العمل المنزلي في رمضان.. تطبيع الاستغلال بحجة الثواب

اقترن العمل المنزلي عبر التاريخ بالكثير من التصنيفات والتقييمات التي ربطته بالطبيعة “الأنثوية” والحب والتضحية. واستثمرت في نجاح هذه الدعاية منظومات قوية وضخمة كالرأسمالية والأبوية.

فالعمل المنزلي يعد ركيزةً أساسية لاستمرار هذه الأنظمة، ووقودًا يدفع آلياتها الاستغلالية إلى الأمام.

يصعب أن ننظر إلى العمل المنزلي من دون أن نربطه بالسياق الاجتماعي والاقتصادي وحتى الثقافي الذي يتشكل فيه. فقد تتغير طرق الطبخ والتنظيف والرعاية من مجتمعٍ إلى آخر، لكن الثابت أنها تحولت منذ قرون إلى عبءٍ تتحمله النساء وحدهن بناءً على تقسيمات جندرية.

إفطار الصائم… أجر للنساء فقط

يتضاعف الاستغلال في العمل المنزلي كلما اقترن بقيم مقدسة كالطبيعة “الأنثوية” أو الواجب الأسري والتضحية. وفي السياقات الدينية يبدو من الصعب التفريق بين الدور المفروض اجتماعيًا والواجب الديني.

تسمع معظم النساء أثناء الطقوس الدينية، وخصوصًا في رمضان، أن مضاعفة العمل المنزلي وقيامها بمجهودٍ كبير في تحضير الطعام والتنظيف والرعاية هو دورٌ أساسي لخدمة سير هذا الطقس ومقدرة الصائمين على القيام بواجبهم الديني. فهي تنال أجر إفطار الصائم رغم أنها أيضًا صائمة!

وقد تنامى هذا الخطاب عبر التاريخ، ليصل اليوم إلى انتشار الآراء الدينية التي تقول بأن عمل النساء في المنزل هو في حد ذاته ثوابٌ يغنيها عن الفروض الدينية.

فما إن نبحث عن الآراء الفقهية حول عمل النساء حتى نتعثر بمئات الفتاوى، المستندة إلى أحاديث نبوية، التي تصوّر إطعام النساء للصائمين هو أجر وثواب.

تطبيع فقهي العمل المنزلي..  “قيام النساء بالطبخ للصائمين يعادل قراءتهن للقرآن”!

تخرج هذه الفتاوى من معظم المؤسسات الدينية الرسمية مثل الأزهر الذي أخرج علماؤه العديد من الآراء في الموضوع. منهم الشيخ أحمد علوان الذي قال بأن إعداد النساء الطعام لأهل بيتهن يدخل في أجر إفطار الصائمين.

إذ قال: “لو الزوجة لديها زوج وطفلين فهي تحصل على أجر صيام 3 أيام مع صيامها”.

كما شدد على أن “دعوة الزوج للأقارب والأصدقاء إلى الإفطار يزيد من الأجر”، دون مراعاة أن هذا “الأجر” يقوم على ظهور النساء فقط.

ويشير معظم الفقهاء إلى أن الرجال يقتسمون تعب إفطار الصائم ما دام أنهم المنفقون!

إذا كان في العمل المنزلي ثواب يعادل قراءة القرآن، فلماذا لا يقوم به الرجال؟!

كقول الشيخ السعودي خالد المصلح الذي ساوى بين إعداد الإفطار لساعات من قبل النساء، وبين شراء الرجال للاحتياجات. رغم أن ملاحظةً بسيطةً لكثيرٍ من أسرٍ إسلامية، لا تنتمي للطبقات الغنية، يبين أن النساء يعملن وينفقن داخل منازلهن، كما يقمن بالطبخ والتنظيف وإعداد الإفطار. لذا فأي “أجرٍ” يحصلن عليه يمر بثلاثية: الخدمة، الاستغلال و”التضحية”.

في جانبٍ مشابه، نشرت صفحة الأزهر رأيًا فقهيًّا يعتبر أن “قيام النساء بالطبخ للصائمين يعادل قراءتهن للقرآن”. ما أثار سخرية الكثير من النساء اللواتي لا تزال هذه المؤسسات تنظر إليهن بنظريةٍ دونية وتستهين بذكائهن.

فتتساءلت الكثيرات إذا كان في العمل المنزلي ثواب يعادل قراءة القرآن، فلماذا لا يقوم به الرجال؟! وإذا كان في تحضير إفطار الصائم أجر لماذا لا يتناوب عليه الجميع؟

ربّما نجد الإجابة في فتاوى استنسابية يوجدها الرجال لترقيع استغلالهم للنساء والفتيات. كالـ”فتوى” التي تروّج إلى أن “إفطار الصائم عبادة”، ويستثمرها الرجال لتطهير سلطويتهم ومنحها طابعًا إيمانيًا!

رجال غاضبون بسبب الجوع، ونساء سعيدات لتحضير الطعام!

تتشارك معظم النساء في السياقات الإسلامية تجارب متشابهة حول المجهود المضاعف في شهر رمضان، الذي يفترض أنه شهر عبادةٍ للجميع، بغض النظر عن نوعهن/م الاجتماعي.

إلا أن هذا الشهر يتحول بالنسبة إلى نساء العائلة إلى مناسبةٍ مثقلةٍ بالمسؤوليات وتنفيذ أوامر ورغبات الرجال. فيقفن لساعاتٍ طويلةٍ في المطبخ، ويتعرّضن لدرجات حرارةٍ عالية، حتى يقدمن مأدبةً تليق بـ”خواطر” الرجال.

في حين يعتبر الرجال أن صيامهم عن الأكل والشرب يستحق مكافأة. ويواجهون أي طلبٍ لخدمةٍ أو مساعدةٍ أو شراء مادةٍ ما بالتذمّر، بذريعة أنهم متعبون ولا يتحملون الحرارة في الخارج.

ويتكل الكثير من الرجال على الحديث القائل “نوم الصائم عبادة” فتراهم يشخرون حتى ساعات قليلةٍ قبل الفطور، ويستخدم الكثير منهم حجة عدم القدرة على التدخين لممارسة العنف والأذى. فلا تسلم منهم الواقفة في المطبخ والسائرة في الشارع، ويتابعون طقوس الأذى بتتبع النساء إلكترونيًا وتقييمهن والتهكم عليهن وإعطاء محاضرات ذكورية عن عدم احترام رمضان بسبب عدم ارتداء النساء للحجاب، وعن مجهودهم الكبير في غض البصر والامتناع عن التدخين!

بينما يجب على نساء العائلة، حتى أكبرهن سنًّا، أن يحافظن على هدوئهن ويقدمن خدمات الرعاية بحبٍّ وابتسامات، تتعالى أصوات الأطفال/الطفلات والرجال في مشاهد يصعب فيها التفريق بينهم/ن.

وبين هذا وذلك، على النساء أيضًا أن يعتبرن مهمة تحضير وجباتٍ متعددة، وبذل مجهودٍ إضافيٍّ في التنظيف، هو أمرٌ يستمتعن به ويجدن فيه الراحة.

فغالباً ما تتكرر على مسامع معظم النساء جملة “لماذا لا تضحكين؟ الابتسامة صدقة!”، بعد يومٍ طويلٍ من الوقوف في المطبخ.

سؤال يأتي دائمًا من أشخاصٍ يعتقدون أن الابتسامة هي جزء من الدور المنوط بالنساء، بل ويستنكرون أحيانًا تذمّرها من العمل المنزلي أو محاولتها أخذ قسطٍ من الراحة بعيدًا عنهم.

فمع تقديم الطعام يجب أن تقدم الابتسامات، لتعكس امتنانها على وجود العائلة ونعمة خدمتها! ويتجنبن بذلك الاتهام بالنكد، وتعكير مزاج الصائمين. إذ يجب عليهن أن يكن ممتنات لشكرٍ يقدمه رجال العائلة لهن، عوضًا عن المساهمة الفعلية في اقتسام العمل.

وصفاتٌ وتعليماتٌ بنكهةٍ ذكورية

لا يقتصر الأمر على الجلسات “الذكورية” الخاصة. فالجلسات العامة ومعها المحطات التلفزيونية والمنصات الإلكترونية التي تعيد إنتاج الخطابات الأبوية، تلعب هي الأخرى دورها في الترويج لثقافةٍ تستهدف تطويع النساء والفتيات.

نأخذ، على سبيل  المثال لا الحصر، التعليمات الموجهة خصيصًا إلى النساء، حول “عملهنّ المفترض” داخل المطبخ.

 


كالإعلانات والمقالات التي تتكلم عن “أسرع الطرق للمحافظة على نظافة بيتكِ في رمضان”، أو “كيف تحافظين على نشاطك في المنزل أثناء رمضان”، أو “كيفية القيام بالأعمال المنزلية دون تعب في رمضان”.

تعليماتٌ وتوجيهاتٌ مألوفة لدى النساء طيلة أيام السنة، إلا أن وطأتها تزداد في شهر رمضان، ضمن أطر وقواعد تضمن أن يظل العمل المنزلي عمل “أنثوي” وغير مقدّر.

وبين هذا وذاك، ينشر الرجال انتقاداتهم، وتصوراتهم عن الطبخ، في جلساتٍ تكاد لا تخلو من المبالغة في الحديث عن تعبهم في العمل خارج المنزل!

في حين تنتشر التنافسية بين النساء أنفسهن، كنتيجةٍ حتميةٍ لتطبيع العمل المنزلي وجندرته. فيتخطى التنافس إعداد الأطباق المتنوعة، إلى نيل ألقاب “الشرف” الذكورية. كالتنافس على صورة صاحبة السفرة المثالية.

تحضّرنا الأبوية لهذه الأدوار بطريقةٍ ممنهجة، من خلال تدريبنا على إظهار أننا قادرات على أن نكون “ربات منزل” مميزات. فنتهيأ لإظهار ثقافةٍ كبيرة حول الاهتمامات النمطية التي اقترنت بنا عنوةً، كالتفوق في الطبخ والنظافة.

وهي بالتالي الدليل على “شطارتنا” واستحقاقنا لـ”الأنوثة” في النظام الأبوي.

توقفوا/ن عن تطبيع التضحية

يندر الحديث عن التأثير النفسي الكبير الذي تتعرض له النساء في رمضان بسبب انعدام الاهتمام بهن أو النظر لهن خارج دور تقديم الرعاية والأكل.

فالمشكلة لم تكن يومًا في الرعاية، كفعلٍ حميمي واجتماعي أو شيء نقدم فيه الحب لمن نهتم بهم/ن. بل في كيفية تشكيلها بنيويًا وكيف تقدم لنا من خلال المؤسسات، بدءًا بالأسرة، ووصولًا إلى المجتمع والدولة وحتى المؤسسات الدينية والإعلامية.

المشكلة في تطبيع التضحية والاستغلال كجزء من طبيعتنا.

وفي تصوير تحضير الطعام كـ”عبادة” تخص النساء فقط. ناهيك عن جعل تعبهن ومجهودهن “عادة” طبيعية، لا يولي الرجال أي عناءٍ للاشتراك فيها!

وهنا تكمن أهمية العمل النسوي الرّامي إلى تفكيك أعمال الرعاية المجندرة كضرورة ملحة لكي ننقذ ما تبقى من إحساسنا ببعضنا البعض، وما تبقى من قدرتنا على العيش المشترك.

عاملات المنازل يتعرضن للاستغلال الأكبر

إن المعاناة من العمل المنزلي ليست جندرية فقط بل طبقية وعنصرية أيضًا.

فبدل إيجاد حلّ لمعاناة النساء من “تأنيث” العمل المنزلي والاستغلال الجندري في الرعاية، لجأت بعضهن إلى توظيف نساء أخريات يقمن بهذه المهمة “عنهن”.

فخلقن بالتالي سلطةً طبقية عرّضت العاملات المنزليات لاستغلالٍ وعنفٍ مضاعفٍ.

فالعاملات المنزليات لا يتحمّلن فقط أعباء العمل المنزلي المقسم وفقًا لهرمياتٍ جندرية، بل أيضًا العنف والأذى والاستغلال الطبقي الذي يجعل معظمهن بحكم “المستعبَدات”.

وفي رمضان يكون استغلال العمالة المنزلية مضاعفًا، خصوصًا في البلاد التي تطبّق نظام العبودية الجديد، المعروف بنظام الكفالة.

حيث يُفرض على العاملات ساعات عملٍ أطول، قد تمتد في رمضان من الإفطار إلى السحور. كما يتعرضن لسوء المعاملة بسبب انتشار العنصرية والطبقية والنظرة الدونية.

يجب أن تكون المناسبات الدينية مساحةً للروحانيات، لا لمفاقمة الأزمات والاستغلال والذكورية والاستثمار في التفاوتات الاجتماعية، وفي نشر قيم الاستهلاكية والمظاهر والطبقية.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد