“أعيدوا لي شعري”.. طفلات ونساء من غزة أفقدتهن الحرب شعرهن
نساء في غزة يقصُصن الشعر لأسباب مختلفة عن غيرهن ممَن لا يعايشن الحرب. كيف لا يكون كذلك، وهنا تقص الأم شعرها أو شعر ابنتها بأي آلة حادة تجدها. لا يهُم نوع القصَة أو شكلها أو اسمها، فبعضهن حلقن شعر بناتهن بالكامل.
المهم هو محاولة حل سلسلة من المشكلات، تبدأ بعدم توفّر المياه وتنتهي بتغلغل القمل في شعر النساء والطفلات/الأطفال على وجه الخصوص. كلها مشكلات خلقتها الحرب الطاحنة في غزة، والتي راح ضحيتها أكثر من 40 ألف فلسطيني وفلسطينية حتى اليوم.
“نستحم كل أسبوع إلى أسبوعين حسب توفّر المياه، ولا يوجد خصوصية مطلقًا. كأننا نستحم في الشارع”.
المسكوت عنه.. عدوى القمل في مخيّمات النزوح
تنزح فدوى ذيب شبير، 40 عامًا، أم لابنتين وولد، حاليًا في مواصي خانيونس، عن بيتها المهدم في حي الشيخ رضوان بغزة. توضح فدوى أن شعرها وشعر ابنتها اهترأ بسبب سوء التغذية وقلة النظافة، والحرارة المرتفعة، واضطرارها لارتداء “منديل الصلاة” ليلًا ونهارًا. دفعها ذلك إلى قصّ شعرها والتخلص منه، حتى تخفف أيضًا من كمية الشامبو المستعمل أثناء الاستحمام.
“لا تصوريني”، ثم تبكي، هكذا تعبر الطفلة صبا، 12 عامًا، عن حزنها بسبب قيام والدتها بقص شعرها. “كان شعرها طويلًا”، تقول والدتها فدوى، تتنهد ثم تتابع: “زعلت كثير لما قصيتلها اياه”.
ظاهرة قص الشعر في غزة، ظهرت جليًّا في الآونة الأخيرة، نتيجة انعدام المياه وقلة فرص الاستحمام والنظافة، وانتشار القمل. هذا بجانب ظروف أخرى كثيرة تعاني منها النساء خصوصًا، بينها انعدام الخصوصية واضطرار المحجبات إلى ارتداء الحجاب على مدار الساعة. أما السبب، فهو أن الخيم “شفافة”، ويمكن أي شخص يمر بجانبها رؤية ما بداخلها، كما أكدت لنا النساء اللواتي قابلناهن.
ورغم كون الحديث عن قص النساء في غزة شعرهن، يبدو رفاهية في ظل الحرب المندلعة منذ السابع من أكتوبر، إلا أن فحواه يعكس حجم الثمن الذي تدفعه النساء يوميًا نتيجة الحرب والنزوح والقصف المستمر وانعدام مقومات الحياة.
تسببت الحرب ونقص المياه بانتشار القمل في الرؤوس، في ظل غياب لأي أرقام أو إحصائيات تعكس حجم المشكلة حاليًا. إذ لا تتمكن الفرق الصحية، سواء في المؤسسات الحكومية أو الأهلية، من معرفة مدى انتشار هذا المرض.
لا أحد يحسب عدد الساعات التي تقضيها النساء وهي تنظف شعر بناتهن وأولادهن من الحشرات “القمل”، الذي أصبن/أصيبوا به جرّاء عدم توفر مواد التنظيف، وقلة المياه وانتشار حشرات الرأس بين العائلات النازحة وخصوصًا الفتيات.
نساء غزة تستحم في الشارع
“نستحم كل أسبوع إلى أسبوعين حسب توفّر المياه، ولا يوجد خصوصية مطلقًا. كأننا نستحم في الشارع”.
تشرح فدوى كيفية إيجاد مكان للاستحمام فتقول: “نربط قطعتين من القماش في أي مكان فارغ بين الخيم. نبحث عن خشبة أو أي شيء من بقايا البيوت المدمَّرة للوقوف عليه، كي نقي قدمينا من حر الرمال”.
وتتابع: “جميع الخيم متلاصقة ببعضها البعض. نفكّر ألف مرة قبل أن نستحم، حتى لو توفرت الإمكانيات والمياه لذلك، فهل سهل على النساء أن تستحم في الشارع؟”.
وأشارت شبير أن ارتفاع أسعار مواد التنظيف أيضًا يقف عقبة في وجه النظافة الشخصية. يصل سعر علبة الشامبو الواحدة إلى أكثر من 30 دولار، وسعر قطعة صابون غسل الأيدي الواحدة 5 دولار. وهذا في حال توفرت في السوق، فهي شبه مقطوعة في الفترة الحالية.
أصدرت منظمة اليونيسف بيانًا صحفيًا تقول فيه: “ببساطة، لا تتوفر في قطاع غزة الظروف اللازمة لتمكين استجابة إنسانية قوية. ويجب أن يكون تدفق المساعدات سلساً دون عوائق، وأن يكون الوصول إليها منتظماً وآمناً”.
“منذ نحو تسعة أشهر، تدخل المساعدات إلى غزة قطرة فقطرة، ويحُرم المدنيون/ات من الإمدادات. لقد دُمّر القطاع التجاري. أدى ذلك إلى تزايد المنافسة على القليل المتاح للبيع، وتهريب البضائع إلى قطاع غزة، والآن أيضاً إلى تزايد النهب المنظم لإمدادات المساعدات. وهذا يعيق جهودنا للوصول إلى الأسر الضعيفة، كما يعرض فرقنا والمدنيين الذين ندعمهم للخطر”.
أعيدوا لي شعري
فدوى ليست الوحيدة التي واجهت هذه المشكلة. عبير وعائلتها أيضًا تعاني من انعدام مواد التنظيف وارتفاع أسعارها. فكان الحل الأفضل بالنسبة لها قص الشعر.
تقول عبير: “في البداية قصصت شعر طفلتي، ومن ثم قصصتُ شعري. فعلت هذا لتفادي حشرات الرأس، التي أصبحت وباءً متفشيًا في مخيمات النزوح”.
تعيش عبير أزمات أكبر بكثير فرضتها عليها حياة الحرب والنزوح. بات الأثر النفسي لقص شعرها صغيرًا جدًا، مقارنةً بالمعاناة اليومية التي تعيشها بلا هوادة.
بينما كان أثر ذلك أكثر إيلامًا في نفس طفلتها الصغيرة ذات الشعر الأسود الطويل، كما وصفته عبير. “كان رد فعلها سيئًا جدًا. بكت طوال اليوم، وظلت تقول أعيدوا لي شعري”.
تعقب عبير: “لم يكن الأمر بيدي. اضطررت لفعل ذلك حتى أنظّف شعرها من القمل، وحشرات الرأس، وأنبني ضميري كثيرًا. لستُ «أمًا سيئة»، ولكن هذا ما فرضته علينا، نحن الأمهات. وهو ما يصعب على أطفالنا وطفلاتنا تفهّمه أحيانًا”.
رجال “هجّوا” ونساء لا يستطعن الهرب
فتحت قضية قص الشعر في غزة الباب على مصراعيه، لنعرف ما تعيشه النساء من مشاكل يومية داخل أسرهن بعد النزوح.
رجال كثيرون تركوا العائلات والطفلات/الأطفال في الخيام و”هجّوا” باللهجة الفلسطينية – أي هربوا. فيما ظلت الأمهات تقاوم وتناضل، لعلّ شمس انتهاء الحرب تشرق ذات صباح.
“نحن النساء لا نستطيع الهرب. لا يمكننا الانكسار والانهزام. دواخلنا تموت وتتحطم، ولكننا مضّطرات أن نبقى «قويّات» أمام أطفالنا وطفلاتنا.
بعد هروب بعض الرجال واستشهاد الكثير منهم، أصبحنا نعيش أزمات متفاقمة. لكننا نصارع للبقاء ونتمسّك بالحياة. على الأقل، نمنح الأمل للصغار/الصغيرات”، تقول هيلانة مصلح. هيلانة هي أخصائية نفسية من غزة، تعايش آلام النساء وتستمع إلى مشاكلهن بشكلٍ يوميٍ.
القمل يكثّف تأنيث أعمال الرعاية
وصفتْ هيلانة انتشار وباء القمل في غزة، بـ “الكارثة الحقيقية” التي تسببت بصدمة نفسية خصوصًا للأمهات. ذلك لأن تنظيف أبنائهن وبناتهن يقع على عاتقهن بشكلٍ خاصٍ، بسبب تأنيث أعمال الرعاية.
تقول: “نحاول أن نهتم بأطفالنا/طفلاتنا ونبقيهم/ن على نظافة، حتى في ظل الحرب. ولكن الأمر أصبح صعبًا جدًا، وشبه مستحيلاً. فالقمل عدوى تنتقل من شخصٍ إلى آخر، والاكتظاظ شديد في مخيمات النزوح. وبالتالي، لا يمكن لأي أم أن تحمي أطفالها/طفلاتها طيلة الوقت.
وحول الأثر النفسي لقص الشعر على الطفلات، قالت: “الشعر بالنسبة لهن مهم جدًا. إجبارهن على قصه يجعلهن في قمة الوجع، ويجعلهن يشعرن أنفسهن «معيوباتٍ»، أو مختلفات عن غيرهن. كما أنه يفتح مجالًا للتنمّر”.
لا يمكن الحديث عن ظاهرة قص الشعر في غزة، دون التطرّق إلى نمطية الشعر الطويل للنساء في النظام الأبوي الذي استمد قوته من إحكام السيطرة على أجساد النساء ورغباتهن.
فقد استطاعت الهيمنة الذكورية على مدار عقود طويلة تكريس هذه النمطيات، مثل الشعر الطويل، وترسيخها في الأذهان. فأصبحت كل مَن لا تلبي رغبات أو توقّعات المجتمع، تعاني من النبذ المجتمعي.
الحرب رفعت معدلات التنمّر والعنف الأسري
يبدو أن الويلات التي يعيشها الناس في غزة، والمعاناة الجمعية نتيجة الحرب، لم تمنع ظاهرة التنمر أو تحدّ منها. على النقيض، فإن تلاصق الخيم بجانب بعضها البعض وفقدان الخصوصية، والاختلاط الكبير الذي تشهده مخيمات النزوح جعل من هذه الظاهرة أكثر شيوعًا وانتشارًا.
أصبحت الجروح أكثر ألمًا في نفوس أصحابها، والمشكلات داخل البيوت، أصبحت مدعاة للتنمّر، على الأفراد والعائلات. وهو ما يمكن تصنيفه أحد أشكال العنف الأسري الذي تفاقم خلال الحرب على غزة.
حول هذا الموضوع، تؤكد هيلانة مصلح أن الحرب ضاعفت من حجم المشاكل الأسرية وفتحت المجال لزيادة العنف داخل الأسرة. وقد استمعت لشكاوى العديد من النساء حول تعرضهن للعنف من قبل أزواجهن أو آبائهن خلال الحرب.
كما أكدت الأخصائية أن الكثير من الأطفال/الطفلات في غزة لديهن/م أعراض نفسية ظاهرة عليهم. يعانين/ون من خوف شديد، وتبول لاإرادي وتفكير زائد، ولديهم/ن مشاكل سلوكية، بسبب التنمّر من ناحية، ومعايشة مناظر الفقدان والدم والأشلاء بشكل يومي ومستمر، من ناحية أخرى. هذا بالإضافة إلى تزايد وتيرة العنف الأسري.
وعن كيفية التعامل مع الأثر النفسي للحرب وأبعادها على الأطفال/الطفلات، أوصت مصلح الأمهات بأن تحاول احتضان أطفالهن/طفلاتهن ودعمهم/ن والحديث معهم/ن و طمأنتهم/ن. وفي نفس الوقت، محاولة تعزيز ثقتهم/ن بأنفسهم/ن، لأن الضرر النفسي لكل ما يعيشه الأطفال/الطفلات أثناء الحرب خطير ومرعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
نساء في غزّة يبدأن مجموعات دعم وتضامن
أما بالنسبة للأمهات، فقد أشارت هيلانة التي تعمل في مؤسسة دولية تحاول مساعدة الناس على تجاوز الأزمات التي خلقتها الحرب، أن الأمهات لديهن أعراض اكتئابية. وهن عاجزات ويائسات، وحزينات ويقع على عاتقهن عبء الرعاية في ظروفٍ لاإنسانيّة. الأزمة تفوق طاقة البشر.
التفكير بالمجهول وبالموت بشكل مستمر، خلَّف آلامًا جسدية لدى النساء. يعانين من أعراض “نفس-جسدية”، أسبابها في الأصل نفسية، مثل الصداع والدوار والرجفة “ارتعاش” وارتفاع في الحرارة، وفقدان التركيز وأرق مستمر.
وأكدت هيلانة أن الضغط النفسي على الأمهات تداعياته تنعكس على العائلة بأكملها، بسبب عبء الدور الرعائي والنوع الاجتماعي. ومع الأسف، الناس تستخف بمشاعرهن، ولا تتسامح معها ولا تسمح لهن حتى بالبكاء، وتصمهن بالضعف وقلة الحيلة.
لاحظت مصلح أيضًا أن عوامل الهشاشة بين النساء تختلف من امرأة لأخرى. فبعضهن محاطات ببيئة داعمة وعائلة متماسكة. وبعضهن ترتفع لديهن عوامل الهشاشة والخطورة، ما يؤدي لإصابتهن بمشاكل نفسية.
وتوصي الأخصائية النفسية بضرورة مراعاة الناس لمشاكل بعضها البعض، وأن يتحدثوا/ن مع بعضهم/ن. وبيّنت أنه من خلال حلقات الدعم والتفريغ النفسي في مؤسستها، يحاولون/ن القيام بهذا الدور، رغم شُحّ الإمكانيات وثقل الاحتياجات.
ونتيجة للظروف التي تمر بها النساء، تشكّلت مجموعات نسائية داعمة، بين أخصائيات نفسيات واجتماعيات وصحافيات لا يشاركن حاليًا في تغطية الحرب. يلتقين للتفريغ عما في دواخلهن، للبكاء وإظهار الضعف دون مقيدات وضغوط. يحاولن الحديث عما حصل وعن هواجسهن وتخوفاتهن مما هو قادم. يدعمن بعضهن البعض، للخروج من الأزمة التي يعشنها.
شبح العنف الجنسي يحوم في الأفق
تتابع هيلانة مصلح الأخصائية النفسية أنه خلال جلساتها مع النساء، عبّرت الأخيرات عن خوّفهن من تعرّض بناتهن للتحرش أو العنف الجنسي.
في ظل الحروب والأزمات والكوارث، ترتفع معدلات تعرُّض النساء والأطفال/الطفلات لجرائم العنف الجنسي. وهو ما يثير القلق والخوف لدى الأمهات على أطفالهن والطفلات خصوصًا.
في بيان سابق صدر عن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، قال إن العنف الجنسي أصبح أسلوبًا قاسيًا من أساليب الحرب والتعذيب والإرهاب والقمع الذي “يُرهب السكان ويدمر الأرواح ويقسم المجتمعات”.
من جانبها، قالت ناتاليا كانيم، رئيسة صندوق الأمم المتحدة للسكان، إنه “عندما تبدأ الحروب، يبدأ الإرهاب والدمار الناتج عن العنف الجنسي.” وأوضحت أن أجساد النساء والفتيات تتحول إلى ساحات قتال.
“يتم استخدام الاغتصاب كسلاح حرب، تمامًا مثل القنبلة التي تنفجر في مبنى، أو الدبابة التي تخترق حشدًا”.
فدوى وعبير وغيرهن من النساء في غزة، ينتظرن بفارغ الصبر بيان انتهاء الحرب، وانعكاس الشمس على بحر غزة. ليعلنّ انبعاث الأمل من جديد، واستمرار الحياة والحلم بغدٍ أفضل. ينتظرن أن يشع النور في قلوبهن من جديد، ويستكملن حياتهن من حيث توقفت في السابع من أكتوبر.
ستلملم النساء في غزة جراحها.. ولو بعد حينٍ. ولكن لتتوقف الحرب أولًا، يطلع فجر الثامن من أكتوبر.
تحقيق: وفاء عاروري