وهم “العذرية” يحرم المصابات بالسرطان من حق الأمومة

“إذنٌ من القاضي الشرعي”. هذا ما طلبه طبيب ريم النسائي منها، قبل الموافقة على إجراء عملية تجميد بويضاتها، والسبب الوحيد هو “العذرية”.

فبسبب آلام البطن المستمرة، لجأت ريم ذات الثلاثين عاماً، في بداية أيلول/سبتمبر 2022 إلى طبيبٍ نسائي.

باشر الطبيب بإجراء فحوصاتٍ شاملة، تبيّن بعدها وجود كتلةٍ مستقرةٍ على إحدى المبيضين.

وبعد إجراء العملية الأولى، التي تم من خلالها استئصال الكتلة مع المبيض الأيمن بالكامل، اتضح أنها كتلة سرطانية خبيثة.

لم تكن ريم قد استفاقت من صدمتها بعد، ولم تتعاف بالكامل من آثار العملية الجراحية، حتى أخبرها الطبيب أن عليه إزالة المبيض الآخر مع الرحم، لأن السرطان انتشر فيهما أيضاً.

فتاة لم تتجاوز ربيع عمرها بعد، بالكاد بلغت عقدها الثالث، يتلاشى حلم الأمومة أمام عينيها.

في غمضة عين أزالوا مبيضها، وفي الغمضة التالية سيزيلون رحمها بالكامل، غير أنها قررت ألا تباشر في أي علاج أو جراحة إلا بعد تجميد بويضاتها.

فربما هذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ حقها في الأمومة.

لكن الامر لم يكن بهذه السهولة التي توقعتها، فبمجرد معرفة الأطباء/الطبيبات بأنها غير متزوجة و”عذراء” كانوا يترددون في القيام بأي أجراء طبي لسحب بويضاتها.

طرق إجراء عملية سحب البويضات لغير المتزوجة

“بالنسبة إلى النساء اللواتي يعانين من أمراضٍ جينية، أو أمراض تتطلب علاجاً كيماوياً أو إشعاعياً، فإن تجميد البويضات هو الحل المناسب للحفاظ على خصوبتهن، وإبقاء قدرتهن على الإنجاب”. هذا ما أكدته طبيبة الجراحة النسائية والتوليد مها الربضي.

إذ أوضحت، في مقابلة لـ”شريكة ولكن”، أن “عملية تجميد البويضات لها أكثر من طريقة. فيمكن سحب البويضات عن طريق البطن أو عن طريق المهبل”.

وقالت إنه “على الرغم من أن العملية عن طريق المهبل تعتبر أسهل من السحب عن طريق البطن، لكن في حالة غير المتزوجات، يلجأ الأطباء/الطبيبات، إلى إجراء العملية عن طريق البطن، حفاظاً على خدش إكليل المهبل”.

وأضافت أن “خدش إكليل المهبل أمر حتمي أثناء عملية سحب البويضات. لذلك، تفضل معظم النساء عملية سحب البويضات من خلال البطن، قبل البدء بأي علاجات كيماوية”.

إذ تؤثر هذه العلاجات على قدرتها على الإنجاب، وعلى وظائف المبيض، أو توقفه عن إنتاج البويضات، وقد تؤثر على كفاءة البويضات المُنتجة.

كما أشارت مها الربضي إلى أن “أي عملية داخلية للمرأة غير المتزوجة يتطلب من الطبيب أن يتم إجراء فحص قبل وبعد العملية من قبل طبيب شرعي بموافقة المريضة، حتى يخلي الطبيب النسائي مسؤوليته أمام القضاء”.

وأكدت أن “هذه العملية ما زالت مكلفة لبعض النساء، إذ تراوح كلفتها بين ألف وألفي دولار، وهو ما يجعل الكثيرات غير قادرات على إجرائها”.

تجميد البويضات

“موافقة من القاضي الشرعي”!

اضطرت ريم للجوء إلى المحكمة الشرعية لتحصل على “الإذن الشرعي”، الذي طلبه الطبيب قبل أن إجراء تجميد بويضاتها.

كانت كل دقيقة تمرّ بمثابة عدٍ تنازلي بالنسبة إلى الريم، وسباق مع الزمن لإنقاذ أمومتها.

وعلى الرغم من علمها بأن اللجوء إلى المحكمة الشرعية لأخذ أذنها في إجراءٍ طبي ذو خصوصية مطلقة ليس له أي معنى، بل يناقض حرية الانسان وحقوقه.

لكن ريم اصطحبت والديها إلى المحكمة الشرعية، وهناك تأكد الأمر لديها بأن حقها في الأمومة ليس له أي علاقة بالمحكمة.

فأكدت لهم المحكمة الشرعية أنها ليس لديها سلطة في هذا الشأن.

لم يكن الأمر إلا مزيداً من الوقت والجهد الضائع، ومزيداً من الضغوط والآلام، التي تقترب أن تفتك بريم وحياتها.

إلا أنها اقتربت من ذروة الإحباط واليأس حين طلب منها الطبيب التوقيع على ورقة تثبت إخلاء مسؤوليته من أي أعراض جانبية قد تتعرض لها أثناء عملية سحب البويضات، التي تشمل احتمال فقدانها للعذرية.

“خوف وخجل وإحباط ويأس، كل هذه المشاعر كانت مختلطة مع بعضها البعض حين كان الدكتور يتحدث مع والديّ عن عذريتي، كأنها أهم من صحتي ومستقبلي”!

هكذا وصفت ريم مشهد قيام الطبيب بشرح تفاصيل عملية سحب البويضات لوالديها، للتأكد من فهمهما الكامل بأن العملية قد تخدش إكليل المهبل، وبالتالي لن تصبح ريم “عذراء”، كما قال الطبيب.

رأي القانون

في مقابلة مع المحامية الشرعية إيمان أبو ذياب لـ”شريكة ولكن”، قالت إنه “لا يوجد نص قانوني في الدستور الأردني يطلب موافقة ولي الأمر للقيام بأي إجراء طبي”.

وأوضحت: “إلا أن الطبيب/ة مسؤول/ة كلياً أمام القضاء في حال تم توجيه له أي تهمة فيما بعد، لذلك يلجأ الأطباء/الطبيبات لتوقيع وثيقة لإخلاء مسؤوليتهن/م ليس فقط أمام القضاء بل أمام العائلة والمجتمع”.

وأضافت أن “هذا الإجراء يقع في صالح النساء أيضاً، كي لا تعرّض نفسها للمساءلة فيما بعد”.

هل المرأة مسؤولة عن جسدها بشكلٍ كامل؟

موافقة النساء على أي إجراء يختص بأجسادهن لا تقع عليها وحدها فقط.

فالمسألة لا تتعلق فقط بالـ”عذرية” الموهومة، بل هي وصاية على أجسادهن.

حتى عملية سحب البويضات للنساء المتزوجات، تتطلّب موافقة زوجها على إجراء العملية.

والسبب يعود إلى أن الإجراء الجراحي لا يتم، ولا يمكن الوصول إلى البويضات، إلا عن طريق المهبل.

“ما زلت مصابةً بالسرطان، لكن المهم أنني أملك ورقةً تثبت أنني فقدت عذريتي لسببٍ طبي وليس لسببٍ آخر”، هكذا قالت ريم وهي تضحك.

وأضافت: “بالإضافة إلى المرض والتعب والتفكير في احتمالية فقدان قدرتي على الإنجاب، في حال لم أجرِ هذه العملية في أسرع وقتٍ ممكن. لكنني ما زلت أُجري مفاوضات وأبحث عن موافقات، لأمرٍ يخصني وحدي فقط، بسبب كذبة العذرية”.

حكم تجميد البويضات

في جلسته المنعقدة في 21 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2017، أقر مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية الأردني بأن تجميد النطف، الحيوانات المنوية أو البويضات، التي تعتبر من المسائل المستحدثة نتيجة تقدم الطب وتطوره، أمرٌ مباح بالاستناد على قاعدتين شرعيتين عامتين، هما:

الأولى: “أن الأصل في التطبب والعلاج هو الإباحة والسعة”.

والثانية: “حفظ الأنساب من الاختلاط، ومراعاة حرمة عقد الزوجية”.

“فإذا التزم أصحاب النطف المجمدة بعدم تلقيحها إلا حال قيام الزوجية بعقد زواج صحيح، فلا حرج عليهن/م في اتخاذ هذه الوسيلة عند الحاجة إليها. وسواء سحبت هذه النطف وجمدت خلال العزوبة أو عقد زواج سابق، فليس ذلك بفرقٍ مؤثر، المهم أن حرمة التلقيح لا تُقتحم إلا في ظل عقد زواج صحيح عند التلقيح من قبل الزوجين”.

تجميد البوضات

حرمان من حق الأمومة

لا تختلف قصة ريم عن قصة ابتسام، التي اكتشفت إصابتها بسرطان المبيض في عمر الـ12، عام 2005.

تتذكر ابتسام كيف بدأ بطنها بالانتفاخ، ما دفع إحدى قريباتها للاستهزاء بالأمر، وأخبرت والدتها بأن تجري لها بعض الفحوصات “لتكون أبصر شو عاملة بنتك!”.

لكن بعد الفحص في مركز يُعنى بعلاج السرطان في الأردن، تم الكشف عن كتلة بحجم 12 سم  تستقر فوق أحد المبيضين، ما اضطر الطبيب إلى استئصال الكتلة مع المبيض بالكامل!

استمرت رحلة ابتسام مع مكافحة السرطان حتى عام 2019.

ومع استمرار العمليات بين الفترة والأخرى، واستئصال مستمر للكتلات التي تظهر عند كل كشف دوري تقريباً، احتفظت بجزءٍ كبيرٍ من المبيض الأيسر، ولم تخضع للعلاج الكيماوي نهائياً حتى تلك اللحظة.

في نهاية ذلك العام، ظهرت كتلة بحجم 3 سم في إحدى صور المراجعات، ومع استمرار أعراض أخرى مثل ازدياد ايام الحيض عن الاعتيادي، والتدفق بشكلٍ أكبر من المعتاد، راجعت طبيب أورام نسائي يعمل في المركز نفسه.

فأكد لها بأن الكتلة هي عبارة عن كيس ماء اعتيادي في الرحم.

“لا تتدلّعي، ليس سوى كيس ماء لا يؤثر على شيء، وسأكتب لك وصفةً لدواء ينظّم الدورة الشهرية والتدفق الكبير”.

هكذا تعامل الطبيب مع ابتسام، على الرغم من معرفته المسبقة بتاريخها الطبي.

لذلك، اضطرت إلى إجراء صور خارج المركز ليتبين بأن الكتلة أصبحت بحجم 12 سم، وأنها سرطانية، وتضغط على الحوض. وتؤثر على الأعصاب في المنطقة.

بعد ذلك، عادت ابتسام إلى المركز، وإلى طبيبها القديم الذي أمر بإعطائها أول جرعة علاج كيماوي على الفور.

حتى تلك اللحظة، لم تكن ابتسام متزوجة، وكانت في عامها السابع والعشرين فقط، لكن لم يُعرض اقتراح تجميد البويضات عليها نهائياً طوال تلك الأعوام.

إذ أخبرتنا أنه “لا يوجد بنك للنطف في ذلك المركز، على عكس المستشفيات الأخرى في الأردن التي تعالج السرطان”.

وبسبب ارتفاع كلفة عملية تجميد البويضات، لا يُطرح أمر هذه العملية على المصابات اللواتي يراجعن المركز بإعفاءٍ طبي غالباً.

العلاج الكيماوي يسبب العقم!

“يقولون للمريضة إن العلاج الكيماوي قد يسبب عقماً، لكن لا يقدمن/ون أي حلول بديلة، ربما يخافون من دفع كلفة التجميد من ضمن الإعفاء!”، قالت ابتسام وهي تكمل قصتها.

وبعد أن أكملت 4 جرعات مكثفة من العلاج الكيماوي، قرر الطبيب إجراء عملية لمحاولة استئصال الكتلة، بدلاً من الكيماوي، لعدم نجاحه.

وفي آب/أغسطس 2022، تزوجت ابتسام. لكن نسبة قدرتها على الإنجاب قليلة جداً، وقد تكون معدومة، بسبب ضعف مخزون البويضات لديها.

“احمدي الله أنك حيّة تريدين الإنجاب أيضاً”!، هكذا أجاب أحد الأطباء على تساؤل ابتسام عن عدم طرح فكرة تجميد البويضات عليها أثناء فترة علاجها.

وقالت: “قطعوا نسلي، كانوا بعرفون أن هناك حلولاً بديلةً ولم يخبرونني”!

فاللوصاية على أجساد النساء أشكال مختلفة، تفرض آراءها على حياتهن ومستقبلهن، وبسببها فقدت كثيرات حق الأمومة، بسبب اختلالات مجتمعية ووهم “العذرية”.

على الرغم من كل تلك المعاناة، إلا أن ابتسام تضع حتى اليوم آمالها كاملة على مخزون البويضات الضعيف لديها، الذي قد يمنحها هي وزوجها طفلاً/ةً.

أما ريم، فما زالت تكافح مرض السرطان، وتكافح معه خوفها مما ستتعرّض له بعد شفائها من نظرات المجتمع.

فنجاحها في حماية حقها في الأمومة سيجعلها فاقدة للـ”عذرية”، لكنها ما زالت متمسكة بالحياة.

كتابة: عائشة الغبن

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد