية، لكنه أيضًا عزل عن العالم، وعن أي وسيلة لكسر أغلال الاحتجاز.

من ناحية أخرى، يندر الحديث، خصوصًا في البلدان الناطقة بالعربية، عن الاعتقال المنزلي بحق النساء والفتيات، كمثالٍ على الإخفاء القسري. 

فرغم شيوعه بين مختلف بلدان المنطقة، ورغم أن حجر العائلات الأبوية على حرية وتحرك النساء يُعد سمة شائعة ووسيلة عقاب لكل مَن تتصرف خارج القواعد الأبوية، إلا أن الاعتراف بهذه الجريمة والحديث عنها ما يزال محصورًا ضمن الدوائر النسوية.

رغم الآلام والانتهاكات التي تصل للقتل، ولا تخلو من العنف اليومي والتجويع والحرمان من الحقوق، لم ينظر للاعتقال المنزلي على أنه جريمة. ولم يتم النظر إليه بوصفه إخفاءً قسريًا للنساء، بل مجرد “حق لرجال العائلة” بذريعة تأديب النساء أو الحفاظ عليهن.

ماهو الاعتقال المنزلي؟

الاعتقال المنزلي قديمٌ قدم النظام الأبوي نفسه. حيث كانت سرقة حرية النساء مرتبطة بتقييد حقهن في حرية الحركة والتنقل. لذلك، تم تشريع القوانين، وترسيخ العادات، للحجر على حرية النساء. كما تم سن العقوبات المجتمعية، للاستيلاء على حقهن في تقرير المصير، أو التحكم في حيواتهن وجنسانياتهن.

والاعتقال المنزلي هو احتجاز النساء والفتيات رغمًا عن إرادتهن في المنازل من طرف العائلة أو الزوج. أحيانًا، يتم تبرير هذه الجريمة بأنها حماية أو حق مكتسب للرجال في “تأديبهن”، لو وقعن فريسة للشك الأبوي في سلوكياتهن وأفكارهن ومعتقداتهن الشخصية.


يأخذ الاعتقال المنزلي أشكالًا متعددة. منها على سبيل المثال لا الحصر، الحجر الكامل ومنع الخروج من المنزل، وقطع كل صلاتهن بالعالم الخارجي. ويأخذ الفعل الأخير منحىً أكثر تهديدًا، مثل مصادرة هواتفهن ومنعهن من الدراسة أو العمل، وقطع تواصلهن مع الصديقات والمعارف. وتكون هذه الخطوة دائمًا عقابية، بعد الشك في مخالفتهن قواعد الذكورية المجحفة، أو لو قمن بالاحتجاج على الظلم داخل المنزل.

في وضعٍ مشابهٍ، هناك اعتقال منزلي جزئي، وهو النمط الأكثر شيوعًا. حيث يتم الحجر على حركة النساء والفتيات بمجموعة من القواعد التي تقيدهن بالمنزل حسب التوقيت والغرض من الخروج. فيخرجن للدراسة أو العمل، لكن يُمنعن من المخالطة الاجتماعية، والمناسبات والاحتفالات والترفيه. ويتم استخدام هذا النمط لإبقاء النساء في الحيز الخاص، فلا يتحركن إلا بمرافقة رجل من العائلة (أب، أخ، زوج)، وتكون دراستهن أو عملهن تحت الإشراف والمراقبة.

 

عندما تتحول المنازل إلى سجون ومعتقلات

منذ قرونٍ، يتم التطبيع مع اعتقال النساء والحجر على حريتهن داخل المنازل. فمثلًا، لا يتم السؤال بجدية حول اختفاء إحدى الفتيات عن متابعة الدراسة، لأن هناك إجماع أنها في “المنزل”. كما لا يكون غياب أي امرأة عن الحي مدعاة للقلق، إلا بين صديقاتها وجاراتها والقريبات منها. مع ذلك، يعد وجودها في المنزل مؤشرًا على “الأمان”.

هذا التوجه ساهم في تطبيع الحجر على حركة النساء وحريتهن ما دام أنهن متواجدات في البيوت. يحدث ذلك دون انتباه إلى الظروف التي يعشنها داخل المنازل، وخاصة التعنيف، وحرمانهن من الخروج ومزاولة أنشطتهن المعتادة خارجًا.

نفس ردود الفعل “العادية” يُقابل بها العنف الأبوي الصادر من العائلة أو الشريك. في مثل هذه السياقات، العنف شيء “معتاد”، ولا بدّ أن فعلًا قامت به امرأة/فتاة ما فاستحقت به هذا العقاب.

عقاب النساء، مثل آلامهن، لا يؤخذان بجدية، بل ليسا موضع اهتمام أو اعتراض، أو حتى تساؤل. فالتطبيع الكبير مع العنف الأبوي ساهم في تقبّل العنف ضد النساء، وإخفائهن نهائيًا أو حتى قتلهن.

في هذا الصدد، يتم استخدام الاعتقال المنزلي أيضًا للتستر على العنف الأبوي والاعتداء الجنسي وجرائم قتل النساء. فتبرير أن اختفاءهن داخل المنازل لا يعد مدعاة للخطر ساهم في شعور المعتدين بأريحية أثناء ممارسة العنف وحتى القتل، دون خوفٍ أو رادعٍ.

جدير بالذكر أن الاعتقال والحبس المنزلي، غير مرتبطٍ بوجود منزل ثابت أو دائم. حيث تتعرض المهاجرات إلى الحبس المنزلي داخل مساكنهن. كما تتعرض له اللاجئات في المخيّمات، والنساء من الطبقات المفقرة والعُليا. لكن يتم استخدام كلمات المنزل والبيت مجازًا، للتدليل على هذا النوع من الإخفاء القسري للنساء والفتيات.

اليوم، نضم أصواتنا لأصواتكن، في كل بيتٍ، داخل كل حجرةٍ، وعلى أسرّة الألم: الحرية لمعتقلات المنازل.

حراك معتقلات المنازل

لم تكن معتقلات المنازل بمعزلٍ عن الحراكات النسوية التي تناضل لأجل حرية النساء والمجموعات المهمشة. رغم غيابهن الجسدي، كن متصدراتٍ لهذا الحراك على وسائل التواصل الاجتماعي. كما كن حجر الأساس، لتحريك الرأي العام، والضغط على الأنظمة القائمة وتهديدها. تُعد النسوية السعودية المثال الأبرز لقدرة معتقلات المنازل على تحدي قسر الأبوية وجدران سجونها.

منذ 2015، ظهر حراك النسويات اللواتي يستخدمن الحسابات المجهّلة ويناضلن ضمن الحراك الرقمي في السعودية. وكان لهن الفضل في تحريك العديد من القضايا، ليس محليًا فحسب، بل إقليميًا ودوليًا أيضًا. حيث أصبحن الرقم السحري لإدخال القضايا النسوية حيز “التريند” في معظم الدول، وأخذن على عاتقهن هذه المهمة، حتى أضحين في الخط الأول للدفاع عن كل النساء.

خلف هذه الحسابات، نساء وفتيات بعضهن بالفعل معتقلات في المنازل، يتعرضن للعنف وسلب الحرية. ومع ذلك، استطعن تحريك عوالم بأكملها، للدفاع عن أنفسهن وعن غيرهن من النساء.

شاركتهن النسويات المصريات وأطلقن هاشتاج #الحرية_للمعتقلات_داخل_البيوت_المصرية، للتنديد بإبقاء النساء والفتيات حبيسات داخل المنازل.

في عام 2022، ظهر هاشتاغ #معتقلات_المنازل، للتعبير عن هذه القضية بلغة نسوية ووضعها على أرضية النضال. إذ كان الفضل للنسويات السودانيات اللواتي رفعن شعار “الحرية لمعتقلات المنازل” في المظاهرات، للتذكير بالنساء اللواتي حُرِمن من الخروج للشارع والمشاركة في الثورة.

ثم وضعت النسويات السعوديات والخليجيات إطارًا نظريًا وتنظيميًا لحراك “معتقلات المنازل”. وكان ذلك بهدف تسليط الضوء على قضاياهن باعتبارهن سجيناتٍ في عالمٍ أبويٍ لا يعترف بسجنهن ويُرمسِن السجّان.

لفتَ حراك معتقلات المنازل النظر إلى أفظع انتهاكات الأبوية التي سيّدت التمييز والاضطهاد الممنهج في السياسة والاقتصاد والمجتمع ووضعت النساء والفئات الجندرية والمجموعات المهمشة تحت سلطة القمع وانعدام العدالة. تلك الأنظمة صممت نظامًا كاملًا يقوم على سلب حرية النساء والفتيات، وتقييد حركتهن، وتعنيفهن، وعزلهن عن العالم.

إلى معتقلات المنازل: لن ننساكن

اليوم، يخلد العالم ذكرى ضحايا الإخفاء القسري. لكنه العالم نفسه الذي يرفض النظر إلى هذه القضايا بمنظورٍ تقاطعيٍ يعترف بأن السجون لا تقتصر على سجون الأنظمة السياسية القمعية. إذ توجد السجون في أكثر الأماكن التي تصوّرنا فيها الأمان والحماية: البيوت.

وبينما ننضم للعالم وهو يحصي ضحايا الأنظمة الديكتاتورية، نتوقف لنحصي شهيدات الغدر الذكوري من معتقلات المنازل. هؤلاء اللواتي تم تغييبهن، وسلب حريتهن أمام عالمٍ لم يتحرك لإنقاذهن من براثن الأبوية. باختصار مؤلم، لأن السجان هو رجال العائلة الذين تم منحهم وسام السلطة والحماية، رغم أن معظمهم متورطون في تعنيف وترهيب واعتقال النساء، وحتى قتلهن.

معًا، نتذكر ضحايا الإخفاء القسري من النساء اللواتي تعرضن للاعتقال المنزلي. النساء والفتيات اللواتي تم عزلهن اجتماعيًا وعاطفيًا وجسديًا، عقابًا على هوياتهن الاجتماعية، أولًا. ولأنهن كسرن قواعد الذكورية على تفاهتها، ثانيًا.

نتذكر كل من يتم تقييد حركتهن، فلا يخرجن إلا بإذنٍ أو مرافقٍ، ووجودهن في العالم الخارجي، تحت تهديد الاعتقال المنزلي باستمرار.

اليوم، نضم أصواتنا لأصواتكن، في كل بيتٍ، داخل كل حجرةٍ، وعلى أسرّة الألم: الحرية لمعتقلات المنازل.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد