حكايات لا تنتهي.. قص الشعر وفعل التخلص من القيود

عندما نتحدث عن قص الشعر، لا نجد قصة مأساوية أكثر من قصة عنايات الزيات. في إحدى الليالي عام 1963 وقفت عنايات أمام المرآة وأمسكت بمقصٍ وقررت قص شعرها. خصلة تلو الأخرى، حتى انتهت من قص شعرها بصورةٍ عشوائية. ثم خرجت إلى صديقة تسكن ذات الحي، لتجري حديثًا مقتضبًا قبل أن تعود إلى منزلها. كان ذلك آخر ما قامت به، قبل أن يكتشف الجميع انتحارها بعد ساعات.

ربما كانت هذه خطوتها اليائسة الأخيرة للمداواة. وكما في الأساطير القديمة، ربما اعتقدت أن الشر يكمن في الشعر. ربما أرادت أن تغيّر شكلها، أن تتحول إلى أخرى فتنسى ما حدث. تنسى رفض روايتها من دار النشر، واستحواذ زوجها على حضانة ابنهما، وشعورها بالاغتراب. 

من عنايات الزيات إلى نورا ناجي

كنت أقرأ (الكاتبات والوحدة – 2022)، وتأثرت بنورا ناجي وهي تحكي عن عنايات، وشعرَتْ بما يربطهما. انتابني شعور مشابه لنورا. عندما أعدت قراءة (في أثر عنايات الزيات – 2019). وإذا كان قص الشعر حاضرًا على لسان نورا في كتاباتها، فماذا يعني لها في الواقع؟

تقول: “عندما قرأت الجزء الخاص بقص شعر عنايات، أبلغت إيمان مرسال أن هذا الجزء كان له بالغ الأثر في نفسي. خاصةً عندما تخيلتها في المشهد، حركتها وذهابها لجارتها وعودتها للمنزل. أحب قص شعري. وهذا الفعل ليس مجرد تفضيل.

أشعر أنني أتخلص من ثقلٍ كبيرٍ عندما أقص شعري. حينما أبدأ عملًا جديدًا، أقوم بقص شعري. وعندما يصدر العمل، أكرر نفس الفعل. ولم ألحظ ذلك إلا في روايتي الأخيرة “سنوات الجري في المكان”. ارتبط الأمر -لاشعوريًا- لديّ بفعل التحرر. كي أستطيع الكتابة، أتحرر بالقص. وعندما يصدر العمل أتحرر منه بالقص أيضًا، حتى أستطيع البدء بعملٍ جديد”.

أتفق مع نورا أن الفعل ربما يمنحها شعورًا بالتحرر والتحكم بالذات. ربما يرجع ذلك إلى سيطرة المجتمع الأبوي على أجسادنا كنساء. فمنذ الطفولة، نكبر على أن الشعر “تاج النساء”، وأنه مصدر “جاذبيتنا للرجال”. فكم من طفلةٍ أرادت قص شعرها ومنعها الأهل بحجة أن النساء يجب أن يكن بشعر طويل. وكم من شابة تفضّل قص شعرها، لكنّ تعليقات التنمر المُلقاة في وجهها: “بقيتي شبه الرجالة”، قد تمنعها.

ربما هذا هو مربط الفرس ومغزى الحديث: ألا نكون “مثل الرجال”، ولو بالمظهر، ناهينا عن السلوك. يندرج ذلك كلّه تحت التصنيفات الجندرية لمظاهر وسلوكيات الرجال والنساء، والخط الفاصل غير المرن بينهما وغير المتسع لهوياتٍ أخرى. حيث يكون الشعر القصير مرادفًا للمظهر الرجولي، والذي وفقًا للمفهوم الأبوي، يجعلنا أقل “جاذبية”.

الشعر.. خطٌ فاصل بين الرجال والنساء

لم يخطر ببال أحدٍ أن تلك التنميطات، لا تؤثر فقط على النساء الراغبات في مظهر الشعر القصير. إذ تنعكس كذلك على النساء اللواتي يضطررن إلى قص شعرهن لأسبابٍ خارجة عن إرداتهن كالإصابة بالأمراض الوراثية، أو السرطان. بل يتم استخدام الشعر لقمع النساء. كم مرةٍ سمعنا عن طفلة/صبية/امرأة تم قص شعرها بهدف إهانتها؟ هذه الإهانة ترتكز أيضًا على التنميط الجندري الذي يزرع بداخلنا أن الشعر هو أحد أهم عوامل المظهر النسائي. وبالتالي، حين يتم قصه بالإكراه كعقابٍ، يتم نزع هذه الصفة عنّا.

 


في كتاب “الفلسفة والنسوية في فضح ازدراء الحق الأنثوي ونقضه والتمركز الذكوري ونقده”، والصادر عن “الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة”، نجد بعض التفسيرات. “يعتبر الجسد معيارًا أساسيًا يكرس من خلاله النظام الاجتماعي الهيمنة الذكورية.. وتساعد المهيمن عليها – أي المرأة – في تكريس السلطة الرمزية للهيمنة. وذلك من خلال قبولها الضمني لتأثيرها، […]، ويكون ذلك أكثر وضوحًا في علاقات القرابة”.

وبما أني من مواليد إحدى محافظات الصعيد، فقد عايشت هذا الاهتمام المبالغ فيه بالشعر. كانت جدتي تحرص  على “تمشيط” شعري والتباهي بطوله ولونه المتميز أمام الجميع في صغري. على النقيض، كنت منجذبة لقصّات الشعر القصيرة. الآن، ورغم استقلالي عن أسرتي وعائلتي، مازلت لا أستطيع قص شعري بسبب هذه الأفكار التي رسخت في ذهني.

قص الشعر والحق في الجسد

بعد أن نُنحي جانبًا قصات الشعر القصيرة كتفضيلٍ للمظهر، أو نتيجة لظروفٍ خارجة عن الإرادة والتنمر والتمييز ضد ذوات الشعر القصير. سنقف على قص الشعر كفعلٍ تلجأ له بعض النساء لتتمكن من الشعور بالسيطرة على جسدها. لا شك أن التنميطات الجندرية تلعب دورًا في المظهر والسلوكيات المفروضة على النساء والمتوقعة منهن. لكن بعضهن يخترن دحض هذه التوقعات عن بكرَة أبيها.

نقرأ كثيرًا عن نساءٍ وشابات قررن قص شعرهن بعد رفض الأسرة قرارهن بخلع الحجاب. ويأتي هذا الفعل تحديدًا للاستهزاء بالسلطة الذكورية التي توجب تغطية النساء لشعرهن تحت مسميّات متعلقة بالشرف والسمعة أو بالمعتقدات الدينية. فعندما يختفي الشعر، لا مجال للتناحر حوله كجزء من أجسادهن تتجلّى فيه السلطة عليها.

بعض النساء يلجأن لقص الشعر في حالات يشعرن فيها بالهشاشة، آملاتٍ أن يُعادلن شعور القهر الخارجي ببعض الأفعال البسيطة التي تسبب شعورًا جزئيًا باستعادة السيطرة على الأمور. وقد يتم اعتبار ذلك أمرًا مؤقتًا، لأن الشعر يتجدد وينمو عكس أطراف وأعضاء الجسد. إلا أننا لا نستطيع تجاهل رمزية تفرض نفسها في هذه الأثناء كفعلٍ للتخلص من شيء ثقيل، كما عبّرت نورا ناجي. السؤال الذي يجب طرحه الآن: لماذا يمثّل الشعر “عبئًا” يزول بالقص؟

إذا كنا تربينا على أن الشعر جزءٌ من هويتنا النسائية، فلا شك أن لذلك أثره على مشاعرنا تجاهه. بمعنى أن الشعر هو التجلي الأول للسلطة التي استأثرت بأجسادنا دون وجه حق، وفرضت نفسها علينا. فإن نحن واجهنا شيئًا يحاكي هذه السلطة من قريبٍ أو من بعيدٍ.. فأول ما يأتي في أذهاننا هو الشعر.

لا نريد أن نُضفي طابع رومانسي على فعل قص الشعر ونعتبره تحررًا بحد ذاته. إنما نحاول فقط تفكيك إحساسنا به ورغبتنا في التخلص منه وقت الأزمات.

هل يخلصنا قص الشعر من الشعور بالظلم؟

تقول “ن. م.”: “أحب شكل الشعر القصير، ولم يكن مسموحًا لي، لأن زوجي يحب الشعر الطويل. لكنني قصصت شعري مرتين. الأولى، كانت في 11 شباط/ فبراير 2011، يوم تنحي محمد حسني مبارك. قبل إعلان التنحي بساعاتٍ، كنت أشعر بالإحباط الشديد والضيق، وذهبت إلى الصالون وطلبت قص شعري على أمل تغيير مزاجي بعض الشيء”.

تستطرد: “أثناء قص الشعر، ورد خبر التنحي. حينئذٍ، خرجت أزغرد في الشارع سعيدة بالخبر، ولم أكمل قص شعري. واستمر لفترةٍ هكذا، حتى كان موعد زفافي. أما المرة الثانية، كانت بعد وفاة والدي، حيث وقعت بيني وبين زوجي مشادة وضربني لأولِ مرة”.

وقتها، قررت “ن. م.” الانتقام من زوجها عبر شعرها. إذ “خرجت أثناء نومه، وطلبت من الصالون قص شعري تمامًا مثل مجندي الجيش. بعد عودتي للمنزل، تشاجرنا مرةً أخرى، ليتفاجأ برد فعلي”. تتابع: “قلت له عندما ضربتني بالأمس، أمسكتني من شعري. وقد قررت أنك لن تستطيع إمساكه ثانيةً”.

ومن قهر الزوج إلى قهر الأهل والشركاء، كانت “و.ع” تحاول تجاوز كل ما مرَّت به. فهي من مدينة خارج القاهرة، وكانت تعيش في القاهرة كأي شابة مغتربة لتحقيق أهداف قررتها لنفسها بعد التخرج. وأثناء سعيها، اصطدمت بحائط الوالدين. إذ أرغماها على العودة إلى المنزل، بحجة أنها لم تحقق شيئًا من أهدافها بعد.

تحكي “و. ع.”: “قصصت شعري في تشرين الأول/ أكتوبر 2019.  في نفس الوقت الذي أرغمت فيه على ترك عملي في القاهرة، فقدت الشخص الذي أحببته وساندته. تعرضت للخذلان والخيانة. ومع عدم العمل والسجن داخل المنزل وضياع فرحة الخطبة، شبَّ حريق داخل قلبي. زادت الأعراض النفسية جسدي إرهاقًا وتعبًا. وأجريت عملية الزائدة الدودية وفقدت جزءًا كبيرًا من وزني، ما جعلني أشعر بكراهية لجسدي وشكلي. كما كرهت النظر في المرآة”.

وشرحت كيف ترجمت مشاعر الانتقام عبر قص شعرها.  فقالت: “في أولِ مرة عدت للوقوف أمام المرآة، قمت بقص شعري وكأنني أنتقم من الدنيا وما فعلته بي. كنت كأنني أقص هذه الأيام التي دمرتني من حياتي”.

قص الشعر من الفقدان إلى الراحة؟

تتعدد وجوه الفقدان. ربما رحيلٍ دائمٍ بالموت، أو رحيل بعد جرحٍ عاطفيٍ. وهذه الفتاة التي تحكي جزءًا من حكايتها مع قص الشعر، تجاوزت الرحيلين وأكملت مسيرتها.

تحكي “ف.م” : “كانت أول مرة أقص شعري في الصف الثالث الثانوي. كنت أعاني من حالة نفسية سيئة للغاية، بعد وفاة والدي مع ضغوط الثانوية العامة. ولذلك مكثت فترة طويلة أعاني من تعب جسدي ومنعزلة عمن في البيت. وعندما بدأت الخروج من هذه الحالة، شعرت أنني بمفردي وبحاجةٍ  للتخلي عن كل شيء. كان أول تغيير ألجأ إليه هو قص شعري. وعندما فعلت ذلك، تسرب لي شعورٌ ما بالراحة والخفة. بدأت اهتم بنفسي أكثر وبدراستي. وبالفعل، حصلت على الدرجات المناسبة والتحقت بالدراسة التي تمنيتها”.

عند الحديث عن شعور “الخفة والراحة”، يمكننا الوقوف على بعضٍ من أسبابهما. فبينما تربت أغلب النساء على أن الشعر هو جوهر مظهرهن النسائي، لم يذكر أحدٌ الطاقة والمجهود والوقت اللازم للعناية به. وتصل هذه العناية في بعض الحالات إلى حد الهوس، فقط لتتناسب مظاهرنا الخارجية مع رؤية العالم لما يجب أن نكون عليه كنساء. فبالتأكيد، عندما نقص شعرنا لأي سببٍ، نستعيد هذه الأوقات المسلوبة من حيواتنا في الاهتمام والعناية بالشعر.

بالإضافة إلى أن طول الشعر وحده، ليس العامل الوحيد. فالعناية بالشعر في عالمٍ يتسارع من أجل الربح ولو على حساب ثقة الأفراد في أنفسهن/م، لها شروطها الخاصة. فالشعر الطويل يجب ألا يكون مجعدًا. ولو كان مجعدًا، يجب أن يكون مهندمًا. وتتوالى الشروط التي تصل إلينا في الإعلانات والدراما والإنترنت، وندفع أوقاتنا وأموالنا وصحتنا النفسية لنتجنّب الوصم لو لم نفعلها، ويصلنا الوصم في كل الأحوال.

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد