
العنف الأبوي في المجال الخاص في مصر.. من المعنفين إلى السفاحين
تعرف مصر تزايدًا كبيرًا في مستويات العنف الأبوي في المجال الخاص، والذي يرتبط بلا شك بالعنف المؤسسي في المجال العام.
في هذا الصدد، نشرت مجموعة “براح آمن” النسوية تقريرًا حول جرائم العنف الأبوي في النصف الأول من 2024. توصل التقرير إلى أنه في هذه الفترة الوجيزة فقط حدث ما يقارب 410 حالة عنف في المجال الخاص بمختلف محافظات الجمهورية.
سياقات تُفاقم العنف
في هذا السياق، تنبّأ التقرير بأن عام 2024 قد يشهد ارتفاعًا مهولًا لحالات العنف الأبوي، وذلك من خلال وضع هذا العنف ضمن السياق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للبلاد. ما يساهم في خلق حالات من الاضطهاد والاستهداف والاعتداء والاستغلال.
ولفت التقرير إلى وجود علاقة طردية بين ارتفاع نسب العنف الأبوي والحالة الاقتصادية التي تعرف ركودًا وارتفاعًا مهولًا في الأسعار ونسب التفاوت الطبقي.
هذا المتغير يجعل نسب العنف الأبوي ترتفع بشكلٍ أكبر، حيث تكون النساء والفتيات والفئات الجندرية الهشة عرضة للعنف وتفريغ الغضب والاستياء من النظام الاقتصادي غير العادل.
لاحظ التقرير أيضًا وجود ارتفاع في حدة الكراهية ضد اللاجئات/ين وخطاب معاداة الأجانب والتضييق الأمني والاقتصادي. ما يؤثر بدوره على أمنهن، ويعرّضهن بشكلٍ أكبر لنسب العنف الأبوي في المجال الخاص من طرف الشريك أو الأهالي تحت تبرير التنفيس عن الغضب وعكس العنف الذي يواجهونه في الخارج.
كما أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في نسب القتل القائم على النوع الاجتماعي، والمبرر بذرائع الحب وحماية “الشرف الذكوري”. الأمر الذي انتقل ليؤسس ظواهر مركبة من الجريمة المنظمة ضد النساء. لعل أبرزها وأكثرها وحشية هو قتل النساء من قبل سفاحين مثل سفاح التجمع، وقضايا كانت النساء فيه ضحية للحرق من طرف الآباء، والذبح من طرف الأخوة والشركاء.
من ناحية أخرى، فإن سياقات العنف المختلفة التي تعرف مزيجًا من العنف الجسدي والجنسي والنفسي والاقتصادي والقانوني والسياسي والديني وغيرها، والتي تنبع من ثقافة أبوية متجذرة، تشجع الأجيال الصاعدة على ممارسة العنف ونقله نحو صور جديدة ووحشية.
تحليل جرائم العنف
من خلال استخدام منهجية كيفية لتحليل البيانات من منظور نسوي، قام فريق البحث الخاص بمجموعة “براح آمن”، بتحليل ورصد الجرائم التي ارتكبت من جناة أنتجهم النظام الأبوي في مختلف السياقات الجغرافية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية بمصر.
بعد تفريغ بيانات جرائم العنف والقتل ضد النساء في المجال الخاص بمصر، وصل التقرير للاستنتاجات التالية:
نسب الجرائم على مستوى جغرافي
سجل التقرير رصد حوالي 410 جريمة في 16 محافظة من أصل 27 بجمهورية مصر، خلال النصف الأول من 2024.
ومن أبرز المحافظات التي تغيّبت للعام الرابع على التوالي عن الرصد، محافظة جنوب سيناء. إذ تكرر غيابها بشكلٍ كامل في رصد أعوام 2023 ،2022 و2021. كما أن محافظتي مطروح والوادي الجديد على أعتاب أن يتغيبوا عن الرصد للعام الثالث على التوالي.
ويذكر أن غياب تلك المناطق لا يعني عدم وقوع جرائم عنف بها، وإنما لوجود سياق مختلف، جرّاء وضعها الأمني، وضعف التغطية الإعلامية بها، وكذلك خضوع ساكنيها/ساكناتها للسلطة القبلية، التي تلعب دور كبير في عدم وصول صوت النساء المعنفات هناك للجهات المعنية.
بحسب التقرير، تم رصد حوالي 100 جريمة بدون ذكر اسم المحافظة. وتصدّرت محافظات القاهرة الكبرى، أكبر عدد الجرائم المرصودة بترتيب 259 جريمة (الجيزة: 147، القاهرة: 108، القليوبية: 4).
وجاءت محافظات الصعيد في المرتبة الثانية، حيث تم رصد 30 جريمة ( سوهاج 15، المنيا، 7، أسيوط، 1، الأقصر 2، قنا 5).
وجاءت محافظات الدلتا في المرتبة الثالثة، بـ 11 جريمة (الشرقية 4، الغربية 6، كفر الشيخ 1).
ورصدت جريمة واحدة في محافظات القناة وكانت في السويس. بالإضافة إلى 4 جرائم في إقليم الإسكندرية ( البحيرة 3، الإسكندرية 1).
ووجدت جريمتان في المحافظات الحدودية في البحر الأحمر. كما استمر غياب محافظات مطروح وجنوب سيناء والوادي الجديد.
وأشار التقرير إلى أن أكثر من نصف الجرائم الأبوية المرصودة ارتكبت في هذه المحافظات نتيجة للمركزية وكثافة التغطية الإعلامية. لكنه يرجح أن تكون نسب العنف مرتفعة في باقي المنطقة أيضًا، والسبب في عدم وجود نسب عنها يعود لثقافة الصمت الأبوية التي تُفرض على الضحايا.
الخط الزمني لجرائم العنف الأبوي
لاحظ التقرير أن جرائم العنف الأبوي توزعت على كافة الشهور، بواقع 92 جريمة في كانون الثاني/ يناير، ويليه نيسان/ أبريل بـ77جريمة، وآذار/مارس في المرتبة الثالثة بـ 67 جريمة.
ورصد التقرير خلال النصف الأول من العام، عدة جرائم أثناء شهر رمضان والأعياد بحق النساء بالمجال الخاص.
وسجل شهر رمضان حوالي 77 جريمة والأعياد والإجازات الرسمية رصدت فيها جريمة واحدة، وتعتبر تلك الأرقام وبالأخص المتعلقة بشهر رمضان مرتفعة للغاية مقارنة بالعام 2023.
أنواع العنف في المجال الخاص
لاحظ التقرير أن جرائم العنف الأبوي في المجال الخاص تعرف تنوعًا، حل فيه العنف الاجتماعي بالمرتبة الأولى بواقع 223 أي نسبة 33.6% من أصل 410 حالة عنف، تنوعت بين الطرد والحبس المنزلي وتعدد الزوجات والحرمان من الأبناء، وتشويه السمعة…
وجاء العنف الاقتصادي في المرتبة الثانية، بواقع 212 جريمة أي حوالي 32%. وكان الامتناع عن الانفاق أكثر الانتهاكات رصدًا بواقع 116 جريمة، توزعت بين الاستيلاء على الممتلكات 92، نفقة الأبناء 53.
وسوف تزداد نسبة هذا العنف بمعدل مرتفع للغاية السنوات المقبلة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور للبلاد، بحسب التقرير.
أما العنف الجسدي فجاء المرتبة الثالثة، بواقع 200 جريمة أي حوالي %30.2.. وكان الضرب أكثر انتهاكٍ تم رصده بواقع 62 جريمة، والقتل 49، الضرب المبرح 42، والشروع في القتل 13.
جاء العنف الجنسي والإنجابي في المرتبة الرابعة بواقع 16 جريمة أي حوالي 2.1%. وكان الاغتصاب أكثر الانتهاكات رصدًا بواقع 12 جريمة، ويليه الابتزاز الجنسي بواقع 4 جرائم.
ثم كان العنف النفسي في المرتبة الخامسة بواقع 12 جريمة، وكان الانتحار أكثر الانتهاكات رصدًا بواقع 10 جرائم، ويليه التلاعب النفسي بواقع جريمتين.
من هن ضحايا العنف الأبوي؟
من خلال رصد جرائم العنف الأسري في مصر خلال النصف الأول من العام الجاري، رصدت مجموعة براح آمن أن الفئات المعرضة لهذا العنف هي الشريكة بنسبة 80,2% ، الإبنة 5,6% ، الأخت 1.7% .
الفئة العمرية لضحايا العنف الأبوي
سجل التقرير أن النساء والأطفال/الطفلات من مختلف الفئات العمرية معرضات للعنف الأبوي، ولكن معظم الجرائم لا يتم ذكر عمر الضحية فيها.
وحسب ما توصل له فريق البحث فإن جرائم النصف الأول من هذه السنة استهدفت الفئات العمرية التالية:
الفئة العمرية ( 11-20) سجلت 29 جريمة ( 7.1%).
الفئة العمرية ( 21-30) سجلت 18 جريمة ( 4.4%).
الفئة العمرية (31-40) سجلت 19 جريمة ( 4.6%).
الفئة العمرية ( 0-10) سجلت 11 جريمة ( 2.7).
الفئات العمرية ( 41-50) سجلت 7 جريمة ( 1.7%).
الفئة العمرية ( 51 وأكثر) سجلت 5 جريمة (1.2%).
خلاصات واستنتاجات
إن التقارير والبحوث التي ترصد معدلات العنف الأبوي عادة ما تغطي مساحة محدودة. يأتي ذلك نتيجةً لسيطرة النظام الأبوي على مختلف منافذ البنى السياسية والاجتماعية، وفرض ثقافة الصمت ولوم الضحية لتطبيع هذه الجرائم وجعلها جزءًا من التركيبة الأساسية للمجتمعات.
رغم ذلك تكشف النسب المحدودة المتوصل إليها من خلال رصد الجرائم الأبوية المعلن عنها، عن وضعٍ خطيرٍ ينذر بفرض مزيدٍ من الموت والعنف والاضطهاد على النساء والفتيات.
في ظل السياق، ينتقل العنف الأبوي عبر عدة مراحل، وينتج ظواهر جديدة من العنف تتجه شيئًا فشيئًا للجريمة المنظمة التي تهدف للانتقام من النساء.
في هذا الصدد، فإن قيام عالمنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على المنظومة الأبوية، ساهم في إنتاج رجال معنفين ومعتدين يمتلكون صلاحيات مطلقة لترويع وتعنيف النساء.
وأدى هذا مع مرور الزمن إلى تفشي العنف المركب وتنوعه وتعاظم قوة هؤلاء المعنفين، ليتحولوا بدورهم إلى قتلة يسلبون حياة نساء العائلة والمجتمع ثم إلى قتلة متسلسلين يستهدفون النساء بنمط إجرامي دقيق ووحشي.
تظل الأرقام والنسب المهولة لوباء العنف الأبوي تمر مرور الكرام، في نظام سياسي واجتماعي يضع حياة النساء والفئات الجندرية والعمرية الهشة تحت الخطر ، ويتعمد ترويعهن/م بهدف بسط السيطرة والهيمنة الأبوية والاستبدادية.